قصتي مع تراث باكثير (12)
قصتي مع تراث باكثير(12)
علي أحمد باكثير |
الدكتور محمد أبو بكر حميد |
( يتابع الأستاذ الدكتور محمد أبو بكر حميد ما سبق أن نشرناه )
يتعرض تراث الكثير من الأدباء الكبار في تاريخ أدبنا العربي الحديث للإندثار والضياع بسبب الجهل أو الإهمال أو بالإثنين معاً، ففي كثير من الأحوال يرث هؤلاء الأدباء أسرة أو أبناء لا علاقة لهم بعالم الأدب ولا يفهمون في فن صناعة الكلمة المُبدعة، فيتعرض تراث الأديب الراحل ومكتبته لإحدى حالتين: إما أن يباع هذا التراث بأبخس الأثمان، ويقع في أبد لا تقدره حق قدره وبالتالي يضيع ويذوب في المكتبات الشخصية للأفراد، أو يكون بين ورثة الأديب الراحل من نال حظاً من التعليم أو الثقافة لا يمكنه من الوصول إلى الوسيلة الصحيحة التي تخدم هذا التراث وصاحبه، فيعمد هؤلاء الورثة في هذه الحالة على خزنه وحجبه عن الضوء، ويرفضون التعاون مع الأدباء والنقاد والباحثين الذين سيعينونهم على نشره والمحافظة عليه·
وقد يظن الجهلة وأنصاف المثقفين من ورثة كبار الأدباء أن كنز تراث الأديب سيتحول في الحجرات المظلمة إلى ذهب بقدرة قادر، وفي ظل هذا الوهم ضاعت مكتبات الكثير من الأدباء العظام واندثر تراتهم تحت غبار الإهمال وأسد عليه ستار النسيان·
وبهذا يكون أهل الأديب أول من يبدأ بظلمه بعد وفاته، ويسيئون إليه من حيث يريدون الإحسان، وظلم ذوي القُربى كا هو معروف أشد وقعاً على الأديب من ضرب الحسام، فينال منه الأهل والأحباب وهو في قبره ما لم ينله منه الأعداء في حياته، وهذه حقيقة مأساة لا تعدلها مأساة سينطل الأدباء العرب يعانون منها بعد وفاتهم ما لم تنهض الهيئات الثقافية الرسمية في بلادهم بعمل ينقذ تراثهم من الضياع ويحيى ذكراهم خالدة عبر الأجيال·
مسؤولية الهيئات الثقافية:
والمؤسف أن الهيئات الثقافية والأدبية الرسمية في معظم البلاد العربية لم تصل جهودها بعد إلى درجة الاهتمام بتراث الكبار من أدبائها وعلمائها كإقامة المتاحف التي تضم مكتباتهم ومتعلقاتهم الشخصية في دور خاصة أو ضمها إلى أركان خاصة بأسمائهم في المكتبات العامة حتى يتعرف القارئ والباحث على طريقة تفكير هؤلاء العمالقة من خلال موضوعات اهتمامهم· والجانب الثاني وهو الأهم أن تتولى الهيئات الثقافية الرسمية في البلاد العربية نشر المخطوط من تراث هؤلاء الأدباء، ومصر وهي مهد الفكر والثقافة والأدب في العالم العربي التي ظهر وعاش على أرضها أعظم أدباء العربية في العصر الحديث لم نقم الجهات الرسمية فيها بتحويل بيوت بعض كبار أدبائها إلى متاحف إلا مؤخراً، وما كان ذلك ليتم إلا بتعاون ورثة هؤلاء الأدباء مع تلك الجهات فتحولت دار أمير القراء أحمد شوقي إلى متحف كما تحولت دار طه حسين (رامتان) إلى متحف ومركز ثقافي في القاهرة كما قام ورثة بعض الأدباء بتحويل بيوتهم في قراهم النائية إلى متاحف ومكتبات هو كما الحال بالنسبة لمحمد عبد الحليم عبد الله وغيره.
ولكن لا يزال الغالبية العظمى من أدباء مصر الكبار ينتظرون الدور. دور الوفاء أمثال الرافعي والعقاد ومطران والمازني وزكي مبارك وعشرات غيرهم ومنهم أديبنا علي أحمد باكثير.
وقد يقول قائل: بأن العوائض الاقتصادية في مصر تحول دون إقامة متاحف تخص هؤلاء العظماء، فنقول بأن هؤلاء الكبار ليسوا ملكاً لمصر وحدها، وأن عطاءهم كان للعالم العربي كله وأنهم مفاخر للعرب والمسلمين ولن تتردد الدول العربية القادرة عن المشاركة في تشييد مثل هذه المآثر إذا ما دعت إليها الهيئات الثقافية في مصر لأن هذا تمجيد للعقلية العربية المسلمة·
باكثير وأدباء عصره:
ومن واقع إحساس بهذا كله بدأت الكتب والدعوة للمحافظة على تراث باكثير منذ قرابة خمسة عشر عاماً، ولم يكن صوتي هو الوحيد فقد سبقني إلى ذلك الكثير من أصدقاء باكثير وعشاق أدبه وفنه ويجيء في مقدمتهم الأستاذ الدكتور عبده بدوي والأستاذ أنور الجندي وغيرهم الذين ظلوا يقرعون الإسماع حين نحيي ذكرى وفاته في العاشر من نوفمبر من كل عام بأن باكثير ظُلم في حياته فلا بأس من أن نحيي ذكراه· ونحافظ على تراثه وننشر ما طوى من أدبه بعد وفاته، وقد كتبت عشرات المقالات غداة وفاة باكثير تنبه إلى هذه الحقيقة، وتدعو إلى إنصاف الرجل، ومن هذه الأقلام على سبيل المثال لا الحصر قلم الأستاذ أنيس منصور الذي كتب في جريدة الأخبار المصرية بتاريخ 41 نوفمبر 9691م يقول: >لم ينل ما يستحق من التقدير علي أحمد باكثير وليس العيب فيه وإنما العيب في زمانه والناس والقضايا التي يعرفها حتى لا تموت في دنيا الصراخ والمحسوبية والعصابات الفكرية وغير الفكرية·· أن فناناً بهذا الصدق والأصالة لا يموت لصمت ناقد أو نقاد فليس النقد هو الذين كتب له شهادة ميلاده وإنما الفن هو الذين ولده درباه وانضجه وسوف يبقيه·
وكتب الأستاذ فاروق خورشيد في نفس الجريدة يقول: >·· لست أعتقد أن هناك كثيرين من أدباء عصر باكثير قد اتضحت لديهم الرؤية مثل اتضاحها بالنسبة له·· ولست أعتقد أيضاً أن الكثيرين من أدباء جيله قد حظوا بهذا السلام الفكري النابع عن الإيمان الواضح بأشياء محددة مثلما حظي هو·· وربما كان هذا الوضوح في الكفر والموقف هو الذي سبب الموقف السلبي لكثيرين من النقاد الواعين الذين عاصروه في الاهتمام بما يكتب ويما يُبدع·
وقال في نفس المقال: >لم يظلم النقد الأدبي أديباً - على كثرة - من ظلمهم كما ظلم علي أحمد باكثير صاحب المغامرات الكثيرة في دنيا القلم وعالم الكتابة<·
وهناك العديد من المقالات والقصائد وقد جمعت منها ما يزيد عن الثلاثين ستصدر في كتاب بعنوان علي أحمد باكثير في مرآة أدباء عصره عن مكتبة مصر بالقاهرة قريباً·
ومع ذلك فهذه الأصوات التي نادت جميعاً بأن باكثير قد ظلم حياً فلا بأس من إنصافه ميتاً قد ضاعت في زحمة حياة القاهرة الخانقة، وهذا يذكرني اليوم بما كتبه المرحوم الأستاذ محمد عبدالحليم عبدالله قبل عشرين عاماً في مجلة الهلال، يناير 0791م، يقول: والعجيب أن جيل باكثير وأصدقاء صباه وشبابه وشيخوخته الفتية يملكون ولكنهم سينسون الأحياء والأموات، غير أن الشيء المهم جداً هو استمرار الحياة ومشاكلها يجعلنا ننسى المآسي، فماذا إذن سنذكر؟! أن مأساة الأفذاذ من الرجال لا تخصهم وحدهم، أنها بالنسبة لنا جميعاً مسؤولية ولا أقول عظه· فالعظة قد تخاطب العاطفة التي لا تلبث أن تغتر أما المسؤولية فإنها تلاحقنا مثل الدائن الشجيح المحتاج معا·
مساعي وجهود متعددة:
وقد أحس بهذه المسؤولية التي تحدث عنها عبدالحليم عبدالله - رحمه الله - وحملها رجال بدأت جهودهم قبل جهودي وأثمرت في كل من القاهرة وجده وصنعاء وحضرموت·
ففي جده تشكلت لجنة للمحافظة على تراث باكثير شارك البعض فيها برأيه وجهده وشارك بعضهم الآخر بماله وكان في مقدمتهم المصلح الاجتماعي الفاضل الشيخ عمر أحمد بادحدح والشيخ سعيد محمد العمودي والدكتور أحمد عبدالله السومحي والأستاذ عبدالله بن عثمان العمودي والأستاذ أحمد محمد صالح بابقي إضافة إلى صاحب المعالي الشيخ عبدالله عمر بلخير وصاحب المعالي الشيخ حسن محمد كتبي اللذين تحمسا للفكرة وفاءً للصديق الذي ربطتهما به وشائج الصداقة والمحبة منذ كان باكثير بالحجاز سنة 2531هـ وقد بدأت هذه اللجنة مساعيها في غضون سنة 0041هـ وكانت على اتصال دائم بالمحسن الفاضل الشيخ سالم عبيد باحبيش بالقاهرة التي وفقه الله لتوظيف هذه الجهود لتثمر بعد عام تقريباً في افتتاح مكتبة تحمل اسم علي أحمد باكثير في الدور السابع بالمركز الإسلامي العام لأعداد دعاة التوحيد والسنة بشارع العزيز بالله بالزيتون القاهرة، وقد ضمت هذه المكتبة مكتبة باكثير الشخصية وبعض الشهادات التقديرية التي حصل عليها من الدولة وبعض الأوسمة والجوائر·
