وفاة دريدا .. وولادة النقد
وفاة دريدا .. وولادة النقد
د.محمد سالم سعد الله
في العاشر من شهر تشرين الأول (2004) ، أعلنت المشيئة الإلهية نهاية عهدٍ نقديّ من المشروع الثقافي العالمي ، وبداية رجوعٍ للطرح المُعقلن المتزن ، وذلك برحيل عميد النقـد المعاصر ، وفيلسوف القرن العشرين ، وعراب المشروع النهضوي الغربيّ ، ومؤسس التفكيكية ومدرستها وتوجهاتها ، وباني معطيات النقد المعاصر القاضية بعزل الأدب عن الاهتمامات الجديّة للإنسان ، وفصل الأدب عن التاريخ ، وإتباع التحليل النصيّ الذي يقود إلى استنتاجات مُقوِّضة لذاتها ، ونافية للقيم الإنسانية ، ومبتعدة عن الدلالة النهائية التي يتضح معها المعنى الكليّ ، مُتبنيَّة أسلوب التلاعب بالألفاظ ، وغرابة التأويلات ، وإساءة الاستقبال ، والجنوح نحو تغييب المدلول ، فضلاً عن بيان آلية اشتغال نقد التفكيكية بوصفها ممارسة فلسفية ، واتجاهاً معادياً للإنسانية ، لأنّها عمد إلى استبدال هذه الأخيرة بسلطة النص ، وسلطة المعنى المتعدد ضمن لعبة دوامة المدلولات ، ولا نهائية القصد .
ومن الجدير بالذكر أنّ دريدا الذي ملء الواقع النقدي مطبات وإشكاليات ، إتجه في سنواته الأخيرة إلى تمثل إمكانية الحديث عن توجهات الهيمنة المعاصرة وقضايا الإرهاب ، وحركة العولمة بوصفها نتاجاً فكرياً منبثقاً من أواليات الحضارة الغربية المعاصرة ، التي منحت نفسها حقّ تقديم الحلول الناجعة والساقطة لمفردات الكون المتنوعة ، لأنها قد حلّت محلّ الإله ، وزعمت امتلاك صلاحياته ، وفي هذا الإطار يستند دريدا على مجمل الواقع المعرفي الذي وصل إليه الإنسان ، وقد أطلق مفردات الجريمة ضد الإنسانية التي تُمارس من قبل الحضارة الغربية ، ثم بيّن أصول النقص التي تعتري مسيرتها ، وقارن بين هذا الأمر وبين ممارسات محاكم التفتيش ، كما وجّه نقده إلى السلطة ومقت دورها في عزل الممارسة النقدية عن الدخول في أروقة الجامعات ، وأكدّ أنّ النقد يجب أن يعمل في محاكم الضمير التي تستند على تعرية أوجه الحقيقة الغائبة ، لأنّ النقد المشاكس لا يرضى أن يقبع خلف المقولات دون تحقيق أو تفعيل لمكوناته ، وعلى هذا أُصطبغت مقالاته الأخيرة بالبحث عن السيادة الدلالية والآثار العلاجية لتخبطات النقد المعاصر .
ومن المهم ذكر أنّ فلسفة دريدا النقدية قد رسمت حلماً معرفياً يكمن في رفع الوعي النقدي العالمي من خلال تحقيق انعطافات في إمكانيات النقد ، وإعلان ثورة على المنهج التقليدي فيه ، ثم خلق عناصر قوة معرفية في النظام النقدي الجديد ، الذي بُنِى على لا نهائية المعنى ، وكلّ هذه المعطيات حولت دريدا من مفكر أو ناقد إلى (متنبىء) لا هوتيّ ينظر بعين لا تدرك تصورات التكتلات النقدية البائسة أو المتوارثة، إنما تتجه نحو طرق فاعلة مشاكسة تكشف عيوب الميدان النقدي المعاصر ، وتعيق مسيرة أنساقه ، ثم تعمد إلى كسر الحدود المصطنعة بين الأجناس الأدبية ، ويدخل هذا في إطار منهج دريدا في تمييع الخصوصيات، وتغييب الهوية الإجناسية ، وبناء على ما تقدم يمكننا القول : أنّ عراف التفكيكية قد منح النقد تركة ثقيلة ، وأعباء معرفية سيستمر الحديث عنها تحليلا ونقدا وتبنيا ورفضا لما يستقبل من الزمن ، لأنها ببساطة اكتسبت عناصر جدلية تثير التساؤل المستمر ، وتطرح الإشكاليات التي لا تنتمي لميدان القدسية ، انطلاقاً من قاعدة : لا مقدسات في الحوار ، ولنا أن نسجل نعياً نقدياً لمنظر التفكيكية مفاده : لقد كان التفكيك ما تخيلته أنت حقيقة نقدية واقعة في النصوص ، لكننا أدركنا بعد ممارسة التنظير ، أنّك سعيت لتكرار لا نهائي لأحكام لاهوتية مؤثرة ذات صبغة سلطوية مطلقة ، قادتنا إلى بيان مواقف معلنة ، وتهيئة أجواء حيوية لبناء وجود موسوعي للطرح النقدي المعاصر .