لماذا بكى أربكان..؟
بقلم: مصطفى محمد الطحان
كما هو الأمر في كل سنة.. فقد تلقيت دعوة القائد أربكان لحضور ملتقى فتح استانبول من قبل القائد الشاب السلطان محمد الفاتح في العشرين من جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 أيار (مايو) 1453م، ولقد دعا الأستاذ نجم الدين أربكان كعادته كل سنة إلى لقاء جماهيري بهذه المناسبة.
كان اللقاء في العام الماضي في مدينة قونية.. وفي هذه السنة كان اللقاء في مدينة ازميت وهي على مسافة حوالي 80 كيلومتراً عن استانبول.
ولقد سن أربكان هذه السنة منذ سنين طويلة.. ففي أول مايو كان اليساريون يحتفلون بعيد العمال.. وانتقل الاحتفال إلى الرأسماليين فأصبحوا يحتفلون في نفس التاريخ بعيد الشباب.. وجاءت الفكرة المبدعة.. بأن يكون عيد الشباب هو عيد فتح استانبول احتفاء وتقديراً لعبقرية محمد الفاتح أحد شباب الإسلام الذي فتح استانبول المدينة التي استعصت على الفتح.. وكان عمره لا يتجاوز 21 سنة.
اللقاء في ازميت كان متميزاً.. كان الستاد الذي يتسع إلى قرابة ثلاثين ألف مشاهد مليئاً.. بل إن أعداداً كبيرة كانت تشاهد الحفل من الخارج.. في العام الماضي لم تكن كثافة الجماهير بهذا القدر..!
هل لأن هناك عودة إلى وضوح الصوت والصورة.. إلى الفتح بأبعاده الإسلامية.. ونموذجه الأرفع الفاتح محمد..؟ والابتعاد عن الصور المشوهة التي بدأت تظهر من أولئك الذين جاءوا إلى السلطة وتنصلوا من الإسلام.. وسموا أنفسهم بالديمقراطيين المحافظين.. ويعتبرون هذه الديمقراطية هي الحلّ الأمثل للتوفيق بين المتناقضات التي تعيشها تركيا بما يساعدها على تحديد هويتها.
أية هوية يريدون..؟
نحن نقبل هذا الكلام أن في تركيا صراع هوية..
أما الهوية التي يريد تثبيتها أربكان وأعضاء حزبه السعادة، ومن قبله الفضيلة، ومن قبله الرفاه، ومن قبله السلامة، ومن قبله النظام، فهي محددة واضحة.. وضحها بيان حزب النظام عندما ظهر عام 1970.. وهي لم تتغير حتى اليوم ولا أظنها سوف تتغير في المستقبل..
هي الإسلام بعقائده وفكره.. بتاريخه وأمجاده.. بنماذجه الفذة على مستوى العالم أمثال محمد الفاتح.. بعلومه الحقيقية التي كان بداية العلوم.. وبعلمائه الذين بدأوا العلوم.. وباتساع أفقه ومرحمته بكل الشعوب الذين لجأوا آمنين إلى دولة الإسلام العثمانية.. الذي يعرفون وحدهم أن الحق فوق القوة.. وأن التعاون ضد الاستغلال.. وأن حقوق الإنسان لها وجه واحد.. وأن العدالة للجميع.. وأن الله كرم الإنسان باعتباره إنساناً.. وليس لأنه صهيوني أو أمريكي أو أوروبي أو تركي.
أما الهوية التي يسعى حزب العدالة إلى تثبيتها فهي:
1- الهوية الأوروبية.. بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مهما تكن الظروف ومهما تعددت الشروط..
· عندما نوقش قانون الجزاء التركي تم تعديله، بحيث تُحكم المرأة إذا لجأ زوجها إلى المحاكم يتهمها بالزنا.. وعلى الفور صاح الأوروبيون وقالوا: هل ستدخلون الإسلام وأخلاقيات الإسلام في تشريعات دولة تطلب الانضمام إلى أوروبا.. فسحبوا التعديل واعتذروا من الأوروبيين.
· بطاقة الهوية التي يحملها التركي تتضمن ديانة حاملها.. وتدخّل الأوروبيون.. وطالبوا بحذف الدين من بطاقة الهوية.. وعندما استجابت الحكومة علق أحد النواب.. بأنهم لن يدخلونا إلى أوروبا إلا بعد أن ينتزعوا منا ديننا.
· اجتمع رئيس الوزراء التركي مع مدراء البنوك.. وعندما سأله مدير أحد البنوك الإسلامية عن الفائدة (الربا).. قال: هذا نظام عالمي لا بد من الالتزام به..