وفي هذه الفترة 1041-2041هـ قبيل سفري للدراسة العليا بالولايات المتحدة وقفت على جهود هذه اللجنة وتعرف على رجالها الكرام وتجددت الأحاديث من خلال اللقاءات وبرزت على السطح بعض الإنجازات، كانت قد كتبت في القاهرة عدة مقالات وأبحاث تنصف باكثير وتعيد إليه بعض حقه وكتبت عنه بعض الدراسات الجامعية العليا بالجامعات المصرية وإن لم يقدر لها الطبع إلى الآن·
وفي الكويت خلال السنوات السبع التي أقضيتها للدراسة فيها (4791-1891م) كتب على اتصال مستمر بصديق باكثير الوفي الدكتور عبده بدوي الذي سعدت بأستاذيته وصحبته فكان إن كتبت عدة دراسات ومقالات عن أدب باكثير نشر معظمها بالصحف والمجالات الكويتية، وتُوجت الجهود في الكويت بأن أصدر الأستاذ د· عبده بدوي كتاباً بعنوان علي أحمد باكثير شاعراً غنائياً ضمن سلسلة حوليات كلية آداب جامعة الكويت سنة 1891م·
وفي جده أصدر الصديق الدكتور أحمد السومحي كتاباً بعنوان >الاتجاه الوطني والإسلامي في شعر علي أحمد باكثير سنة 2891م كان قد نال به درجة الماجستير من جامعة الأزهر بالقاهرة، وفي سوريا تحركت الأقلام الإسلامية تكتب عن باكثير، ويأتي في مقدمتها الأستاذ عبدالله الطنطاوي الذي أصدر كتاباً بعنوان دراسة في أدب باكثير سنة 7791م (7931هـ) والأستاذ محمد حسناوي ولعل أفضل ما كتبه هو دراسة على أحمد باكثير بين العقوق والإنصاف المنشور بمجلة الآداب أغسطس 0791م، وفي الأردن أصدر الأستاذ أحمد عبداللطيف الجدع كتاباً بعنوان علي أحمد باكثير شاعر من حضرموت، ووضع باكثير الأول بالمجلد التاسع من سلسلة شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث الصادر عن مؤسسة الرسالة، بيروت 5891م·
وفي القاهرة أصدر الأستاذ أحمد السعد في الجزء الأول من أدب باكثير المسرحي: المسرح السياسي عن مكتبة الطليعة بسيوط سنة 0891م· وفي الرياض طُبع كتاب الاتجاه الإسلامي في آثار باكثير القصصية والمسرحية للدكتور عبدالرحمن العشماوي 9041هـ، وفي لندن صدر كتاب الإسلام والالتزام دراسة في فكر باكثير الإسلامي للدكتور محمد أمين توفيق 8041هـ·
تقدير اليمن لباكثير:
وفي اليمن منفذ أوائل الثمانينات بدأ الاحتشاد للكتابة عن الطائر الهاجر علي أحمد باكثير، وبدأت الكتابة في صنعاء يتصدرها الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي كتب العديد من المقالات في الصحف والمجلات وبعض كتبه، وكتب الصديق الأستاذ أبو بكر البابكري دراسات ومقالات كثيرة في صحيفة الصحوة اليمنية يبلور الجانب الإسلامي في أدب باكثير، وقد توجت هذه الجهود في صنعاء بأن أقامت جامعة صنعاء مؤتمراً أديباً سنة 5891م تحت عنوان أسبوع باكثير الثقافي ألقيت فيه محاضرات وأبحاث في أدب باكثير·
والمؤسف أن يكون الوطن الذي أنجب باكثير آخر من يحتفل به، فقد حال سقوط حكام الجنوب اليمني تحت سيطرة الأوهام الماركسية دون دخول كتب باكثير إلى وطنه قرابة عشرين عاماً، وهكذا حورب باكثير داخل وطنه كما حورب خارجه ولا ذنب له إلا أنه أخلعت حياته لخدمة الفكر الإسلامي المستنير والقضايا العربية الكبيرة، وفي الأخير تنبهت الجهات الرسمية في عدن بضرورة الاحتفال بباكثير وربما عرفوا أن ماسكو تحتفل بذكرى الإمام البخاري لأنها تعتبره من مواليد ما يسمى الآن بالاتحاد السوفيتي رغم أنها تقف معه في النقيض، والمهم أن الأستاذ عمر الجاوي رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين كان وراء هذه الدعوة، وبالفصل استجابت الجهات الرسمية في عدن لهذا النداء وتم ترميم دار السلام< وهو الاسم الذي سمي به علي أحمد باكثير منزله في سيئون، تم الترميم على نفقة الدولة التي أطلقت عليه اسم دار علي أحمد باكثير ليكون متحفاً ومكتبة وداراً للأدباء وتم الافتتاح في مهرجان ثقافي كبير عقد في الفترة من 12 إلى 32 ديسمبر 5891، ودُعي إليه لفيف من الأدباء العرب كان أبرزهم الدكتور عبده بدوي وافتتح المهرجان عن الجهات الرسمية المهندس حيدر أبو بكر العطاس رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الماركسية سابقاً·
ولعل خير ما قبل في المهرجان من الجهات المحلية هو ما قاله الأستاذ عمر الجاوي في كلمته: ملعون ذلك الذي لا يقول الصدق·· وملعون ذلك الذي يريد أن يضع باكثير من حضرموت اليمن فقط، فباكثير عربي للأمة ومسلم لكل المسلمين·· وأدان الأستاذ الجاوي صراحة اتجاه الإعلام لمنع انتشار إنتاج باكثير فقال: نحن نعلم مقدماً أن إنتاج باكثير ليس منتشراً في وطنه، وربما تحفظت بعض الجهات على عدم انتشار إنتاجه ·· أن باكثير فنان كتب من وجهة نظره، واستحق أن يُخلد لأنه صاحب وجهة نظر··· وقد كانت هذه كلمة حق وإنصاف قالها رجل يؤمن بحرية الكلمة في عدن التي كانت تعتبر من يخالفها في الرأي عدد لها·
قال الأستاذ الجاوي وهو يعلم أن اسم باكثير كان لا يزال من ضمن الكتاب الإسلاميين الممنوعة كتبهم من دخول البلاد رسمياً وقتئذ كما أخبرني بنفسه، وهذا موقف يُحمد للأستاذ الجاوي لأنه هو نفسه يحمل فكراً يختلف عن فكر باكثير!! وعلى أية حال فقد منحت الدولة اسم باكثير وسام الآداب والفنون رقم 891 لعام 5891م بناءً على اقتراح قدمه مجلس الوزراء وأقرته هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى باليمن الجنوبي سابقاً·
وأوصى المهرجان بتوصيات رائعة لم ينفذ منها أي شيء إذا جاءت مذبحة 31 يناير بين رفاق السلاح لتقضى على كل شيء وتقتل مشاريع الابتسامات على الشفاه، ولو يعاد النظراليوم في هذه التوصيات ويتم تحقيقها في ضوء التغيرات الجديدة في اليمن كله، وفي ضوء دولة الوحدة وذوبان الكيان الماركس في بحرها·
1- يوصي المشاركون لجنة سيئون لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بإحياء ذكرى باكثير سنوياً·
2- يوصي المشاركون اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وأجهزة الثقافة والإعلام في الوطن اليمني بوضع تقليد راسخ لإحياء ذكراه اليوبيلية·
3- يوصي المشاركون بأن يصبح >دار السلام< منزل باكثير متحفاً باسمه يجمع فيه كل ما انتج باسمه مطبوعاً أو مسموعاً أو مرئياً بما في ذلك كل ما يتصل بحياته الشخصية·
4- يوصي المشاركون بنشر إنتاج باكثير على نطاق المسرح والشعر الفصيح والعامي على السواء >كأعمال كاملة< ويتبنى اتحاد الأدباء عملية الطبع والنشر والإخواج·
5- يوصي المشاركون الاتحاد بوضع تمثال نصفي للفقيد أمام متحفه، كتقليد يعمل به لكافة المبدعين في المستقبل·
يتبنى الاتحاد فكرة إطلاق اسم باكثير على بعض المؤسسات الثقافية والتربوية في وطنه اليمن·
6- يعمم الاتحاد عن طريق أجهزة التعليم نشر إنتاجه في المدارس كنصوص ونشاط مسرحي·
7- يوصي المشاركون الاهتمام بالبحث عن كل ميراثه في مصر وإندونيسيا وفي وطنه حتى تشكل محصولاً للبدء في تأسيس المتحف وللنشر والتصوير والإذاعة والبث التلفزيوني، ومادة للبحث الأكاديمي في جامعاتنا المحلية على نطاق المستقبل·
8- يوصي المشاركون الاتحاد بتبني قضية الدفاع عن الحقوق الكاملة مادياً ومعنوياً للأديب الكبير باكثير محلياً وعربياً ودولياً·
9- يوصي المشاركون بالاهتمام برعاية أسرة المرحوم الأديب باكثير وذويه ودعم كل الذينن يتبنون مسألة البحث عن ميراثه·
وللأسف لم ينقذ من هذه التوصيات إلا أولها فقط!!
