أزمة الثقة في العالم العربي
أزمة الثقة في العالم العربي
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
كثير من الأزمات التي يتخبط فيها العالم العربي والإسلامي سياسية كانت أو إجتماعية أو إقتصادية أو ثقافية أو فكرية مردها إلى تصدع جدران الثقة وغيابها وهشاشتها ، حيث أن معظم هذه الأقطار تعيش أزمة ثقة على كل المستويات، مما أصبح يشكل تهديدا حقيقيا لنسيجها الإجتماعي وإغراقها في فتن داخلية طائفية ومذهبية وسياسية على حساب وحدتها وسيادتها وإستقرارها .، وماهو حاصل في اليمن والعراق والسودان ولبنان خير شاهد على ذلك.
فغياب الثقة وفقدانها أصبح ظاهرة إجتماعية ملفتة للإنتباه تحتاج إلى دراسة وتشخيص ، وذلك بتحديد الأسباب وطرق العلاج وعوامل تعميق وإسترجاع هذه الثقة الغائبة وتمتين قواعدها والقناعة الراسخة والثابتة من طرف كل الأطراف المشكلة للحراك السياسي والإجتماعي والثقافي بجدواها وأهميتها وضرورتها وتثبيت دعائمها في النفوس والقلوب قبل الواقع والميدان.
إن الثقة كانت من السمات البارزة التي صاحبت كل حركات التحرر والإنعتاق من ربق الإستعمار لدى الشعوب العربية ونخبها السياسية والثقافية ، والتي أثمرت أنذاك أخوة ووحدة وتعايش وتعاون وإن إختلفت التوجهات الفكرية والإيديولوجية ، فكانت النتيجة المنطقية لذلك الحرية والإستقلال .
لكن مع بداية بروزالدول الوطنية ، وبداية ظهور الإنحرافات عن طبيعة الدولة التي أرادها وكان يحلم بها الشهداء والمجاهدون الذين أعلنوا الثورات على إمتداد مساحة الوطن العربي ، بدأت الثقة تترنح ، وبدأ منحناها البياني في الإنحدار ، مما أفرز الكثير من الإنزلاقات والإنتكاسات في معظم هذه الأقطار .
وإشكالية الثقة هذه لم تحل إلى الآن بالشكل المطلوب ، وبقيت تتجدد إفرازات غيابها بين الحين والآخر ، في هذا القطر أو ذاك ، وبأشكال جديدة ومظاهر مختلفة .
مظاهر غياب الثقـــــــــة:
ـ فعلى المستوى السياسي : نجد التيار لايمر بين السلطة والمعارضة ، والعلاقة بينهما ــ إلا القليل النادر ــ تحكمها المصالح الآنية والمنافع الذاتية والمزايدات وتصفية الحسابات على حساب المصالح العامة ، هذه العلاقة يسودها التشكيك والتخوين وإتهام النوايا والعمالة للأجنبي والأحكام المسبقة ولي الذراع وكسر العظام وإرادات التصفية والإلغاء.
ـ على مستوى السلطـــة: نجد تصارع الإرادات والأجنحة المتباينة والمختلفة بإختلاف وتناقض وتصادم مصالحها وتشكيل لوبيات المصالح وعصب الإستفادة من الريع والمال العام.
ـ على مستوى المعارضة:كذلك لم تشذ عن القاعدة ، حيث نجدها في كثير من الأحيان يشوبها الإقصاء والإلغاء وتبادل التهم والتنافس غير الشريف والمصالح الحزبية والشخصية وتعدد ولاءاتها الخارجية على حساب بعدها الوطني والإستقواء بالأجنبي على أبناء الوطن وضعف المساهمة في تعميق وإنتشار الوعي العام ، مع تمسكها بثقافة التبرير والتحجج وصناعة الأعذار للتملص من القيام بدورها الإصلاحي كماينبغي.
كل ذلك يتم بعيدا عن التقاليد الديمقراطية الحقيقية التي كان من المفروض أن تسود ساحتنا السياسية ، وتكون هي الضابطة لكل هذه العلاقات إن بين السلطة والمعارضة أو بين المعارضة والمعارضة أو بينهما وبين الشعب ، الذي كان ينبغي أن يكون تحقيق مصالحه ورفع الغبن عنه هو الدافع للتنافس وهو المقصود من عمل كل الأطراف المشكلة للمحيط السياسي .
ـ على المستوى الثقافي: قل نفس الكلام ، إذ أن تعدد الثقافات في المجتمع الواحد المفروض أن يكون مؤشر تكامل و تنوع ووحدة وقوة وثراء ،بدل أن يكون عامل فرقة وتمزيق وإختلاف وصراع.