· عندما خرجت مئات ألوف الطالبات المحجبات في مظاهرات في جميع المدن التركية يطالبن بإعادتهن إلى مدارسهن وجامعاتهن باعتبار الحجاب حرية فردية.. وأمر ديني.. لا يجوز أن تتدخل فيه الحكومة.. فاعترض الجيش.. واعترضت أوروبا.. وقالوا إن الحجاب هو تعبير عن الهوية الإسلامية لا يمكن القبول به.. وعندما سئل رئيس الوزراء في ذلك.. قال: ليست هذه من أولوياتنا.
· مع التعديلات التي أقرها البرلمان على قانون العقوبات، وهو أحد شروط بدء تركيا محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في أكتوبر 2005م، بقيت بعض التعديلات التي لم يوافق عليها رئيس الجمهورية.. وهي مقدار العقوبة التي يتحملها المعلّم أو الأب إذا علّم ابنه القرآن في البيت قبل أن يبلغ الحادية عشرة من عمره.
لقد أصبحت قراءة القرآن الكريم.. في ظل الديمقراطية المحافظة جرماً يعاقب عليه القانون بالسجن بين ثلاث سنوات إلى ست سنوات.
· وما زالت الأوساط التركية (كما ذكرت صحيفة صباح اليومية) تتداول أمر الرسالة التي بعث بها السفير الأمريكي السابق في أنقرة (إيريك اولمان) لوزير الشؤون الدينية محمد أيدن قبل انتهاء فترة عمله في أنقرة قبل أيام، والتي أثارت ردود فعل غاضبة في أنقرة.. وذكرت الصحيفة أن اولمان أدان موقف الوزير من الحملات التبشيرية المسيحية واعتبر خطب الجمعة بشأن هذا الموضوع بمثابة تهديد وتحريض ضد المسيحيين.
الشعب التركي يقلب كفيه ويقول: هل وصلت الأمور إلى هذا الحد في ظل الديمقراطية المحافظة..؟
· رئيس الوزراء ما فتئ يجيب هؤلاء الذين يسألونه: هل تغيرتم؟ يقول: قلنا لكم ذلك مرات عديدة.. لما لا تفهمون..؟
2- ومع السعي إلى نيل الهوية الأوروبية.. يسعى النظام الجديد إلى التأكيد على أن مبادئ أتاتورك هي الأسس التي تستند إليها تركيا في مختلف الأوقات.
وإن المواقف التي اتخذها المسلمون في تركيا منذ عهد أتاتورك إلى اليوم، المواقف الفكرية والدينية والسياسية.. هي مواقف خاطئة يجب الرجوع عنها والالتزام بمبادئ أتاتورك.
3- هؤلاء المتفلسفون.. لا يقولون أنهم خرجوا من جلودهم.. بل يعتبرون أنفسهم مفكرين تقدميين.
لماذا بكى أربكان..؟
وفي الكلمة التي ألقيتها في الحفل الكبير.. قلت: لقد كان الفتح رحمة وعدالة.. أمن فيه جميع الناس على اختلاف أعراقهم ودياناتهم، ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا حاكم مسلم..
ويوم أسقطوا السلطان عبد الحميد الذي كان يعتبر أن كلمة السلطان تعنى العفو.. منذ ذلك اليوم وأمتنا تعيش مرحلة من أقسى مراحلها.. يتحكم فيها عدوها.. يحتل أرضها ويجزئ أقطارها.. ويغير تاريخها.. ويمسخ مناهجها.
وإذا كان مسجد أيا صوفيا هو رمز الفتح.. فإن محطة تلفزيونية يونانية تعرض فيلماً مصوراً يبين فارساً بملابس بيزنطية عسكرية يصحو من كبوته ويفتح أمامه باباً فيجد أيا صوفيا أمام عينيه فيتجه ناحيته شاهراً سيفه، ثم يقوم بتحطيم الهلال الموضوع أعلى قبة أيا صوفيا ويضع مكانه صليباً، ويهدم المآذن الأربعة الموجودة في أركان المسجد.
وعندما انتهيت من إلقاء كلمتي.. نظرت إلى أربكان.. فوجدته يبكي.. هل لأن البناء الذي شيده لاسترجاع أيا صوفيا.. قد ابتعد عن سربه.. وبدأ يقول: إن المواقف الفكرية والدينية والسياسية.. هي مواقف خاطئة يجب الرجوع عنها والالتزام بمبادئ أتاتورك!