اختبارات ما قبل الزواج

"حكايتان من الأدبين العربي والإنجليزي"

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

تمثل فترة اختيار الإنسان لشريك حياته منعطفا مهما له، فعلى هذا الاختيار ستكون الآثار، ولذلك يحرص الإنسان عبر التاريخ على أن يتحرَّ الدقة في اختيار من سيقضي معه بقية عمره.

وعبر معايير الإنسان الشخصية والمعايير العامة التي يستقيها من ثقافة مجتمعه تأتي مرحلة اختبار شريك الحياة، ذلك الاختبار الذي قد يؤدي إلى توثيق العلاقة لتصل بعد ذلك إلى حد الميثاق الغليظ، أو تؤدي إلى أن يعدل كل من الطرفين عن قراره في الاختيار إذا ظهر له ما يكره نتيجة هذا الاختبار.

واختبار ما قبل الزواج قد يجريه الرجل للمرأة، وقد تجريه المرأة للرجل، أو قد يجريه ولي المرأة وفي النادر ما يجريه أقارب الزوج؛ ففي عهد قريب يكتفي الرجل بإرسال إحدى قريباته من أم أو أخت أو من يثق فيها لترى له المرشحة لزواجه، وبناء على تزكية منها يتخذ قراره بالإقدام على المرأة في الزواج.

إن المتصفح في الآداب العالمية يلحظ قصصا تبين هذه المرحلة الصعبة في حياة الإنسان، ومعي نموذجان من الأدبين العربي والإنجليزي:

والملحظ العام فيهما أن كل واحد عنده صفات تجعله يشعر بقدراته، ويبحث عن نصفه الآخر الذي يكون مشابها له في الطباع ومقدرا له ومحترما إياه؛ أملا في حياة سعيدة ومستقبل مشرق.

النموذج الأول لامرأة تسمى "دعد" وهي ملكة يمنية أوتيت حظا وافرا من الجمال الخلق وفصاحة اللسان، مما جعلها مطمعا لرجال عصرها، وقد علمت ذلك فكانت أمام خيارات كثيرة، حسمت أمر هذه الاختيارات بأن جعلت الفصاحة والبلاغة شرطا في زوجها المرتقب، ومن ثم فصاحب أحسن قصيدة تقال فيها هو من سيظفر برضاها والزواج منها بغض النظر عن أي شيء آخر، وأعتقد أن هذا المعيار موفق إلى حد كبير؛ فطبيعة الشعراء أنهم أصحاب عقول مبدعة تؤججها عواطف تتفاوت في صدقها من حين لآخر، ومن ثم فزوجها الذي تريده مدفوع بشوق تؤججه مشاعر صادقة نحوها، وليس لملكها، ثم إن هذه المشاعر دفعته لإبداع حاز به قصب السبق على غيره من الشعراء، ومن كانت هذه صفته فإن زوجه ستعيش في سعادة وهناء.

لقد تهافت الخطاب على هذه الملكة الجميلة بأشعار لم تنل رضاها، حتى سمع بأخبارها كثير من الشعراء منهم الشاعر الحسين بن محمد المنبجي المعروف بدوقلة الذي عرف في الأدب العربي بتأليف قصيدة سميت باليتيمة، حيث لم تنقل إلينا من أشعاره غير هذه القصيدة التي كتبها في هذه الحسناء لتكون مهرا لها، وآية صدق على حبها.

(وما كل ما يتمنى المرء يدركه..تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن)، فلقد هاجر الشاعر بقصيدته يدفعه الشوق والرغبة في الظفر والانتصار على كل الشعراء حتى مر في طريقه برجل استضافه وعلم حكايته فأخذ منه القصيدة وقتله وادعى أنه مؤلف القصيدة ورحل إلى الملكة يخطبها بقصيدة غيره.

وكانت المفاجأة أن القاتل لم يفقه معاني القصيدة التي ضمنها الشاعر بلده، وقال القصيدة دون أن يعدل فيها، ليكون كالطالب الغبي الذي يحاول الغش في الامتحان فينقل كل ما هو مكتوب في ورقة زميله حتى يصل إلى أن ينقل اسم زميله على ورقته؛ ليتأكد المصحح من غباء هذا الطالب الغشاش، فتكون العاقبة وخيمة عليه لخيانته وغباوته.

لقد سألت "دعد" القاتل عن بلده فقال إنه من العراق، فطلبت منه أن يقول قصيدته، فقال البيت الذي علمت منه هذه المرأة الذكية بأن الذي أمامها قاتل سارق، فلقد قال دون وعي كلام الشاعر المقتول بحرفيته ومنه:

(إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني... أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ)

وتركته دعد يكمل القصيدة حتى إذا ما انتهى صرخت قائلة هذا قاتل زوجي، وأمرت بقتله فقتل.

لقد أبدع الشاعر المقتول في وصف "دعد" حتى عد النقاد معانيها وصورها متفردة ومن القصيدة نختار قوله:

فَالوَجهُ مِثلُ الصُبحِ مبيضٌ

والشعر مِثلَ اللَيلِ مُسوَدُّ

ضِدّانِ لِما اِستَجمِعا حَسُنا

وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ

وبعد أن انتهى من وصفها وتصويرها شرع في طلب ودها وخطبتها بأبيات راقية ومنها:

إِن لَم يَكُن وَصلٌ لَدَيكِ لَنا

يَشفى الصَبابَةَ فَليَكُن وَعدُ

.....