ـ على مستوى الحركات الإسلامية : حتى على مستوى العمل الإسلامي والحركة الإسلامية نجد أن الثقة تكاد تكون غائبة ومعدومة ومفقودة بين هذه الحركات ، حيث أن العلاقة التي كان ينبغي أن تكون علاقة تنسيق وتعاون وإجتماع حول المتفق عليه وهو كثير والإعذار في المختلف فيه وهو قليل ، نجد البعض منهم يعكس القاعدة ، إذ قد يطمئن إلى من هو خارج الدائرة وينسق ويمد حبال التواصل معه ويعمل جاهدا على التقرب منه أكثر فأكثرــ وهو أمر محمود لاشك ــ ، حتى يصل في بعض الأحيان إلى درجة الذوبان والإحتواء ، والعكس يفعله مع من يجمعه معهم نفس الهدف والغاية وإن إختلفت الوسيلة.
على المستويات الإقتصادية والعلمية والفكرية والإجتماعية حدث ولاحرج على مظاهر فقدان الثقة في ساحتها .
عوامــل فقدان الثقة وغيابها
هناك جملة من العوامل ساهمت في غياب الثقة وفقدانها في ساحتنا العربية وعلى مستوياتها كلها تقريبا ، نذكر منها:
1) ــ الأحاديــــــــــــة:
التي تولد عنها ولايزال الإقصاء والإلغاء والتهميش والتضييق والتعتيم والتقزيم والتغييب لكل رأي مخالف وفكر منافس ، بدل التعدد الإيجابي والتنوع الفعال وإحترام الرأي الآخر والتعايش والإستماع إلى وجهات النظر المختلفة.
2) ــ الإستبداد:
حيث في ظله تتولد كل جراثيم التلاشي ، وتنقلب المفاهيم وتختلط الموازين وتضيق مساحة الحريات ويحجر على الآراء وتكمم الأفواه وتختنق أنفاس كل المعارضين وأصحاب الآراء الحرة ، مما يدفعهم إلى اللجوء إلى الطرق الكهفية والظلية والسرية في التعبير والحفاظ على الوجود والمعارضة من تحت الأرض ، الأمر الذي يهيئ الأجواء ويساعد على التنامي غير الطبيعي للأفكار المنحرفة التي تنشأ في الظلام كردود أفعال ، الأمر الذي أدى و يؤدي إلى كوارث جنت على بعض هذه الأقطار الويلات.
فكلما ضاقت مساحة الحريات وخيم الإستبداد،كلما ظهرت وإنتشرت هذه الظواهر المرضية وعمت وأعطيت لها المصداقية، وكلما زال شبح الإستبداد وإتسعت مساحات الرأي ، كلما غابت ورفعت الأغطية عنها وسقطت مبرراتها .
فالإستبداد أصل كل الشرور ومبرر كل الإنحرافات ، وقد صدق الكواكبي لما قال:(الإستبداد لو كان رجلا شريرا يحسب وينسب لقال:أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وإبني الفقر وبنتي البطالة وعشرتي الجهالة).
3) ــ الشك المتبادل:
وذلك بسوء الظن وعدم الإطمئنان للآخر ، وإعتماد النظرات والأحكام المسبقة ، وقلب القاعدة التي تقول :(المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، فتصبح في أجواء التشكيك وموجات سوء الظن :(البريء متهم ومدان وإن ثبتت براءته)، هذا إن ثبتت وقل أن تثبت، وهي أمور مدمرة للثقة وقاطعة لأواصر التعايش والوفاق.
4) ــ الإستعلاء والتكبر :
فالثقة والإستعلاء لايلتقيان ، لأن أصل الكبر والإستعلاء هو غمط الحق وبطر الناس كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وغمط الحق برفضه ورده وعدم الإنصياع والرضوخ له وإن كان أبلجا، وبطر الناس إحتقارهم والإزدراء بهم ، ومن ثم الإستهانة وعدم الإعتبار لكل مايصدر عنهم من آراء ومواقف وأفكار ، فأين يكن محل الثقة من الإعراب إذا إنتشرت مظاهر غمط الحق وبطر الناس.
5) ــ إتباع الهوى وحب الزعامة:
وهما من الآفات الدفينة التي ماإن تظهر في مجتمع وتنتشر فيه ، إلا وتفكك أوصاله وتهد كيانه وتجعله عرضة للتآكل الداخلي إلى أن يؤدي به إلى الدمار التام.