صدور أول ديوان لباكثير:
وفي سنة 7891 صدر ديوان أزهار الربى في شعر صبا عن الدار اليمنية في بيروت وجده، ويُعتبر هذا الديوان بالنسبة لي أول ثمرة كبيرة لجهاد طويل في سبيل جمع تراث باكثير المتناثر بين حضرموت والقاهرة، فقد زرت أسرة باكثير في حضرموت في صيف 0891م·
ولقيت ترحيباً كبيراً من أخيه المرحوم الأستاذ عمر أحمد باكثير الذي كان على علم بما أكتبه في الخارج، وقد سلمني بثقة وكرم عدة كراريس تضم شعر باكثير في حضرموت وإندونيسيا وهي ما سماه الشاعر >أزهار الربى في شعر الصبا< كما حصلت منه على مجموعة من الرسائل التي كان يبعث بها باكثير لأخيه عمر من عدن والقاهرة، وهذا ما سيصدر في دراسة مستقلة إن شاء الله·
المهم أن الديوان استغرق أعداده للنشر قرابة عام ثم فيه تحقيق نصوصه والتعريف بأعلامه وغيره، ورغم أنني سلمته لدار النشر في صيف 2891م - قبيل سفري لأمريكا - إلا أنه لم ينشر إلا في شتاء 7891م، ولذلك قصة عجيبة: فقد ضاع الديوان في بيروت لمدة ثلاثة أعوام تقريباً ثم عُثر عليه بين أكراس الورق!!·
ومع أنه قد تم الإعلان عن الديوان أكثر من مرة بطرق غيره مباشرة أهمها الدراسات التي كتبتها عنه ونشرتها في ثلاث صحف عربية: جريدة القبس الكويتية 1891، المدينة السعودية صفحة التراث 2891م، جريدة الثورة اليمنية 1891م، وكانت هذه الدراسات إعلاناً عن الديوان وأهميته التاريخية للناقد الأدبي وللدارس لأدب باكثير لأنه يمثل مرحلة مجهولة من أدبه وهي مرحلة حضرموت ويقدم لنا باكورة شعره قبل مرحلة النضوح التام في مصر كما أنه أول ديوان لباكثير يصدر في كتاب· ومع ذلك لم ينتشر الديوان خارج المملكة العربية السعودية إلا من خلال معارض الكتاب في البلاد العربية الأخرى وخاصة مصر ولم يدخل الكتاب موطن باكثير لأسباب تجارية تتعلق بالنشر والتوزيع(!!) ولم يُكتب عن الديوان إلا القليل بل إنه لم يُعرف في مصر بدليل أن بعض الجهات الأدبية تساءلت عنه ظناً منها أنه لم يطبع بعد، وهذه هي مشكلة الطباعة والنشر خارج القاهرة وبيروت!·
ولم يكن هذا الديوان إلا خطوة نحو الأعداء لنشر شعر باكثير كله في ديوان ضخم يضم شعره في حضرموت عدن والحجاز ومصر، وقد بدأت هذا الجهد بأن عكفت طوال عشر سنوات تقريباً على التنقيب في الصحف والمجلات العربية التي توقعت أن ينشر فيها باكثير وقد جمعت معظم شعره المنشور ماعدا قصائد في مجلات وصحف قديمة لم أعثر عليها وجهت أيضاً كل ما نشره من قصص وتمثيليات في مصر وغيرها خلال أربعين عاماً من عمره الأدبي في مصر مضافاً إليها ما نشره قبل هبوطه مصر·
وبقي يشغلني بعد هذا تراث باكثير المخطوط في مصر، وخاصة أنني أعلم أن الكثير من شعره لم ينشر، وأنه قد بدأ في آخر أيامه يُعد شعره للنشر في ديوان كبير وأن هذا الديوان مقسم إلى أبواب حسب مراحله مثل الحضرميات >العدنيات والحجازيات، وهذا يعني أنه كتب شعراً كثيراً تحت هذه الأبواب كما حدثني الأستاذ د· عبده بدوي الذي كان أول من دخل مكتبته بعد وفاته، وأعرف أن باكثير ترك قرابة أكثر من عشر مسرحيات مخطوطة جاهزة للطبع وأن ظروف الحصار المفكري المضروب عليه لم تسمع له بنشرها، وكلنا يعرف أن باكثير لم يترك ذرية من صلبه من زوجه المصرية، وأن تراثه الأدبي أصبح منذ وفاته أمانه لدى الأستاذ عمر عثمان العمودي زوج ربيبته السيدة التي رعاها باكثير طوال عمره كابنه له، وعاشت إلى جواره حتى وفاته·
12 عاماً انتظار:
وكان أستاذي الجليل الدكتور عبده بدوي يتابع جهودي في جمع تراث باكثير الأدبي ويشجعني عليه منذ كنت طالباً بالكويت، وخلال السنوات الست التي أمضيتها في أمريكا كان تراث باكثير الأدبي من الموضوعات الرئىسية التي تدور حولها مراسلاتنا·
وقد كتب لي مرة يقول بخصوص ضرورة صدور ديوان باكثير كاملاً: إن صورة باكثير لن تقم إلا حين تظهر كل خطوطها وألوانها وظلالها، فمن حقه مادام قد كتب بأصالة أن يتواجد في ضمير أمته بعمق، فطاقة باكثير الحقه - من وجهة نظري - تتواجد في الشعر، والشعر هو الذي دفعة إلى المسرح والرواية، لذلك فالشعر هو أهم مصادر الطاقة عند باكثير، فهو الذي ولدّ بنوغه في كل ما كتب، وهو الذي يعطيه - وهو في جوار ربه - طاقةً على التجول في العديد من العصور، ومن حق باكثير أن يبقى، ذلك لأننا إذا نفيناه مرة أخرى - كما نفيناه من قبل، نكون قد حكمنا على أمتنا بالبوار، ونكون قد سلمنا رقبة الحرف العربي إلى المقصلة! ·
وهكذا بعد أن صدر شعره الأول في ديوان أزهار الربى وبعد أن جمعنا شعره المنشور المتناثر في الصحف والمجلات بقيت الخطوة الثمانية وهي الحصول على شعره المخطوط، وفي هذه الفترة أعادت مكتبة مصر بالقاهر، طبع كل مسرحيات وروايات باكثير للمرة الأولى أو الثانية بعد وفاته وكانت تلك وقفة وفاء من المكتبة وأصحابها الذين ينظرون لمؤلفات باكثير على أنها رسالة قبل أن تكون تجاره وبقيت الخطوة الثانية أن ندفع لهم بالمخطوط من مسرحيات باكثير التي تركها جاهزةً للطبع قبيل وته رحمه الله·
في الرياض مع جهود د· بامحسون:
وفي الرياض وجدت الأخل الكريم الدكتور عمر عبدالله بامحسون قد بدأ السير في طريق جمع التراث الحضرمي، وبذل جهوداً رائعة في اقتفاء حروفه وتتبع مصادره في كل مكان، وقد سافر بنفسه إلى شرق آسيا وزار إندونيسيا وسنغافورا خصيصاً لهذا الغرض، باذلاً من وقته وجهده وماله ما يمكنه من جمع كل مخطوطه أو مطبوعه خلفها الأجداد الذين نشروا الإسلام هناك بالموعظة والقدوة الحسنة، وكان في ذهن صديقنا الدكتور بامحسون دائماً أن علي أحمد باكثير نفسه - يعتبر ثمرة من ثمار الوجود الحضرمي الإسلامي في إندونيسيا·
والتقت جهودنا عند هذا المحور الهام، وكان هو عدد من الإخوة يأتي في مقدمتهم الأخ الفاضل الأستاذ أحمد فرج بلجعد والأستاذ الدكتور محمد باكلا والأخ الدكتور تركي سعيد باحشوان والأخ الدكتور خالد العمودي خير مشجع ومعوان علي المضي قدماً في خدمة هذا الجزء المهمل من التراث الإسلامي لليمن بل ولجزيرة العرب كلها والمسلمين أجمع·
ووافق في هذه الفترة أن وصل من حضرموت الأستاذ الشاعر أحمد عبدالقادر باكثير ابن أخ الأديب الراحل لوكيل الشرعي لورثة المرحوم باكثير الذي تفرغ منذ عدة سنوات لخدمة تراث عمه العظيم وظل يواصل رحلات مستمرة بين حضرموت وصنعاء والقاهرة وجده وأخيراً في الرياض جزاه الله عن عمه وعن التراث العربي خير الجزاء·
وفي هذه الأثناء دفع الدكتور عمر بامحسون بفكرة السفر إلى القاهرة لإنقاذ ما تبقى من تراث الأديب الراحل وإخراجه إلى النور، وكان من المتفق عليه أن يسافر معي الأستاذ أحمد باكثير غير أن ظروفاً خارجة عن آراءه حالت بينه وبين ذلك، ومن كدت أحجم عن السفر وبدأت تراودني فكرة التأجيل، ولما علم الأخ الكريم الأستاذ أحمد محمد عباد بذلك ألقى لي محاضرة في أهمية السفر إلى القاهرة خاصة أنه سيكون هناك بنفسه ثم وجدت الدكتور عمر بالمحسون يتصل بي في جدة ويقول لي: لقد تأجلت هذه المهمة أكثر من عشرين عاماً فأرجوك أن لا تزيدها عاماً آخر·· أن تراث باكثير يدعوك إلى إخراجه إلى النور· وقد وجدت لهب الحماس والصدق والإخلاص في حديثه يشعل حماس من جديد بعد فتور، وفي العاشر من يوليو 0991م كان الأستاذ أحمد عباد يستقبلي في مطار القاهرة وهو يقول باسماِ: لابد من مصر وإن طال السفر!!·
كنت مقرراً عشرة أيام أو أسبوعين للقاهرة ولكنني حين وصلت وجدت أن برنامجاً طويلاً يجب أن أسير عليه، وقال لي أحد الأصدقاء أنت لا تستطيع أن تنجز أكثر من عمل واحد في اليوم الواحد في مصر وعليك أن تعتبر ذلك إنجازاً كبيراً إذا فعلت، وحدت ذلك بالفعل فكانت الأيام مطاطه وتحولت العشرة أيام إلى أربعين يوماً انقض فيها العمل على ثلاث شعب: الدولي الاتصال بالأستاذ عمر العمودي والحديث معه حول تراث باكثير، والثانية الالتقاء بمن بقي من رفاق عمر باكثير من أدباء مصر ، والثالثة محاولة وضع فكرة إنشاء متحف أو جمعية أدبية باسم باكثير·
أسيرة الأديب بعد وفاته!