وَزَعَمتِ أَنَّكِ تضمُرينَ لَنا

وُدّاً فَهَلّا يَنفَعُ الوُدُّ

وَإِذا المُحِبُّ شَكا الصُدودَ فلَم

يُعطَف عَلَيهِ فَقَتلُهُ عَمدُ

تَختَصُّها بِالحُبِّ وَهْيَ على

ما لا نُحِبُّ فَهكَذا الوَجدُ

 هذه هي الحكاية الأولى لاختبارات الزواج ومثلت جانبا معينا من جوانب الاختبار، أما الحكاية الثانية فإنها من رواية شكسبير المعروفة بتاجر البندقية، تلك الرواية التي نقلها إلى العربية الشاعر المعروف خليل مطران، ثم أعاد ترجمتها الدكتور محمد عناني لأسباب ليس هذا مكان سردها، ولكن الشاهد أن رواية شكسبير "تاجر البندقية" تحكي قصة فتاة فائقة الجمال، كثيرة المال، مما جعلها مطلبا للخطاب من طبقة النبلاء؛ فتقدم لها أمير مراكش بالمغرب، وأمير أراغون، وأمير نابولي، وأمير ألماني، وشريف إنجليزي، ونبيل إسكتلندي، وباسانيو ذلك الشاب الفقير الذي أراد أن يظفر بالفتاة الجميلة التي تدعى بورسيا.

إن هذه الخيارات تمثل صعوبة للمخطوبة، (فمن تخير تحير) كما يقال، ومن ثم وضع أبوها اختبارا لاختيار زوج ابنته المرتقب، وهذا الاختبار يتمثل في أنه يريد أن يعرف هل الذي سيتزوج ابنته سيتزوجها من أجل المال أم لأنه يحبها ومتعلق بها. ولذلك جهز ثلاثة صناديق الأول من ذهب والثاني من فضة والثالث من رصاص، وجعل صورتها في صندوق الرصاص، وطلب من كل واحد أن يختار صندوقا، والصندوق الصحيح هو الذي تكون فيه صورتها.

وفي ترجمة شعرية راقية للدكتور عناني نقرأ هذا المشهد من المسرحية التي تبين هذا الاختبار فالوصيفة نيريسا تقول:

قد كان أبوك من الأخيار

وللأخيار قبيل الموت بوارق إلهام حقة

ولذا تجدين الحكمة كل الحكمة في شرطه:

لا بد لزوج المستقبل أن يختار الصندوق الصائب

من بين ثلاثة:

الأول من ذهب خالص

والثاني صب من الفضة

أما الثالث فهو رصاص مصمت

والرأي الصائب في هذه القرعة يعني الحب الصائب.

ولقد اختارت هذه الحسناء وصيفة ذكية جعلت بجوار هذا الاختبار العقلي الذي يلعب الحظ فيه دور كبير، الجانب العاطفي فتقول لها: (لكن ما بال الخطاب النبلاء؟ ألم يخفق قلبك لأمير منهم؟)

وطلبت الحسناء من وصيفتها أن تصف الخطاب، وعلى أساس عقلي حكمت بينهما، فواحد متجهم عبوس، وآخر مغرور معتز بنفسه، وثالث سكير لا يفيق من الشراب....إلى أن وصلت في وصفها إلى باسينيو الذي خفق قلبها له عندما ذكر لها، وحاولت إخفاء مشاعرها بطلبها وصفه.

وبدأت ساعة الاختبار والاختيار فكانت البداية بالمغربي أمير مراكش الذي وجد على الصندوق الذهبي عبارة: (من يخترني يحظ بما تبغيه الكثرة)، والثاني من فضة وعليه الوعد التالي: (من يخترني يحظ بما هو أهل له)، أما الثالث فرصاص مصمت وعليه التحذير القاطع: (إن تخترني أعط، وخاطر بالأموال جميعا).

وبعد أخذ ورد مع نفسه اختار الصندوق الذهبي فوجد رسالة فيه مضمونها ذلك المثل الشهير (ليس كل ما يلمع ذهبا)

ما كل براق ذهب

مثل يدور على الحقب

كم باع شخص روحه

كيما يشاهدني وحسب

إلى أن أتى دور باسينيو الذي وفق في الاختيار المناسب، بعد أن اقترض من يهودي اسمه شيلوك بضمان صديقه أنطونيو التاجر المعروف بمدينة البندقة.

وكان شيلوك يعطي القرض بالربا، وتحت ضغط الحاجة قبل باسينيو بضمان أنطونيو الذي وافق على أن يقطع منه رطل لحم إن تأخر عن سداد الدين، وغرقت سفن أنطونيو الضامن ولم يستطع سداد الدين وذهبت الحسناء لتدافع عن أنطونيو صديق زوجها الذي نجح في الاختبار متخفية في زي المحامية أمام القضاء.

وأصر اليهودي على أن يقطع رطل لحم من أنطونيو، لكنها جعلت هذا الشرط ثغرة قانونية على اليهودي البخيل، فقالت له إنها موافقة أن تطبق نص العقد بقطع رطل من جسم أنطونيو لكن دون إراقة نقطة دم، لأن العقد لم ينص على إراقة الدماء، فالشرط رطل لحم فقط، وعجز اليهودي عن الشرط وخسر القضية، وخسر أمواله أيضاً.

إن هاتين القصتين على الطرافة التي فيهما تؤكدان أن الثقافات مهما اختلفت، والأزمنة مهما تباعدت، فإن السنة الكونية في ميل كل من الرجل والمرأة للآخر موجود وأن كلاهما يبحث عن سعادته، ولذا يتحرَّ الدقة في اختياره من خلال اختباره.