فإتباع الأهواء والإنقياد لها عوض الإنصياع للحق والمنطق، وحب الزعامة والتسلط ولو حساب مصالح الناس وحرياتهم وعيشهم الطبيعي ، من أعظم عوامل القضاء على الثقة وهدم كيانها.
6) ــ سوء التسييــــــــــــر:
الذي أدى ويؤدي إلى إيجاد الطبقية في المجتمع ، ويساعد على تكريس الفوارق الإجتماعية الكبيرة بين أبناء المجتمع الواحد ، وإعتماد مبدأ الإنتقائية والولاء والمحسوبية في الإستفادة من المال العام وجعله كلأ مباحا للبعض وحبسه عن البعض الآخر ، مما أنتج وأثمر الضجر والنقم العام وتنمية وتفاقم روح الحقد والإنتقام وفقدان الثقة على المستوى الشعبي ، كما أنه أدى إلى الإفلاس والتقهقر والإنحدار والتخلف على المستوى الرسمي وساهم مساهمة فعالة في القضاء على الثقة وقطع حبالها المهترئة أصلا.
7) ــ المزايدات وتصفية الحسابات:
ومما ساهم في غياب الثقة كذلك رواج سوق المزايدات سواء بالشرعيات المختلفة الثورية والعائلية والطائفية والمذهبية ، أو بمصالح الشعب وهويته وثوابته ، وتصفية الحسابات التاريخية والسياسية على حساب إستقرار البلد وهموم الشعوب وآلامها .
8) ــ غياب تقاليد ديمقراطية حقيقية:
فالتداول على السلطة والمعارضة الإيجابية والفعالة والتفريق بين السلطة كأشخاص ومشاريع وبين الدولة كمؤسسات وكيان ومظاهر سيادة، كذلك نزاهة العمليات الإنتخابية والقبول بنتائجها ، وإحترام الحريات وحقوق الإنسان والتنافس السلمي الديمقراطي الحر على السلطة ، والإذعان لإختيار الشعب وعدم التحجير على الآراء والإلتزام بالشورى والديمقراطية قناعات وتطبيقا وممارسة ، والمساهمة الفعلية والمستمرة في تنمية الأوطان وتطويرها وإزدهارها وحرص الجميع على ذلك ، إضافة إلى تثمين الإيجابي من أي وعاء جاء ورفض السلبي من أي جهة كان بأن يقال للمحسن أحسنت وإن كان ألد الخصوم السياسيين وللمسيء أسأت وإن كان أقرب الحلفاء ، والحرص على سلامة المال العام والشفافية في التعامل معه ، والحساسية من كل مظاهر الفساد ، هذه وغيرها معظمها تقاليد غائبة أو ضعيفة الحضور في ساحتنا السياسية العربية في عمومها ، مما أدى إلى تفاقم أزمة الثقة وإنتشار موجات الشك والتشكيك وإضطراب الواقع السياسي وتذبذبه ، والسطحية في طرح الكثير من القضايا المصيرية وتهجينها وإفراغها من محتواها والمزايدة بها ، وتغليب منطق تصفية الحسابات وإلغاء الآخر وإستئصاله كماهو ملاحظ في بيئتنا العربية للأسف الشديد.
9) ــ غيـــــاب الشرعيــــــة:
غياب سلطة فعلية حقيقية تنبثق عن إرادة الجماهير وإختيار الشعب الحر والسيد والنزيه ، تعمل على تحقيق مصالحه وآماله وتطلعاته والقضاء على آلامه وهمومه ، وتقديم حلول عادلة ودقيقة لمشاكله وأزماته ، هذا الغياب أدى ويؤدي إلى تفاقم أزمة الثقة على كل الأصعدة ، وتوتر الأجواء الدائم ووهن العلاقات المختلفة وزعزعة الإستقرار الذي يكون معه الجميع خاسر ولا رابح إلا العدو ومن يتربص بأوطاننا الدوائر.
10) ــ غياب مرجعية دينية وفكريــة:
هذا أمر مهم أيضا ساهم في غياب الثقة وإضطراب مكانتها في المحيط العام ، هو فقدان مرجعية دينية وفكرية وثقافية يشكلها علماء ومفكرون ومثقفون تسمع لهم وتحترم آراءهم كل الأطراف ، متحررون من كل أنواع الضغوط ومظاهر النفوذ والعصب ، متعالون عن المطامع والإغراءات من هذا الطرف أو ذاك ، وظيفتهم الأساسية يرجعون الأمور إلى نصابها كلما طفح كيل الأزمات وارتفعت رايات الخلاف ، يضبطون مؤشر البوصلة دائما على الطبيعي ، يكونون صمام أمان وصفارات إنذار ورجال إطفاء كلما رأوا فتائل الفتنة بدأت بالإشتعال ، يجرمون وينزعون المصداقية عن كل المغامرين والمقامرين بالأوطان ، يسهرون دائما على تلطيف الأجواء وبث روح الإطمئنان والسكينة لدى الجميع ، وتمتين حبال التواصل والوفاق والتعايش وإن إختلفت وجهات النظر.