وبدأت اتصالي بالأستاذ العمودي الذي رحّب بي منذ أول محادثه هاتفية، وزته في نفس الليلة بصحبة الأستاذ أحمد عباد الدي كان خير عونٍ خلال إقامتي بالقاهرة التي يعرفها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكان لقاءً رائعاً وطويلاً مع الأستاذ العمودي والسيدة زوجه وحديث الذكريات عن أبيهم وأستاذهم المرحوم علي أحمد باكثير·
وروى لي الرجل قصة جهاده في سبيل المحافظة على تراث أستاذه العظيم، وقال لي: إنه ظل محافظاً على مكتبة باكثير ومحتويات شفته كما هي منذ وفاته في نوفمبر 9691م، وذلك خلال السنوات التي عاشتها السيدة أرملة باكثير وحتى وفاتها سنة 9791م، وكان آمله أن تهتم الجهات الرسمية وتتحول شقة باكثير في يوم من الأيام إلى متحف له·
وبدلاً من أن تعطي الدولة الأستاذ العمودي فرصة لخدمة موروث باكثير الأدبي شغلته بالمطالبة بحقوق أسرة الأديب الرالح، فلقد عاش باكثير حياته كلها قانعاً براتبه الذي لا يكاد يسد حاجته، لا يركض خلف مال يجنيه من كتبه مكتفياً بانتشارها وذيوعها، منصرفاً عن ما يتهالك عليه الناس في دنياهم إلى جو روحي خالص لنفسه، يشعر دائماً بالاطمئنان إلى المستقبل، فلم يشعر يوماً إنه فقير إمام صاحب مال، مؤمناً بأن غناه في نفسه وعلمه وأدبه، ولم تكن عائلة باكثير الوحيدة التي عانت بعد وفاة رجلها العظيم، وإنما هذا شأن معظم المبدعين في عالمنا العربي بعد رحيلهم·
وهكذا عانت أرملة باكثير الأمرين من الإبراءات المكتبية، وعانى الأستاذ العمود والسيدة زوجه ربيبة المرحوم باكثير من الوقوف أمام الموظفين وكتابة الرسائل والالتماسات للمسؤولين من أجل الحصول على معاش استثنائي لأرملة باكثير التي لا عائل لها غيره، ورغم أن عدداً من زملاء باكثير وأدباء عصره كانوا يستطيعون فعل شيء له بعد وفاته بعد أن خدلوه في حياته إلا أنهم لم يفعلوا وتخلوا عنه حياً وميتاً، وهذا يذكرني بشهادة أولى بها الأستاذ محمد عبدالحليم عبدالله - رحمه الله - في مقاله الذين سبقت الإشارة إليه حين قال: لقد كان (باكثير) عربياً دخل مصر الكريمة لكنه لم يشعر بأواصر الصداقة التي عقدها بينه وبين المشهورين من كتاب جيلنا - عفا الله عنهم - لم يكن يشعر أنها قدرة على أن تعطيه كل ما يريد·· ثم رأيته كثيراً وهو يتحدث عن العودة إلى وطنه·
وبعد لأي وجهاد طويل لجأ الأستاذ العمودي إلى الدتور عبدالقادر حاتم - وزير الإعلام المصري السابق - فوجده وفياً لا يزال الدكتور حاتم أن يستصدر قراراً من رئاسة الجمهورية برقم 337 لعام 1791 لصالح أرامل الأدباء والفنانين تستفيد منه أرملة باكثير بهاش شهري قدره 57 جنيهاً مصيراً، ولكن خطأ تعبيرياً يحدث في صياغة هذا القرار يؤدي إلى تعقيد الأمور وحرمانها من نصف المبلغ المقرر لها، فبدلاً من أن يكون المعاش لأرملة المرحوم باكثير جاء النص باسم ورثة المرحوم باكثير، وذهبت السيدة الفاضلة التي خدمت أديب العربية الكبير قرابة أربعين عاماً وهيأت له المناخ الملائم للإبداع والمسكن الهادئ والسلام الدائم طوال عمره·· ذهبت هذه السيدة الفاضلة ضحية هذا اللبس وظلت تعاني من عدة أمراض حتى أن عملية جراحية كانت تحتاجها لم تتم بسهولة ويسر برغم صدور قرار بعلاجها! وقد اطلعني الأستاذ العمودي على رسائل موجهة باسمها إلى الرئيس الراحل أننور السادات الذي كانت تربطه بباكثير صداقة منذ أول أيام الثورة وإلى السيدة جيهان السادات وإلى الأستاذ المرحوم يوسف السباعي وزير الثقافة آنذاك، وربما حسنت النوايا ولكن لم تهيئ لها الظروف سبل التحقيق من خلال التعقيد الإداري والمكتبي الذي ابتليت به الدوائر الحكومية من البلاد العربية، وهكذا توفيت السيدة هاجر حرم الأديب الراحل بعد تسع سنوات من وفاة زوجها·· توفيت وهي لم تكف عن نداء اسم الأستاذ حتى بعد وفاته، وظلت ترى حياتها فارغة المضمون من بعده، وتنتظر يوم اللحاق به حتى حققه الله فتركت هذه الدنيا كزوجها غير آسفة، وفي نفسها حسرة وأسى على ضياع المعروف وقلة الوفاء في الناس!·
قلة الوفاء وموت الضمير:
كانت شقة الأديب الراحل بالقاهرة تقع في الدور السابع في عمارة مطلة على النيل تحمل رقم 111 شارع الملك عبدالعزيز آل سعود بمنيل الروضة، وقد عاش فيها باكثير قرابة عشرين عاماً وشهدت مولد معظم مؤلفاته وأصبح موقعها مشهوراً لاقترانه باسمه، وكان الأستاذ العمودي بأمل أن تتحول هذه الشقة إلى متحف يضم تراث باكثير، وكان يعتقد أن ملاك العمارة والجهات الثقافية ستتفهم وتتعاون في تحقيق هذا الحلم، وفجأة بعد وفاة حرم باكثير بقليل يتلقي الأستاذ العمودي إنذاراً بإخلاء الشقة موجهاً من ورثة مالك العمارة المرحوم إبراهيم السقاف، ويحطم الحلم قبل أن يتحول إلى فكره وبعجل تتحول القضية إلى المحكمة، ويصرخ الأستاذ العمودي في الجهات الرسمية والثقافية منادياً بأن تراث الأديب الذي خدم الأدب العربي قرابة أربعين عاماً في مصر معرض للضياع··
كيف يخلى الشقة التي كتب باكثير بين جدرانها روائع أعماله وحملت ذكريات السنوات الطويلة أين يذهب بمكتبة باكثير وأوراقه وأضابيره، إن شقته الصغيرة لا تتسع لكن هذا التراث، وانتشرت رائحة القضية وكتبت عنها بعض الصحف ولكن ·· لقد أسمعت لو ناديت حياً·· وكان مصير شقة باكثير ننسى المصير الذي آلت الله الشقق والبيوت التي عاش فيها العظماء والمبدعين: الهدم أو الطرد، ولا ننسى القضية التي ثارت حول البيت الذي كانت فيه الشقة التي عاش فيها العقاد قرابة ثلاثين عاماً وحملت مكتبته التي زادت عن ثلاثين ألف كتاب، ولم يكن غريباً إذن يخسر الأستاذ عمر العمودي القضية وبذلك تخسر الثقافة العربية وتخسر مصر مكاناً تاريخياً كان من الممكن أن يتحول إلى فرار للأدباء والقراء يقال لهم فيه هنا أبدع باكثير معظم كتبه·· هنا كتب وهنا قرأ وهناك كان يرتاح ومن هذه الشرفة كان يطل على النيل متأملاً الكون من حوله تاركاً دخان غليونة يتطاير سابحاً في الفضاء، كان من المملكن أن تنتصر المبادئ لو وقفت معها أجهزة ثقافية واعية وجهاز قضائي لا يتسلل النية بعض ضعاف النفوس، ولكن المؤسف أن أمراً صدر من المحكمة بإخلاء الشقة التي عبقت بأنفاس باكثير لصالح ورثة مالك العمارة الذين أرادوا تحويلها إلى شقة مفروشة!·
وقال لي الأستاذ العمودي: إن ملاك العمارة قد اشتروا الحكم بالمال وضاعت نزاهة القضاء بأيدي حفنة من المرتشين ونص الحكم بأن يتم الإخلاء خلال أسبوعين أو عشرة أيام ، وأحس الأستاذ عمر العمودي بالكارثة، كل شيء يسهل حمله ولكن إلى أين يحمل مكتبة باكثير وأين يحفظ تراثه الثمين· وحل موعد الإجلاء ولم تكن عائلة الأستاذ العمودي قد استطاعت إخلاء شقة باكثير ولا نقل كتبه وداهم عمال من طرف المالك الشقة وبدأوا ينقلون إليها أثاثاً آخر في محاولة لوضع الأستاذ العمودي أمام الأمر الواقع· ووضعت كتب باكثير على السلالم حتى استطاع الأستاذ العمودي تدبير مكان لها لدى بعض أقاربه مضطراً، وابتعدث الأمانة عن الأمين الذي ظل يحرسها منذ وفاة صاحبها العظيم·
وعندما أنشيء المركز الإسلامي بشارع العزيز بالله بجهود المحسن الكريم الشيخ عمر عبيد باحبيش اقترح الشيخ عمر أن تنقل مكتبة باكثير إلى مكتبة المركز وتسمى المكتبة باسم باكثير، وبالفعل وجد الأستاذ العمودي هذه وسيلة لحفظ كتب باكثير من الضياع وتحقيقاً لهدف من أهداف باكثير في الحياة وهو خدمة الناس الناس وتقديم إليهم ما ينفعهم وانتقلت مكتبة باكثير الشخصية وتم افتتاحها في حفل كبير أما مؤلفات باكثير المخطوطة وأوراقه ومقتنياته الشخصية فقد بقيت أمانة لدى الأستاذ العمودي حتى تتهيأ الظروف لإقامة متحف خاص بها أما في القاهرة أو حضرموت وحسناً فعل·
كان هذا كل ما تم لباكثير بعد مضى أكثر من عشرين سنة وفاته، وكان الأستاذ عمر العمودي - كما قال لي - خلال العشرين سنة الماضية أن يتم تحقيق الأمل الذي بدأ باكثير رحمه الله يعد له في آخر أيامه وهو جمع شعره ونشره في ديوان كبير وطبع مسرحياته الأخيرة وهي حوالي عشر التي تأخر طبعها نتيجة للحصار الذي فرضه اليسار الانتهازي عليه والذي كان وقتذاك مسيطراً على الأجهزة الثقافية في مصر·
وقال لي الأستاذ عمر العمودي: إنه فتح مكتبة باكثير لبعض الباحثين الذين أرادوا الاطلاع على مخطوطات الأديب الراحل، واشتكى من عقوق بعض هؤلاء الذين لم يبعثوا بنسخة معا مما كتبوه بعد نشره مرفقاً بكلمة شكر، وذكر لي أنه فتح مكتبة باكثير وبيته - قبل الانتقال منه - للصديق الدكتور أحمد عبدالله السومحي أثناء تحضيره لرسالة الماجستير عن باكثير وشعره وكان ذلك في حياة السيدة حرم المرحوم باكثير، وذكر لي أنه فعل نفسي الشيء مع باحثة مصرية كانت تحضر الماجستير في مسرح باكثير وهي السيدة مديحة عواد سلامة وغيرهم·
وقال: إن الأستاذ الدكتور عبده بدوي كان أول من دخل مكتبة باكثير بعد وفاته وقد كان أقرب أصدقاء باكثير إلى قلبه في السنوات الأخيرة من حياته وكان أكثرهم وفاء بعد وفاته، وكان يريد التعاون مع د· بدوي لإخراج ديوان باكثير ولكنه قال إن ارتباط د· بدوي بجامعة الكويت وسفره حال دون المتابعة وتحقيق هذا الأمل·
بين أوراق باكثير الخاصة:
وابتداءً من يوم 62 يوليو 099م فتح لي الأستاذ عمر العمودي بيته للتعرف على محتويات مكتبة الأديب الراحل من أوراق خاصة وملفات ومخطوطات أدبية، فما أن جئت في صباح ذلك اليوم حتى وجدت ركن صالون بيته قد امتلأ بأكداس الورق من كراريس وملفات لم تمسها يد منذ وفاة باكثير، وقال الأستاذ العمودي: نحن لا نفهم في هذه الأوراق ولم تدع لي مشاغل الحياة ومشاكلها وقتاً لتفحصها نقضت زهرة العمر على ذلك المنوال·
وصمت لحظة نظر فيها بحزت إلى الأوراق أمامنا وقال: كنت أتمنى أن أخدمه بنفسي ولكن هذا من حظك وأظن هذا الانتظار الطويل من أجلك لتأتي بعد أكثر من عشرين عاماً من وفاة الرجل وتعيده إلى الحياة من بعثك لكتبه وأوراقه، فليوفقك الله، ولا تحسب أن هذا كل ما عندي، فهناك لا تزال أكداساً مثلها تنتظرك ولا تفكر في مغادرة القاهرة قبل أسبوعين من الآن، لأنك ستحتاج أن تكون معنا كل يوم إلى الليل!!·
وبالفعل شمرت عن ساعدي وبدأت العمل منذ دخل اليوم وأشهد أني لقيت من الأستاذ عمر العمودي وأسرته الفاضل كل ترحيب وكرم ورحابة صدر فأشعروني أنن في بيتي وبين أهلي وأزلوا عن كل حرج فكنت أواصل العمل هناك من الصباح إلى آخر الليل أحياناً ما عدا وقت الغذاء الذي اجتمع فيه إليهم ويدور فيها حديث ذكرياتهم مع الأديب الراحل·· الذي كان حديث الوفاء·· حديثاً شهياً لا يكاد ينقطع طوال أوقات زياراتي لهم·
وأمضيت ما يقرب من عشرين يوماً أتردد على منزل الأستاذ عمر العمودي ليل نهار وأغرق لساعات طويلة بين أقداس الورق التي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من عاماً، وقد وجدت أن الأديب الراحل قد حرص كل الأوراق والوثائق التي تعين الباحث على دراسة حياته، حتى الأوراق التي نرميها عادة في سلة المهملات بعد أن ينتهي حورها وجدت أن باكثير رحمه الله يحتفظ بها كملاحظة يكتبها لنفسه عن موعد يريد تذكره أو تعليق في مطورٍ قليلة حول شيء معين، ومن حسن حظنا أن الأستاذ عمر عثمان العمودي قد حافظ على كل ورقة من هذه الأوراق الي تركها أستاذه، ولا شك أن الكثير من هذه الأوراق قد أماطت اللثام عن الكثير من المراحل الغامضة في حياة أديبنا الرالح·
ويمكن القول الآن أن موروث باكثير ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية الأولى مادة أدبية جاهزة للنشر والثانية مادة تتعلق بحياته الشخصية تعين الباحث على الكتابة عنه، والثالثة متعلقاته ولوازمه الشخصية تعين على إنشاء متحف له·
مسرحيات تنتظر النشر:
وأهم في هذه المواد الجاهزة النشر أنني وجدت حوالي عشر مسرحيات مطبوعة على الآلة الكاتبة وجاهزة للطبع والنشر وهي كالآتي:
الوطن الأكبر: وهي مسرحية شعرية وأهميتها تتمثل في الناحية الفنية، لأنها مكتوبة أخناتون ونفرتيني سنة 0491· وعودة باكثير إلى كتابة المسرح بالشعر الحر تمثل انعطافاً فنياً جديداً بدأه في آخر أيامه وهي بحاجة إلى وقوف الدارسين عندها وخاصة وأنه لم يجدد شيئاً في مضمونها الذي هو نفس مضمون وقصة مسرحية إبراهيم باشا وهي من مسرحياته الأولى· وهذا يؤكد أن إعادة الكتابة بالشعر الحر كان منعطفاً جديداً في مفاهيم باكثير وناحية فنية مهمة، وهي تعتبر المسرحية الثانية بعد أختانون ونفرتيني< التي كتبها باكثير بالشعر الحر·
قصة أهل الربع: مسرحية اجتماعية مستمدة حوادثها من الحياة المصرية المعاص وما استجد فيها من مشكلات في أواخر الستينيات·
مأساة زينب وأحلام نابليون: جزآن من ثلاثيه تصوركفاح الشعب المصري ضد المستعمر الفرنسي نشر الجزء الأول منها في حياة المؤلف بعنوان الدودة والثعبان ويمكن أن تنشر كل مسرحية مستقلة لأن كل جزء متكامل من أحداثه وبنائه الفني·
حرب البسوسي: مسرحية سياسية رمزية كتبها من أعقاب هزيمتنا المنكرة في سنة 7691م·
حزام العفة: مسرحية سياسية فكاهية يحمل فيها على الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبه الذي تنكر للمبادئ التي كان يدعو لها بعد أن تولى مقعد الحكم في تونس وهي تمثل أيضاً خيبة أمل باكثير الشخصية في هذا الرجل الذي كان صديقاً له وكثيراً ما لجأ إلى بيته أيام تشرده في مصر ثم أدار ظهره للرجال والمبادئ بعد أن أصبح رئيساً!·
شلبية: مسرحية اجتماعية من الحياة المصرية المعاصرة وهي المسرحية الوحيدة التي وجدتها مكتوبة بالعامية المصرية في كل نسخها، ومن الواضح أنها كانت معدة للتمثيل المحلي·
عرائس وعرسان: مسرحية اجتماعية من الحياة المصرية المعاصرة وهي معدة في نسختين نسخة في قالب مسرحي والأخرى من قالب إذاعي جاهز ومقسم إلى حلقات·
فاوست الجديد: مسرحية مأساوية مستوحاه من الأسطور الأوروبية المعروفة التي اشتهرت بها مسرحية جوته ومن قبله مارلو الإنجليزي، ومسرحية باكثير تمثل صياغة جديدة لهذه الأسطورة بصورة تتفق مع التصور الإسلامي·
عاشق من حضرموت: مسرحية شعرية مستوحاه من تراث القصص الشعبي الحضرمي ذات الأصول الواقعية وبطلها الشاعر الشعب الحضرمي ابن زامل الذي أحب فتاة حتى الموت في قالب مأساوي أشبه بقصص قيس ولبنى وروميو وجوليت، ومن الواضح أنها مستوحاه من رحلته الأخير إلى حضرموت سنة 8691م وقد وجدت في مذكراته تسجيل للخطوط العريضة لقصة الشاعر ابن زامل كما سمعه من الدواة·
الشاعر والدبيع: وهو عنوان مسرحية شعرية قصيرة تضم مسرحيات شعرية قصيدة مثل حطين الثانية·
قصائد مسرحيات بالإنجليزية والفرنسية:
