الاستيطان عماد المشروع الصهيوني
الاستيطان عماد المشروع الصهيوني
د.مصطفى يوسف اللداوي *
قبل قرنٍ من إنشاء إسرائيل والحركة الصهيونية تخطط لبناء المستوطنات اليهودية في فلسطين، واستخدمت لتحقيق أهدافها كل الوسائل القذرة والمشبوهة، فاشترت الذمم، وزورت الأوراق والمستندات، واحتالت على الملاك وأصحاب الحقوق، وتحالفت مع كل القوى الاستعمارية، ومالئت الدول الكبرى، واستخدمت القوة والإرهاب، فقتلت وأرهبت وطردت أصحاب الحقوق، وكانت الوكالة اليهودية التي أشرفت على عمليات هجرة وترحيل يهود العالم إلى فلسطين، تدرك أهمية الاستيطان اليهودي فيها، وأنها الطريقة الأسرع لسيطرتهم وتنامي نفوذهم، ليتمكنوا بعد ذلك من إنشاء دولتهم الإسرائيلية الموعودة، وبدون الاستيطان ما كانت الحركة الصهيونية لتنجح في مشروعها القومي، فالاستيطان الذي يقوم على الأرض والمهاجرين هو عماد المشروع الصهيوني، وقد ساهم جميع قادة إسرائيل، ومن قبلهم رواد المشروع الصهيوني، في تكريس فكرة الاستيطان، وجعلها واقعاً ملموساً على الأرض، وإحالتها إلى حقائق ووقائع يصعب على أحدٍ تجاوزها أو إنكارها.
وخلال العقود التي سبقت تأسيس الدولة العبرية، والعقود الست التي تلت تأسيسها، لم تتوقف عمليات الاستيطان، وقضم الأراضي الفلسطينية، مع ما واكبها من عمليات هدمٍ للبيوت، وطردٍ للسكان، وخلعٍ للأشجار، وتدميرٍ للمزارع والبساتين، وقد توزعت عمليات الاستيطان على كل أرض فلسطين التاريخية، ولم يستثنِ الإسرائيليون بقعةً دون أن يزرعوا فيها بؤرةً استيطانية, ولكن مدينة القدس كانت المنطقة الأكثر استهدافاً، وكان محيطها هو الأكثر اهتماماً وتركيزاً، وقد توسع إطار مدينة القدس ليشمل عشرات الكتل الاستيطانية التي أصبحت داخل حزام مدينة القدس الكبرى، وركز الإسرائيليون جهودهم على هذه المدينة للسيطرة عليها، وامتلاك أكبر مساحةٍ فيها، وعملوا على تغيير هويتها، وطمس معالمها، وتزوير تاريخها، وطرد سكانها، والتضييق على من بقي منهم فيها.
وعلى مدى العقود التي خلت لم يَكُف الإسرائيليون عن إعطاء الوعود والعهود بأنهم سيجمدون عمليات الاستيطان، وأنهم لن يصدروا تراخيص بناء جديدة، في محاولةٍ منهم لذر الرماد في العيون، ولكن الحقيقة أن الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية عموماً، وفي شطري مدينة القدس على وجه الخصوص لم يتوقف منذ أن سقط الشطر الغربي من المدينة بأيدي الإسرائيليين عام 1948، وهي سياسة مشتركة لكل الحكومات الإسرائيلية، حيث تتنافس فيما بينها أيها يبني مستوطناتٍ أكثر في مدينة القدس، وأيها يزيد في مساحة الأرض التابعة لها، والخاضعة لسيطرتهم، ولا صحة للتصريحات التي تطلقها الحكومات الإسرائيلية بشأن التزامها بتجميد البناء في المستوطنات في الضفة الغربية أو القدس المحتلة، ولعل الحقيقة أن الحكومات الإسرائيلية تقوم بعمليات خداع وتضليل، حيث توقف المصادقة على تراخيص ومخططات جديدة، ولكنها تسمح لأعمال البناء والتوسع بموجب مخططات ومشاريع قديمة، تمت المصادقة عليها بصمت في ظل حكوماتٍ إسرائيلية سبقت، وبالتالي تستمر عمليات البناء والتوسع في المستوطنات الإسرائيلية بموجب خرائط وخطط سابقة، دون الحاجة إلى إذنٍ من وزراء الحرب الإسرائيليين، أو رؤساء الحكومة، وبموجب هذه السياسة المخادعة فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي أعلنت أكثر من مرة تجميدها عمليات الاستيطان والتوسع في مستوطنات القدس والضفة الغربية، فإنها تشرع في الوقت نفسه في البناء والتوسع بموجب موافقاتٍ سابقة، طبقاً للقائمة التي تضعها وزارة الأمن الإسرائيلية وفق جداول زمنية محددة ومدروسة بدقة.