11) ــ رواج سوق الشائعات:
وهذه نتيجة حتمية لكل العوامل التي سبقت ، حيث في ظل غياب تقاليد وقواعد متينة تضبط الواقع السياسي وغير السياسي ، وإنعدام تقنيات العمل السياسي المؤسس المدروس المحترف ، وغياب إعلام حر وفعال وقوي وذي مصداقية ، وتكريس الأحادية والإقصاء ، وإستمرار حالات الإنسداد والإحتقان، وتعويم كثير من المصطلحات والمفاهيم،ونقص الوعي السياسي المطلوب ، كلها عوامل مساعدة على رواج الشائعات وإزدهار سوقها وتفريخها وتوالدها بشكل كبير وعلى أوسع نطاق ، وفقدان المناعة والحصانة الفكرية والثقافية والروحية والأخلاقية .
الأمر الذي ينتج حتما تسميم الأجواء وإرتفاع موجات الشك والإتهام والتهكم ، وتغيب الحقائق وتعم الضبابية والغموض ، وتتصدع صروح الثقة ويأفل بريقها وتوهجها .
عوامــــل بنــاء الثقـــــة
هناك جملة من العوامل كفيلة بإرجاع الثقة وبنائها في النفوس وفي الواقع من جديد ، ويتم عندها تجاوز الأزمات والمرور إلى شاطيء الأمان بأقل التكاليف وأسلم النتائج ، إن إلتزم الجميع بها وعملوا بمقتضاها وتعاونوا على تحقيقها وتجسيدها عمليا في الميدان، نذكر من بينها:
1 ــ صدق النوايا وإخلاص المقاصد في السعي لإيجاد الحلول.
2 ــ التواضع وإحترام الآخر وعدم بخسه أشيائه.
3 ــ إلتزام مبدأية الشورى وآلية الديمقراطية.
4 ــ سلامة الصدور من الأحقاد والإبتعاد عن سياسة تصفية الحسابات.
5 ــ التناصح العام وقبول النصيحة والعمل بها.
6 ــ الحوار الجاد والفعال .
7 ــ تأصيل وممارسة ثقافة المصالحة والوفاق.
8 ــ التنازل المتبادل من أجل المصلحة العامة.
9 ــ مراعاة أدب الخلاف.
10 ــ فتح أبواب الحريات وصيانة حقوق الإنسان ورفع المظالم على كل الأصعدة.
11 ــ الإلتزام بالمباديء والعمل بالقواسم المشتركة .
12 ــ تجاوز الحزبيات الضيقة وتوسيع آفاق التعايش.
13 ــ الترفع عن سفاسف الأمور والأنظار القاصرة ، والتفكير الجدي والمسؤول في الحاضر والمستقبل.
14 ــ النقد الذاتي والمراجعة الموضوعية من طرف الجميع.
15 ــ إحترام سيادة الأوطان والحرص على إستقرارها .
16 ــ محاربة كل مظاهر الفساد المالي والسياسي والإجتماعي.
17 ــ الحرص على نزاهة وشفافية العمليات الإنتخابية.
18 ــ تشجيع ثقافة الكفاءة على حساب ثقافة الولاءفي تقلد المسؤوليات.
فالواجب على المخلصين في أي موقع كانوا ، وعلى أي صعيد هم في أقطارنا العربية، والذين يقدرون فعلا التضحيات التي قدمت في سبيل الحفاظ على هذه الأوطان موحدة آمنة مستقرة ذات سيادة ، أن يسترجعوا زمام المبادرة ، لإرجاع القطار إلى السكة الطبيعية قبل فوات الأوان ، وقبل أن يبلغ السيل الزبى ، وذلك بمبادرات شجاعة ومسؤولة تتجاوز كل المزايدات الرخيصة والحسابات الضيقة ، تجعل في حسابها فقط مصلحة أوطانها ووحدتها وإستقرارها وأمنها وإزدهارها ،ورفع الظلم والغبن عن شعوبها ، وتأصيل ثقافة المصالحة والأخوة والوفاق والثقة والطمأنينة لديها .