ذكريات رمضانية
أول يوم صمته كان في رمضان سنة 1952 كان عمري يومها خمس سنوات. وكان رمضان في شدة الحر، ربما كان في شهر حزيران، لأنني ما زلت أذكر أنه وقت نضج التوت، والعامة في حلب تقول: في يوم التوت يشتغل العامل حتى يموت، وبعكسه يوم الزيت، وهو اليوم الذي يعصر فيه الزيتون، والذي يقولون فيه: يوم الزيت أصبحت أمسيت...
كان صيامي الأول يوم التوت، في شدة الحر وقد صمت من رمضاني ذاك يومين. وكان من طرائق ترغيب الصغار في الصيام هو أن الصائم يجلس على مائدة الإفطار مع الكبار. بينما كان يتوجب على الصغار المفطرين أن يأكلوا منفردين قبل الأذان. وهذا الأمر كان يضايقنا جدا، ويجعلنا دائما في حالة احتجاج على الأهل الذين يصرون على التخفيف عن مائدة الإفطار ولا سيما عندما يكون في البيت ضيوف قلما يخلو منهم.
والسبب الآخر المشجع على الصيام هو الحصول على ثمن الإفطارية، إفطارية يومي الأول كانت ليرة سورية احترت ماذا أشتري بها أنا وأختي الوسطى التي كانت ترعاني وتشجعني على الصوم. كان الفرنك أو الخمسة قروش مصروفا يوميا جيدا فكيف يتصرف ابن خمس سنين وقد امتلك عشرين فرنكا!!
بالطبع قبل صوم اليوم الكامل كان هناك صوم تدريبي خاص للصغار يسميه الحلبيون صوم درجات المئذنة ( درجات المآدنة ) نصوم حتى الظهر ثم نفطر. وهناك صوم آخر نُمسك بعد سحور صباحي أي نتناول وجبة الإفطار العادية، ولكن تحت مسمى السحور، ثم نمسك حتى العصر..
من وسائل تقريع الأطفال المفطرين أنهم كانوا يطلبون إلينا ألا نأكل أمام الناس حتى لا يرانا رمضان لأنه إذا رآنا فسيقلع أسناننا...
وكانت هناك أهازيج يشنع بها الأطفال الصائمون على المفطرين، يقول الصائم للمفطر: مفطر يا مالك- يامال إلي خبالك- خبالك أبو زعزوعة- لفك ونام في البلوعة. أو يقول له: مفطر يا دم يا معلقة السم. وكان الأطفال في الصفوف الأولى لا يرضون بالمجاهرة بالإفطار رغم صغر أسنانهم. وكان مد اللسان هو الوسيلة لكشف الصائم من المفطر، فصاحب اللسان الأبيض صائم وصاحب اللسان الأحمر مفطر.
وكانت للأهل وسائل لتعليل الأطفال بانتظار أذان المغرب عندما يبلغ الجهد من الطفل مبلغه ويقرر أن يفطر ولو بشربة ماء ويتنازل عن جميع المكاسب والإغراءت، يقول الأهل عن المؤذن المتأهب للأذان يده على خده وبالحلبي ( إيدو على خدو ) وهناك أيضا شدية خاصة للمؤذن يرددها الطفل استعجالا له وللرغيف، تقول الشدية الحلبية: يا مأدن أدن- يا رغيف قدم، ياجيجة رمضان – استعجلينا بالأدان – أدنها وانطقها – لعطيك حلاوتها – لخيطك قرعية – يوم العيد أعطيك هي.. والقرعية بالحلبي القبعة تكون على الرأس
ومن تقاليد أهل حلب في أيام رمضان ولا سيما في الأحياء الشعبية، يوم كان الجيران جيرانا والأرحام أرحاما، نظام ما يعرف (بالسكبة) وهو نظام معمول به طوال العام ولكنه في رمضان أوضح، ففي يوم طبخة الحلبي الرسمية، غير أيام ( الشكلة ) و( التقشيطة )، مثل يوم المحشي أو الكبة بأنواعها، أو (اليبرق) أو (القبوات) أو (اللحم بالعجين) تخرج من بيت صاحب الطبخة أحيانا أكثر من خمسة صحون مليئة إلى دائرة من الأهل والجيران، وبالمقابل تستقبل هذه الأسرة في أيام أخرى صحون الآخرين المليئة مما يحدث إثراء لألوان المائدة.