وكما تحاول إسرائيل خداع العرب والمسلمين ودول أوروبا من خلال إدعاءات تجميد الاستيطان الكاذبة، فإنها اليوم تحاول الاستفادة من سياسة التوسع الاستيطاني لتفرض على الدول العربية والإسلامية اعترافاً بها وتطبيعاً معها، وتدعي أنها ستقوم بتجميد عمليات الاستيطان مقابل تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، أي أنها لن تصدر تراخيص بناء جديدة، ولن تعطي موافقات لبناء مستوطناتٍ جديدة، ولكن الحقيقة التي يحاولون خداع العالم من وراءها، أن تراخيص البناء الممنوحة للمستوطنين داخل مستوطناتهم تكفي لتشغيلهم لسنواتٍ، وبذا فهم ليسوا بحاجة إلى إصدار موافقات وأذونات بناء جديدة، فلديهم ما يشغلهم، وفي الوقت ذاته تعلن الحكومة الإسرائيلية عن أنها لا تستطيع أن توقف عمليات التوسع الطبيعية، أو النمو الطبيعي للمستوطنات، الذي يغطي كل عمليات البناء والتوسعة والتأسيس داخل المستوطنات الإسرائيلية، والتي من شأنها مضاعفة المستوطنات مساحةً وسكاناً، وتحاول أن تشغل الرأي العام العربي والدولي بتفكيكها للمستوطنات العشوائية، التي هي جزء من الدعاية الإسرائيلية المضللة.
فلا ينخدعن قادة الدول العربية والإسلامية بمعسولِ الكلام الإسرائيلي، ولا ينجروا إلى مربع التطبيع مع العدو الإسرائيلي، بحجة أنهم يقدمون خدمةً إلى الشعب الفلسطيني، وأنهم يوافقون على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي للحفاظ على وحدة الأرض الفلسطينية، ومنعاً لبناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية عليها، وكأنهم بهذا يبررون للفلسطينيين فعلتهم أنها إكراماً لهم، وحرصاً عليهم، فهذه ليست خدمةً للفلسطينيين، وهي لا تحفظ أرضهم، بقدر ما تعطي الإسرائيليين فرصة من الوقت كافية لتحصين وتوسيع مستوطناتهم القائمة، فالفلسطينيون لا يتطلعون إلى تجميد عمليات البناء في المستوطنات، وإنما يتطلعون إلى إزالة كل المستوطنات الإسرائيلية المشادة في الضفة الغربية، بما فيها المستوطنات المقامة داخل مدينة القدس، ولا يقبل الفلسطينيون بأن ينجح الإسرائيليون في تجزئة الحقوق الفلسطينية، والتدليل عليها أمام الزبون العربي، الذي من الممكن أن يدفع أكثر مقابل عمليات الخداع والتضليل الإسرائيلية، وإذا كان قادة الدول العربية والإسلامية يرغبون في مساندة الشعب الفلسطيني وفي المساهمة معه في حماية أرضه وحفظها من التهويد والاستيطان، فإن عليهم أن يبذلوا وسعهم لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإجباره على الانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتوقف الفوري عن كل عمليات الاعتداء والتوغل في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فمشكلة الاستيطان مرتبطة بالاحتلال، وإنهاء الاحتلال يعني تفكيك المستوطنات وليس تجميدها، ويعني ترحيل المستوطنين وتخليهم عن الأراضي التي اغتصبوها من الفلسطينيين وبنوا فوقها مستوطناتهم، وعلى قادة الدول العربية والإسلامية أن يواجهوا مخططات إسرائيل الماضية في انتزاع الأرض الفلسطينية من سكانها وطردهم منها، بحجة بناء منتزهاتٍ أو حدائق أو شق طرقٍ أو بناء مناطق خدمات عامة.
الاستيطان الإسرائيلي عملية متواصلة، ومشروعٌ قائم منذ إنشاء الدولة العبرية ولم يتوقف، وعلى أساسه يقوم المشروع الصهيوني، ولكن عمليات الاستيطان كانت تتعرقل وتضعف وتيرتها أحياناً عندما كانت تشتد عمليات المقاومة، وعندما تصبح المستوطنات هدفاً للمقاومة الفلسطينية، فيشعر المستوطن الإسرائيلي أن حياته غير آمنة، وأن مستقبله هنا غير مضمون، وممتلكاته غير محفوظة، وعندما تصبح المستوطنات والمستوطنين عبئاً على المؤسسة الأمنية، وعبئاً على وزارة المالية، كما كان حالهم في قطاع غزة، فإن قادة إسرائيل يفكرون في الانكفاء، وعندها يقومون بأنفسهم بتفكيك المستوطنات والخروج منها، وإذا كان قادة إسرائيل يفكرون في السلام والتطبيع ويتطلعون إليه كما يدعون، فإن عليهم أن يدركوا أن هذا الهدف بعيد المنال، وهو ضرب من الخيال والمحال، ما لم يقوموا بإنهاء احتلالهم للأرض الفلسطينية، وتفكيك المستوطنات، والاعتراف بالحقوق، وإعادة الأرض إلى أصحابها وملاكها، أما التطبيع وتقديم الفواتير المسبقة فإنها لن تردع إسرائيل، ولن تمنعهم من بناء المزيد من المستوطنات، ولن توقف عمليات المصادرة والطرد والهدم والترحيل، وإن أي استجابة عربية للمحاولات الإسرائيلية المخادعة والمضللة، فإنها ستضر بمصالح الفلسطينيين، وستنعكس سلباً على محاولتهم للقاء والاتفاق، وسيكون من شأنها الوقوع في شرك المخططات الإسرائيلية التي لا تتوقف .
*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني