العربية الآسرة : صعوبات بنيوية وعوائق مصطنعة
العربية الآسرة :
صعوبات بنيوية وعوائق مصطنعة
د. جونتر أورت
ترجمة: رامز ملا
مازالت لغة الضاد تستحوذ علي اهتمام اللغويين، ليس في المشرق والمغرب العربيين وحسب، بل في أوروبا وأمريكا كذلك. في هذه المقالة يراجع الدكتور غونتر أورت كتاب الباحث اللغوي الألماني روبرت مارزاري: العربية الآسرة ـ صعوبات بنيوية وعوائق مصطنعة في اللغة العربية . ويحمل هذا العنوان موقفاً مزدوجاً من اللغة العربية الآسرة: بجمالها وحسن وقعها وما إلي ذلك، والآسرة بمعوقاتها اللغوية الداخلية وتشتتها بين الفصحي والمحكية العامية وعدم مواكبتها للعصر بحسب مارزاري.
إضافة إلي التعيير اليومي للعالم العربي بسبب تخلفه البنيوي ـ نُذَكِّر بهذا الصدد بتقرير الأمم المتحدة للتنمية الانسانية 2003 ـ ونسوق مثال معرض فرانكفورت للكتاب 2004 الذي أُشبِعَ شكوي من نظام التعليم في دول الشرق الأوسط، المليء بالثغرات علي كافة الأصعدة.
فوق هذا وذاك يحاول الآن باحث لغوي من مدينة توبينغن الألمانية أن يثبت أن الثغرات تلازم بنية النظام اللغوي للعربية، وأن هذه اللغة الأم لأكثر من 300 مليون إنسان، تقف حائلاً دون تنمية نظام التعليم والبحث العلمي من المغرب إلي اليمن.
كتاب روبرت مارزاري العربية الآسرة ـ صعوبات بنيوية وعوائق مصطنعة في اللغة العربية يحلل بشكل منظّم المشاكل التي تنشأ لدي تَعلُّم العربية، ولدي استخدامها وقراءتها (بالأخص من قِبَلِ العرب أنفسهم)، ويحيل هذا إلي بُني العربية الفصحي المتحجرة والمعقدة (المنيعة) حسب رأيه.
يتكوَّن الكتاب من ست أقسام هي: المعاجم وقواعد اللغة والشفوية والأبجدية والقراءة والعلوم. ويشير الكاتب في الفصل الأول إلي الصعوبات التي تنتج عن المعاني المتعددة لكثير من المفردات العربية، وإلي مشكلة المترادفات المتوافرة بشدة في اللغة العربية. ويلفت النظر إلي أن الغني المفرط بالمفردات، مدعاة افتخار بعض العرب (كالمترادفات الشهيرة الخمسين أو أكثر لـ الأسد )، تشكل في الواقع قصوراً، إذ أنها تسبب، في العلوم بالذات، اضطراباً في المفاهيم وغياباً للدقة. ويزعم أن كلمة حديثة من الحياة اليومية مثل مِكبح بالمقابل لا يوجد لها ولا حتي كلمة واحدة مستخدمة ومفهومة في كل البلدان العربية. ينجح روبرت مارزاري في طرح هذه المعضلة بشكل منطقي، علي الرغم من بعض الأمثلة التفصيلية التي تستثير الإعتراض. ويطالب بعلاج الأمر، أي بتقليص الثروة اللغوية، عبر دورٍ سلطوي قوي ومنظِّم للمعاهد اللغوية العربية، وبالأخذ قبل كل شيء بالكلمات الأوروبية الدخيلة في اللغة العربية (ما من شأنه استفزاز تلك المعاهد بالتأكيد).
يشكو مارزاري في فصل قواعد اللغة الطابع شبه الديني للُّغة العربية باعتبارها لغة القرآن، ويعتبره المسؤول عن إخفاق الكثير من الإصلاحات والتعديلات اللغوية ... إلي يومنا هذا (راجع ص 44). ويبدو مبهماً للكاتب أي مكانة عالية قد أولاها العرب للغتهم منذ تنزيل القرآن، بدلاً من اليونانية الأكثر تفوقاً حسب رأيه. مع أنه يقرّ لقواعد العربية بساطتها فيما يتعلق بحالات وشروط تصريف الأسماء، إلا أنه ينعت علي سبيل المثال جمع التكسير (غير المُنتظم) بـ فوضي (راجع ص 52).
بيد أن المؤلف لا يتوقف عند نقده الحاد للصعوبات التي قد تكون بالإمكان إزالتها نظرياً من اللغة العربية. فعند تناوله لإشكالية ثنائية اللغة الفصحي والعامية يذهب مارزاري إلي حد منح اللهجات العربية العامية صفة لغات رسمية. فيقول هذه النظرة سديدة بلا ريب من الناحية اللغوية، إذ أن الإختلافات بين اللهجات العربية مهولة بما يكفي لنتكلم عن لغات وطنية (راجع ص 55). ويحاجج في هذا السياق بصعوبة تعلُّم اللغة العربية الفصحي بسبب بعدها الشاسع عن اللهجات العامية، ولكنه لا يناقش أية بلبلة ألسن ستقوم، وأية انقسامات عربية داخلية إضافية من شأنها أن تنشأ، لو كتب الناس إضافةً لتكلمهم في كل بلد عربي بشكل مختلف، ناهيك عن معضلات تمييز اللهجات عن بعضها البعض وتسميتها وتنوع اللهجات داخل كل بلد عربي علي حدة وهلم جرا. في فصل الأبجدية ينادي مارزاري بحماس بمزايا الأبجديات الأوروبية الحميدة مقارنةً مع الأبجدية العربية المعقدة، ويوسم الأبجدية اليونانية بالعامل التاريخي الحاسم لتطور مفهوم الديمقراطية، لسهولة تعلمها. (التوصّل إلي الاستنتاج المعاكس فيما يخص العربية الصعبة هو أمر مقصود بلا ريب). ويدعو تلميحاً للأخذ بالأبجدية اللاتينية بديلاً عن الأبجدية العربية، ولكنه يُقصِرُ هذا المطلب في النهاية علي اللهجات، ويطالب بالتشكيل التام للنصوص العربية حلاً أدني.