من المعروف أن باكثير كان يتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فهو خريج قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب سنة 9391م ثم عمل مدرساً للغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية المصرية لمدة أربعة شعر عاماً ثم سافر إلى فرنسا في بعثة ثقافية بعد ذلك، وكنت أعرف مسبقاً أنه قد أعاد بالإنجليزية كتابة مسرحية السياسية الشهرية شيلوك الجديد التي تنبأ فيها بقيام دولة إسرائيل قبل قيامها بثلاث سنوات، وقد عرفت من خلال اطلاعي على مراسلاته مع صديقه الشيخ عبدالله بلخير - الوزير على عهد الملكين عبدالعزيز وسعود - أن محاولة قد جرت لطبع المسرحية في لندن من خلال المستشرق عبدالله قلبي ولكن دور النشر هناك لم تقبل بنشر مسرحية تحذر من خطر الحركة الصهيونية في فلسطين·
وقد دهشت أن رأيت أعمالاً أخرى باللغتين، فما كنت أعرف ولا أظن أن أحداً من النقاد يعرف أن لباكثير إنتاجاً إبداعياً بالإنجليزية والفرنسية حتى إنني لما ترجمت له في الولايات المتحدة مسرحيتي سر شهر زاد وهاروت وماروت< سنة 7891م لم يكن يخطر لي ببال أنني سأجدهما مترجمتين بقلمه (إلا أن ترجمته كانت بتصرف لا يملكه إلا المؤلف أما ترجمتي فقد التزمت بروح النص العربي للمسرحيتين)، وقد وجدت النصوص التالية مترجمة إلى الإنجليزية ومطبوعة على الآلة الكاتبة مع أصولها بخطة وكلها مسرحيات:
1- شيلوك الجديد
2 سر شهر زاد
3- هاروت وماروت
4- مأساة أوديب
وقد وجدت مرحية الفلاح الفصيح مترجمة إلى الإنجليزية في شكل أنيق مهداة إليه من طالب سودي بجامعة دمشق نال درجة الماجستير على توجيتها سنة 4691م· كما وجدت بعض مشروعات قصائد بالإنجليزية لم يهتم بتبييضها وقليل منها مكتوب بخط واضح·
أما باللغة الفرنسية فقد أعلم مسبقاً بترجمة مسرحية سر شهر زاد وأنها طبعت في كتاب غير أنني لم أطلع عليه، وقد وجدت عدة نسخ منهذا الكتاب لدى الأستاذ العمودي وقد علمت منه أن باكثير - رحمه الله - قد طبعه على نفقته· أما الجديد فهو ترجمته لمسرحيته مأساة أوديب وقد وجدت الترجمة في نسختين نسخة بخط قلمه والنسخة الثانية مطبوعة على الآلة الكاتبة وعليها تعديلات بخطه، هذا إلى جانب عدد من القصائد وملخصات لبعض مسرحياته·
أوراق منسية في حضرموت:
وأقصد به إنتاج باكثير النثري في حضرموت قبل هبوطه مصر، وهو ينقسم إلى قسمين مجموعة مقالات تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي في وطنه والثاني دراسات لغوية وأدبية وأغلبها نشر في مجلة التهذيب التي كان يحررها في حضرموت سنة 1391م والبعض الآخر نشر في مجلات حضرمية في إندونيسيا وسنغافورا وفي مجلة المعرفة وهذه مرحلة من إنتاجه طواها الزمن بقدومه إلى مصر، وقد جمعناها وسنعمل على نشرها في كتاب مستقل مع بقية إنتاجه المخطوط·
041 تمثيلية سياسية وإسلامية قصيرة:
وهناك التراث الذي يضم عشرات التمثيليات القصيرة التي تصلح للنشر وللإذاعة والتي ربما قدم بعضها لإذاعة الكويت في حياته، وقد وجدته قد قسمها تقسيمات معينة بحيث تنشر كل عشراء أكثر في كتاب مستقل، ومعظم هذه التمثيليات التي تزيد عن السبعين مستمدة من التاريخ الإسلامي والسنة النبوية الشريفة وهي بلا شك ستكون ركيزة لفن التمثيل الإسلامي النقي، أما التمثيليات السياسية فهي تزيد أيضاً عن السبعين وقد نشر معظمها في جريدي الدعوة والإخوان المسلمين في الأربعينيات وهي تراث عظيم يمثل العبء الكبير الذي حمله باكثير في مرحلة الغليان الذي مرت به الأمة العربية والإسلامية منذ بداية الحرب العالمية الثانية وقيام دولة إسرائيل إلى حدوث انقلا 2591م في مصر، وفي هذه التمثيليات سجل باكثير مرحلة من الكفاح السياس العربي من وجهة النظر الإسلامية وتناول الكثير من القضايا والشخصيات بجراة ودراية واهتمام لم نجده في أي أديب من معاصريه· وبهذا يظل باكثير الأديب الوحيد الذي قارع الصهيونية والاستعمار صراحة وجهاراً بقلمه في أعمال متميزة وكثيرة في تلك المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمة العربية، ومن حق هذه المسرحيات أن تجمع اليوم وتخرج إلى الحياة في سلسلة كتب أو مجلد كبير لأنها تسجيل فني لحقبة من تاريخنا السياسي·
رحلات ومذكرات شخصية:
وقد عثرت من بين أوراقه خاصة على عدة كراريس تحتوي على مذكرات يومية كان يكتبها أثناء رحلاته ومن حسن الحظ أن كتب مذكرات عن الفترة التي أقامها بالحجاز بعد خروجه من حضرموت سنة 2531هـ وهي مرحلة لا نعلم عنها كثيراً، وتحدث فيها عن أدباء الحجاز الذين اتصل بهم مثل الشيخ عبدالله بلخير، حسن كتبي، محمد حسن فقي، الفزاوي، طاهر زمخشري، عبدالقدوس الأنصاري، ضياء الدين رجب، عبداللطيف أبو السمح وغيرهم ومذكرات أخرى عن الرحلة الرسمية التي رأس فيها وفداً مصرياً لحضور مؤتمر أدبي في طشقند بالاتحاد السوفيتي وقصة مواصلته السفر بمقرده إلى كل من ألمانيا، النمسا، بولندا، إيطاليا، تشيكوسلوفاكيا حتى عودته إلى مصر وكان ذلك سنة 8591، وقد حوث ملاحظاته وتعليقاته على الحياة والناس هناك وما حدث له معهم من طرائف·
كتاب عن شعراء حضرموت:
وقد عثرت على كراستين من هذا الكتاب بخط باكثير نفسه لدى شقيقه الأستاذ عمر أحمد باكثير عند ما زرته في حضرموت صيف 0891، ثم لقيت الجزء الأول من هذا المخطوط لدى الأستاذ الجليل عبدالقادر بن أحمد السقاف عند لقائي به في منزله بجدة بعد ذلك بعامين، ولعل هذا الجزء الأول يعتبر أهم الأجزاء لاحتوائه على مقدمة اعتبرها من أهم ما كتب عن الشعر الحضرمي الفصيح والعامي، وقد كان الإهداء على الصفحة الأولى كالتالي:
إلى مستودع الأمل، ورجال المستقبل
إلى النشئ الحضرمي الوثاب
إلى تلك الأدمغة الصافية التي لم تعلق بها الأوهام، ولم تعبث بها الغير أهدي كتابي هذا كأول زهرة في أصيص تاريخ الأدب الحضرمي، ولي الأمل الوطيد أن يضموا إلى هذه الزهرة إخواتها من نتاج قرائحهم، فتتألف من ذلك باقة متألفة الأنور·
ثم كان لقيت بين أوراق في القاهرة الأجزاء الأخرى من هذا المخطوط مع الأجزاء الأولى مما يدل على أنه حرص على أن يكتبها أكثر من مرة، ولقيت مادة أخرى ضمن رسائله تضاف إليه وهي مجموعة رسائل من أولاد الشعراء الذين أراد الكتابة عنهم فيها ترجمة آبائهم ونماذج من أشعارهم مما يدل على أنه قد اهتم بمتابعة هذا المشروع حتى بعد وصوله مصر لأنه بدأ في كتابعة بحضرموت سنة 7291م ولعل ظهور كتاب تاريخ الشعراء الحضرميين للأستاذ عبدالله السقاف جعله يتوقف عن مواصلة مشروعه وخاصة أنه يقال إن الأستاذ السقاف قد استعان بالمادة التي جمعها قبله باكثير، ولكن يظل كتاب باكثير بحاجة للنشر لأنه يقدم هؤلاء الشعراء في أسلوب مختلف وبمفهوم يختلف عن مفهوم السقاف، ويظل وثيقة تاريخية أخرى عن شعراء حضرموت بين أيدينا لأنه لم يكتب عنهم أحد إلى الآن بسعة السقاف ولا بدقة باكثير·
اكتمل الآن ديوان باكثير:
ومن خلال وقوفي على كل أوراقه وجدت أن باكثير قد بدأ بالفعل يجمع شعره في آخر أيامه، وبدأ ينظمه تحت أبواب معينة تخضع للأمكنة فهناك شعر كثير تحت باب الحضرميات والعدنيات والحجازيات وهو مجموعة ومكتوب بخط جميل واضح، ولكن الموت قطع عليه مواصلة جمع مراحل شعره في مصر وهو الأكثر والأغزر، ولقد كانت مهمتي صعبة في جمع هذا الشعر والتعرف عليه، فلقد وجدت عشرات القصائد متناثرة في كل مكان، فهناك قصائد في بطون الكراريس وهناك على أغلفة كتب وقصائد كتتها على قصاصات ورق ونسيها في بطن كتاب وقصائد أخرى مكتوبة على أنواع مختلف من الورق جمعها ووضعها في مغلف رسائل على أمل العودة إليها، وهناك قصائد على كراريس ملخصات نثرية لمشروعات مسرحية وقصائد في مفكرات الحبيب التي لا تفارقه أبداً كما وجدت قصائد مكتوبة على ما تبقى من فراغ في رسائل تصل إليه يرد على موضوعاتها·
ومن الواضح أن هذه القصائد جميعاً من نتاج الدفقة الشعورية الأولى التي تمتلئ بها نفسه فتفيض بها على أي ورق تقع عليه يده ومعظمها تصعب قراءته ويحتاج إلى وقت طويل للتعرف على خطه، لكن العمر لم يمهله أن يراجع هذه القصائد ويعيد كتابتها والنظر فيها، وقد لاحظت أنه قد يرقم بعض القصائد لتأخذ شكلاً جديداً غير الشكل الذي ظهرت به عند الدفقة الأول، وهو قليل التعديل في القصائد، فإذا ما قام بتعديل فإنه يتم لبعض الكلمات وكثيراً ما يترك المسألة معلقة في حالة خيار حين يكتب كلمة أخرى على الهامش ويترك الكلمة الأصلية في البيت كما هي، ومن الواضح أنه كان يفعل هذا ليعود للقصيدة مرة أخرى·
وقد لاحظت أن معظم ما كتب في العشر السنوات الأخيرة من حياته بحبر أخضر اللون أما إنتاجه قبل ذلك فكان بالحبر الأسود كما هو الحال في كراستين تحتويات على شعره في أثناء العربية العالمية الثانية·
وما بقي الآن إلا العمل على إعداد ديوان باكثير الضخم للنشر بعد أن ظل بعيداً عن القراء أكثر من خمسين عاماً!·
جمعية أصدقاء باكثير:
وخلال تلك الأثناء كنت قد بدأت أتصل بمحبي باكثير وعشاق أدبه من أصدقائه وأدباء عصره، غير أني أدركت أن وصولي القاهرة كان متأخراً جداً، فقد رحل معظم رفاق درب باكثير ولم يبق إلا قلة قليلة بعضهم قد نسبه وبعضهم لا يريد أن يتذكره، وقد وجدت أنه لم يبق في صف باكثير إلا أصحاب الوجوه الإسلامية الصريحة، وكان الأستاذ أنور الجندي من أكثر من قليت من معاصري باكثير حماساً لخدمة تراثه وأدبه·
وبدأت أدرس مع من التقيت بهم فكرة إنشاء جمعية تسمى باسم جمعية أصدقاء باكثير وتخصيص شقة لهذا الغرض توضع فيها كتبه ويقام له بها متحف وتتحول إلى منتدى أدبي، وكنت أتمنى لو استطعنا استرجاع شقته بشارع عبدالعزيز آل سعود بالمنيل التي أبدع فيها معظم إنتاجه وعاش بها أجمل سنوات حياته وقد تحولت الآن إلى شقة مفروشة·
وقد تبادلت الرأي مع تلميذه الأستاذ عمر العمودي وصديقه الشيخ سالم عبيد باحبيش، وقد أبدى الأستاذ العمودي حماساً لذلك، وتحدث بمرارة عن ما حدث لشقة باكثير والصورة التي أخرجوا بها منها، وقال إنه إذا تم توفير المبلغ الذي يمكن به شراء تلك الشقة فإن قطعة من علي أحمد باكثير ستعود إلى الحياة، وستعود إلينا الجدران التي أمضى بينها أغلى ذكريات حياته وكتب روائع أعماله، فلطالما سهر في مكتبة إلى الصباح لإنهاء مسرحية، ولطالما وقف على الشرفة المطلة على النيل وسهر يفكر ويتأمل والناس ينام حتى وقت السحر، ولقد وقف هناك كثيراً يصلي ويدعو الله حين تكالبث عليه قوى الشر والظلم والظلام، ومارأيته يصلي ويدعو الله إلا وانقلب إلينا ووجهه يطفح بالبشر وعلى وجهه لآلئ من غسل همومه كلها بطهارة الوقوف بين يدي الله·
وزاد هذا الحديث من حماسنا للفكرة ولكنها بدت بعيدة بعد أن ناقشنا الجوانب المالية بواقعية، فهناك شك أن يوافق المالك على بيعها، وإذا هناك موافقة فإن معرفته بالمشروع وعودة باكثير إليها مرة أخرى سيقوده إلى الطمع في مبلغ كبير ربما يزيد عن 051 ألف جنيهاً أو حواليه·
وبدأنا نصرف عن النظر عن العودة لشقة الذكريات، وبدأ لنا أن استئجار أو شراء شقة أخرى في مصر الجديدة أو مدينة نصر سيكون أقرب إلى المعقول لأنها ستكون أرخص من شقق وسط المدينة إضافة إلى شقق وسط المدينة ستجعل الرواد يواجهون صعوبة إيجاد مواقف لساراتهم في قلب المدينة المزدهم·
وأيد الشيخ سالم باحبيش هذه الفكرة وحشد لها مجموعة من الإسلاميين المتحمسين واجتمعنا في منزله على الغذاء لمناقشتها، فكان هناك الأستاذ عمر العمودي والأستاذ أحمد محمد عباد والدكتور عبدالقادر الطويل والأستاذ أبو بكر عبدالرازق والدكتور صلاح عبدالحميد السحار عن مكتبة مصر، وتم الاتفاق على العمل على إشهار جمعية أدبية خيرية تكون تحمل اسم >جمعية أصدقاء باكثير والسحار الأدبية وقد تمت إضافة المرحوم عبدالحميد السحار لما لتوسعة دائرة خدمتها للأدباء الإسلاميين فالأستاذ السحار - رحمه الله - قد خدم الأدب العربي ووسع دائرة التصور الإسلامي في كثير من أعماله، خاصة عمله الضخم محمد رسول الله والذين معه الذي صدر في عشرين جزءاً، ولقد أهمله النقد كما أهمل باكثير وربما أكثر لا يعيب في أدبه وإنما لأن سماسرة الكلمة في مصر شموا فيه عطر الإسلام الفواح كلما مر بينهم أو أصدر كتاباً·
وبدأت اللجنة تسعى لاستخراج ترخيص لها من وزارة الشؤون الاجتماعية على اعتبار أن الجانب الخيري فيها هو الغالب، واجتمعت اللجنة أكثر من مرة، وكان أول لقاء لنا في كازينو غرناطة بمروكس ثم تكرر الاجتماع ووقفت عقبات في الطريق وحان موعد سفري وبدأت أخشى أن لا يتم في الأمر شيء·
أمنية د· عبده بدوي:
وقد تذكرت أستاذي الجليل الدكتور عبده بدوي ونحن نسعى لإبراز جمعية أصدقاء باكثير إلى الوجود، كان وقتها في الكويت يعاني مع من يعانون هناك من الأبرياء الذين أدركتهم نار المأساة، ذلك لأن د· عبده بدوي كان أول من اقترح هذه الفكرة، وحدثني عنها منذ سنوات طويلة·
فقد كتب إلى في رسالة بتاريخ 71 يناير 2891م وكنت وقتها في جدة أتأهب للسفر لأمريكا لإكمال دراستي العليا، كتب يقول بعد أن استطرد في الحديث عن صديقه العظيم عدة سطور، وهو يحثني على متابعة
الحلقة الثانية عشرة
إبراهيم الأزهري ووثائق تدين اليسار المصري
انتقل الأستاذ عمر عثمان العموي زوج ربيبة باكثير وتلميذه المحب إلى رحمة الله، وفي صدره أمنيات تحقق بعضها وبعضها لم يتحقق. ما تحقق منها كان نشر بعض أعمال باكثير المخطوطة التي أعددتها للنشر ودفعتها لمكتبة مصر. وظل حلم أن يكون لباكثير متحفاً يضم أوراقه ومكتبته ومقتنياته الخاصة إما في وطنه الأصلي حضرموت أو في وطنه الثاني القاهرة.
وكان لابد في هذه الفترة من وجود شخص في القاهرة يعينني على حمل (الفكرة)،وعملت السيدة إجلال حرم الأستاذ العمودي وربيبة باكثير على ترتيب لقاء بيني وبين أخيها غير الشقيق الأستاذ إبراهيم الأزهري الفنان التشكيلي والنقابي المعروف رئيس اتحاد شباب عمال مصر. قالت لي السيدة إجلال: ( إن إبراهيم كان من أقرب الناس إلي قلب باكثير). وكان لقاء طويلاً ذو شجون مع الأستاذ إبراهيم الأزهري في مكتبة بمقر اتحاد شباب العمال 58 شارع الجمهورية، تحدث فيه عن علاقته بباكثير وذكرياته معه لساعات طويلة.. فكان حديث المريد المحب والتلميذ المخلص ففهمت منه أن هذه العلاقة تجاوزت الصلة الأسرية إلى العلاقة الفكرية الحميمة، لقد أقترب إبراهيم الأزهري من باكثير حتى أصبح ـ كما يقول ـ (أقرب إليه من ظله أو من قلمه في يده). كان لا يمر يوم دون أن يراه أو يحادثه بالهاتف، وعاش تفاصيل أعوامه الأخيرة التي حاربه فيها اليسار المسيطر على المسرح ومنابر الثقافة آنذاك، ورأى باكثير يَعزل ويُقهر ويُحارب..