ومن تقاليد رمضان العريقة شرب السوس على الإفطار، وصناعة حلوى خاصة لم أعرفها في غير حلب، وهي صناعة غزل البنات وهو غير شعر البنات المشهور. ينادي البائع الحلبي ( حرير وشعرو طويل يا غزل البنات ) وهو يصنع على طبقات فأبسطه ما يحشى بالسميد وكان تباع الحبة منه بالفرنك الوحدة النقدية الأبسط، ثم ما يُحشى بالجوز أو بالفستق الحلبي أو بالقيمق ويختلف السعر باختلاف كمية الحشوة وجودتها. ومن الأطعمة الخاصة برمضان المعروك وهو نوع من الخبز ينادي عليه الفران ( يا ما عركوك في الليالي يامعروك )
أما القطايف الذي يرتبط في أكثر من بلد عربي برمضان ولا سيما في مصر والأردن فلا يعرفه أهل حلب في رمضان بل هو من حلويات الشتاء يرتبط به والحلبيون أكثر تفننا في صنعه من حيث الحجم وطرائق التحضير.
يبدأ اليوم الرمضاني في حلب التي نعرفها مع الفجر، ففي جميع المساجد الرئيسية كان الناس يجلسون بعد صلاة الفجر إلى حلقة عالم يعلمهم ويرشدهم ويعظهم ويذكرهم حتى يتعالى الضحى فيصلون الضحى وينصرفون إلى أعمالهم. ويستمر يوم العمل الرمضاني حتى صلاة العصر التي يعقبها غالبا درس لأحد العلماء المشهورين فيمتلأ المسجد بالرجال والنساء في القسم المخصص لهن يستمع الجميع إلى درس الشيخ ثم ينصرفون إلى بيوتهم.
وعلى ذكر النساء فإن الحلبيين ظلوا يمنعون إماء الله المساجد فلم يكن للمرأة الحلبية حظ في المسجد إلا في دروس العصر لدى بعض العلماء، وفي صلاة التراويح في رمضان حيث تخصص زاوية في كل مسجد تقطع بستارة كبيرة ويا ويل المرأة إذا بكى وليدها وهي في الصلاة.
ومن تقاليد رمضان أن ماءه المبرد يعطر بماء الزهر، ويوضع في حلل خاصة على الطرق وفي الأسواق لمن انقطع به الطريق فلم يصل إلى بيته قبل الإفطار...
أما طريقة الحلبيين بالتهنئة بهذا الشهر الجميل فيقول أحدهم للآخر: مباركة طاعتكم. وتمال الفتحة قبل التاء المربوطة كما هو الشائع في لهجتهم، وتبدأ منذ الليالي الأولى الزيارات المتبادلة باسم الرمضانية، ويقولون: (بدنا نجي نرمضنكم، وما جيتو رمضمتونا). أي أنهم صرفوا فعل ( رمضن ) للدلالة على الزيارة الرمضانية كما صرفوا الفعل عيّد على زيارة العيد وعلى تقديم العيدية. وللمخطوبة على الخاطب إن مر بهما رمضان هدية رمضانية وأخرى عيدية تدفع بالعيد وهذه تسمى المواسم.
وأجمل ما كان في أمر رمضان هيبته وحرمته أيام لم يكن بمقدور أحد أن يتجرأ عليه.. كان مدمنو الخمر وأصحاب المعاصي يقلعون عن ذنوبهم منذ الخامس عشر من شعبان، وكانت توبة هؤلاء في كثير من الأحيان تستمر، وبالطبع كان على أصحاب الخمارات أن يغلقوا خماراتهم حرمة للشهر الفضيل...
وكان المجتمع بكل طبقاته ومكوناته يرى أن الذوق فوق الحق فتدخل على غير المسلم في محل عمله فترى أن ذوقه قد رفعه عن أن ينفخ في وجه صائم دخان سيجارة. بل إنه كيّف دوامه مع دوام الأكثرين يغلق معهم ويفتح معهم وهو وإن لم يكن صائما سيغادر إلى بيته على غير اضطرار من أحد وقت الغروب. وسيعيّد مع الناس في أيام العيد
رمضان الحنون الودود المهيب ذاك هو الذي نفتقد وهو الذي ما زالت النفس تحن إليه، كما تحن إلى صوت المسحراتي ينادي: يا صايم وحد الدايم
وسوم: العدد 874