يحاجج مارزاري في الفصل الأخير العلوم بكثيرٍ من الاستعراضات التاريخية ويسوق مرة أخري أدلةً مفادها حسب زعمه: أن وضع العقبات في اللغة العربية كان مقصوداً في القرون الوسطي، فكان من شأنها أن تعيق التقدم العلمي والإجتماعي، ويقارن هذا بنقيضه -التنوير الأوروبي. وحسب قول المؤلف بالجملة: لم يطرأ أي تغيُّر جوهري علي هذه الأحوال في العالم العربي عموماً، حيث لا يزال التعليم قائماً علي التعلُّم بالتحفيظ، وعلي الإجترار غير المفيد لمعارف قديمة حتي اليوم.
قلما عُرِضَتْ الصعوبات الملازمة للعربية أكثر من ملازمتها للغات الأخري بشكل منظّم كما في هذا الكتاب. يمكن لمتكلمي اللغة العربية من العرب، ولكن أيضاً للملمين بها من غيرهم، أن يقرأوا بالتفصيل أية عوائق وعقبات عليهم تذليلها، غالباً عن لا وعي، لدي استخدامهم لهذه اللغة. يبدأ هذا بالأبجدية العربية العليلة ، التي تكتم معظم الحروف الصوتية المتحركة ولا ينتهي بضعف تطور المصطلحات التقنية والعلمية، ولا بغياب الصيغة الشرطية (ما يسمي بالألمانية بـKonjunktiv II) في اللغة العربية. في حين لا يأتي كتاب مارزاري حتي علي ذكر مشاكل معقدة حقاً كما هو الحال فيما يخص قواعد الأعداد غير المنطقية، والتي لا يتقنها بالفعل حتي في البلدان العربية إلا قليل من المختصين.
لكن القارئ لا يستطع أن يدفع عنه الشعور، بأن هذا الكتاب يتوخي أن يسوق، في الغالب، هجمات بأسلوب المناظرة الانفعالية علي اللغة العربية كلغة حضارة، وأن هذه الهجمات تتبع منطقاً أوروبياً فوقياً. تشكل فرضيات مارزاري بلا شك حوافز لنقاش هام ، لكن العيب الذي يشوبها ينضوي علي وجوب هذا الجدل بالعربية وليس بالألمانية. فلو كان المؤلف قد وضع نقده بالعربية لاضطر ، بالمناسبة، أن يقدم أمثلة تطبيقية لإقتراحاته الإصلاحية. وكان عليه أن يأتي بالبرهان العيني عن إمكانية التطبيق العملي لمطالبه العديدة بالإصلاح اللغوي، التي يطال بعضها الجذور. لكن للأسف لم ترد النصوص العربية الأصلية للكثير من أمثلة النصوص التي أشار بها المؤلف إلي المشاكل التي يشكو منها (راجع ص 64 وما يليها) ، بل أورد الترجمة الألمانية وحسب، بحيث بقيت الحيثيات، غير واضحة نوعاً ما. ويتم الاقتباس بعربية مكتوبة بأحرف لاتينية في مواضع قليلة فقط، ولا تتسم بالدقة أحياناً.
بغض النظر عن النبرة السلبية، نجد أن عدداً من نقاط النقد التي ساقها مارزاري يجب أن تؤخذ علي محمل الجد، ويمكن التأكيد علي أهميتها من قبل كاتب هذا المقال بعد أكثر من عشرين سنة من التعامل مع العربية. إلا أن الكتاب - أمر كهذا وارد أيضاً - قد كُتِبَ بـ اللغة الخاطئة أي الألمانية بدلاً من العربية.
وتصُحّ هنا إضافة حجة عملية مفادها أن فرضيات الكتاب باللغة التي قُدِمت بها، لا يمكن أن تجد آذاناً صاغية في العالم العربي. والجدير بالذكر أن ثمة مؤلفين عرباً؟ لديهم بالتأكيد قدرة التعبير بوضوح وبأسلوب مفهوم ودون زيادات لا حاجة لها. وهم بذلك الدليل علي أن الكثير من معضلات العربية لا تتعلق فقط بالبناء اللغوي، بل من الممكن حلّها حسب قدرات كل كاتب. ويبقي غامضاً إذا كان مارزاري قد عني مثل هؤلاء الكُتّاب عندما سجل في الفقرة الأخيرة من كتابه دون شروحات آخري:
لحسن الحظ يوجد اليوم بعض العلماء الذين يستخدمون لغة حديثة في كتاباتهم... ويفسحون بذلك المجال للوصول إلي المعرفة بشكل أسهل (راجع ص 166).