وحكى لي كيف بدأ الأستاذ أحمد حمروش ـ الشيوعي المعروف ـ هذه الحرب بتجميد مسرحيات باكثير التي كان يقدمها للمسرح القومي منذ توليه إدارة هذا المسرح سنة 1958م. وكان المسرح القومي قبل ذلك يفتتح بأعمال باكثير مواسمه المسرحية منذ أواخر الأربعينيات. وعندما تولى شيوعي آخر هو الأستاذ محمود أمين العالم إدارة هيئة الكتاب المصري أوقف أعمال باكثير عن النشر ثم تعاورته أقلام تلامذتهم وأتباعهم في الصحف والمجلات.
وقد عثرت بين أوراق باكثير الخاصة على وثائق مهمة تدين اليسار المصري، وهي عبارة عن مجموعة رسائل وجهها الأستاذ إبراهيم الأزهري ـ الذي كان عضواً في التنظيم الطبيعي الناصري آنذاك ـ إلى مجموعة من القيادات والمسئولين في حكومة عبد الناصر في الستينيات تحذر من التغلغل اليساري والماركسي وسيطرته على منابر الثقافة والأعلام في مصر، وهو أمر يتناقض مع توجهات مصر القومية العربية.
بعث الأستاذ إبراهيم الأزهري رسائله إلى وزير الثقافة آنذاك الدكتور ثروت عكاشة وإلى الأستاذ سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر لشئون المعلومات وعضو لجنة الرقابة. وقد كشف الأستاذ الأزهري بجرأة القناع عن أوجه الفساد والانحراف في الوسط الثقافي وحدد بالأسماء والوقائع والأرقام مواطن الخلل. ولم يكتف بالرسائل فقط بل التقى بوزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة وبالدكتور علي المراعي وكيل الوزارة ورئيس مؤسسة المسرح والموسيقي وهو من أكثر من تدينهم هذه الوثائق الخاصة التي تقع في أربع رسائل رسمية موثقة.
الرسالة الأولى بتاريخ 22/7/1967م موجبة إلى السيد أمين المكتب التنفيذي لقسم الأزبكية والرسالة الثانية موجهة إلى الدكتور ثروت عكاشة نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة بتاريخ 2/5/1967م . والرسالة الثالثة بدون تاريخ إلى السيد سامي شرف مدير مكتب رئيس الجمهورية لشئون المعلومات وعضو لجنة الرقابة. والرسالة الرابعة لم يكتب عليها اسم المسئول الموجهة إليه والواضح أنها مسودة رسالة ويفهم من مضمونها أنها موجهة أما إلى ثروت عكاشة أو إلى سامي شرف.
وقد اتبع الأستاذ الأزهري أسلوباً منطقيا في توجيه الرسائل فقد تخاطب مع المسئولين من الأدنى إلى الأعلى وبالأسماء الصريحة وبالوقائع والأرقام. ومعظم من نكروا أو أدينوا لا يزالون أحياء يرزقون وفي مقدمتهم الأستاذ إبراهيم الأزهري نفسه كاتب الرسائل.
مع العلم أن موضوعات هذه الرسائل ليست سرا فكاتبها استمر مادته من واقع ما يحدث على الساحة الفكرية والفنية.
فالرسائل تتعرض لقضية (الشللية) التي استشرت في الحياة الثقافية والأدبية والفنية في مصر.
قال الأستاذ إبراهيم الأزهري وهو يستعيد ذكرياته: أن الاتجاه اليساري قد تسلط أولاً على المسرح ابتداء من سنة 1956م. ثم انتشر في كافة الأجهزة الثقافية الأخرى بعد القرارات الاشتراكية في أوائل الستينات وما كان من إطلاق الشيوعين من السجون، ثمناً لزيارة خروتشوف لمصر لتدشين السد العالي. فقد عين الأستاذ أحمد حمروش في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1956م. مديراً عاماً للفرقة المصرية للتمثيل القومي وعضواً في لجنة القراءة التي ضمت عدة عناصر يسارية مثل الدكتور محمد مندور والدكتور على الراعي. ومنذ ذلك التاريخ بسط هذا الاتجاه يده على المسرح المصري وفرض فكرة أو رأيه وعلاقاته الشخصية على لأقل على ما يعرض من مسرحيات على (المسرح القومي) وأهمل الرواد الذين اثروا المسرح المصري بأعمالهم قبل الثورة وعبروا عن قيم ثورية وهاجموا الاستعمار واثبتوا وطنيتهم في حين كانت الوطنية تهمة يعاقب عليها القانون في ظل الاستعمار الانجليزي. وبعد خروج الشيوعيين من السجون استكملت حلقات الانقضاض على معظم أجهزة الاتصال الجماهيري.
وسرح الأستاذ إبراهيم الأزهري ببصره في عبر النافذة المطلق على شارع الجمهورية من مكتبه، وقال لقد وجهت في رسائلي ثلاث اتهامات رئيسية للعناصر اليسارية والماركسية وهي:
أولاً: الاستيلاء على مراكز الثقافة:
ويتمثل في تركز المسؤوليات الثقافية والفكرية والفنية في أيدي قادة اليسار الماركسي والاستغلال هؤلاء القادة لمناصبهم بفرض أنفسهم على مناصب ومسؤوليات أخرى وتركيزها في أيديهم، الأمر الذي حقق لهم المزيد من الثراء المادي وبسط النفوذ والمثال الصارخ يتمثل في شخصيتين رئيستين في هذا الاتجاه وهما:
أـ الأستاذ احمد حمروش مديراً عاماً للفرقة المصرية ويتحكم في تكوين اللجان التي لا يخلو معظمها من عضويته وبفرض سلطانه ولونه الفكري على كل ما يتصل بالمسرح القومي، وهو المسرح الرسمي الذي تدعمه الدولة بميزانية كبيرة . وإلى جانب كتابته بالصحافة فقد شغل منصب رئيس تحرير روز اليوسف، التي بلغت في عهده أوج تطرفها اليساري ناهيك من عضويته في عدد من مجالس الإدارة مثل مجلس إدارة النادي الأهلي وعضو مجلس إدارة مؤسسة السينما ومشرف على الثقافة الجماهيرية الخ؟!
ب ـ الدكتور على الراعي رئيس مؤسسة المسرح والموسيقي ووكيل وزارة الثقافة ثم مشرفاً على محافظة الشرقية وعضواً في لجان قراءة وكاتباً دائماً في الكثير من المجلات والصحف وغيرها. وهو أستاذ جامعة يوجد في مصر أمثاله وأفضل وأكفأ منه الكثير من أساتذة الجامعات.
ثانياً:استغلال النفوذ:
بعد استيلاء كبارهم على المناصب الثقافية والفكرية الكبرى قاموا بإحاطة أنفسهم برجالهم وإبعاد العناصر القومية والوطنية المستقلة بوسائل غير شرعية. فقد عين رجالهم (دون المرور على جهات البحث والتحري). وبعد أن أحكموا قبضتهم على هيئات الخدمات الثقافية التي تخص كل المواطنين دون تمييز بفكره أودين قصروا العقود وطبع الكتب واللجان على الذين من لونهم باستثناء بعض حالات التموية. وأكبر مثال على ذلك ما فعله الاستاذ محمود أمين العالم حين تولى رئاسة (دار الكتاب العربي) الهيئة المصرية العامة للكتاب حالياً وهي أكبر مؤسسة نشر حكومية في مصر إذ قصرها على الماركسيين فحسب واستبعد مؤلفات الكتاب الوطنيين والقوميين وأحاط نفسه بمجموعة من المستشارين الشيوعيين ذكرت أسماؤهم في الرسائل وافتتح عهده الميمون بالتعاقد مع 20 كاتباً شيوعياً.
ثالثاً: تبديد المال العام:
ويتمثل هذا في صرف أموال المؤسسات الفكرية والثقافية على من لا يستحق من غير الأكفاء من رجالهم وعلى الأنشطة الثقافية التي لا تتفق مع الاتجاه العام للدولة. فمثلاً عندما عرضت مسرحية، الإنسان الطيب، للكاتب الشيوعي الألماني بريخت وكلفت 4000 جنيه بينما كان دخلها 1135 جنيهاً أي بخسارة 2865 جنيهاً، فقد فشلت المسرحية جماهيرياً ولم يستجب المواطن المصري البسيط لفكرها الغريب عليه. وكذلك التعاقد مع كتابهم لطبع كتبهم ومسرحياتهم وقدمت أدلة على كتاب قبضوا مقدماً مبالغ كبيرة وآخرين قبضوا أثمان مسرحيات قبل أن يتموا كتابتها!!
وهكذا نجد في اللجان والمؤسسات الفكرية والثقافية والصحافية والفنية تتكرر الأسماء الألوان نفسها فهم الذين يفكرون وهم الذين يمثلون الثورة ويمثلون الجماهير وهم الذين يؤلفون المسرحيات وتنشر لهم دور النشر الحكومية وتعرض مسرحياتهم على المسرح القومي وغيرهم من كبار الأدباء رجعيون عاشوا في عهد الملكية ويفكرون بطريقة غير اشتراكية. ومن هنا بدأت مؤامرة طمس كل الأسماء اللامعة التي ظهرت قبل الثورة والعمل على إبعادها عن الضوء بعد أن أصبح الضوء بأيديهم مسلطاً عليهم وحدهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد نشرت مجلة (المسرح) من عدد يوليو 1966م أحاديث نادرة مع ثلاثة من الكتاب الكبار الذين طالتهم يد اليسار وهم محمود تيمور وأمين يوسف غراب وباكثير. فنجد أنه لم تعرض لتيمور إلا مسرحية واحدة فقط بعد سنة 1956م أي منذ ولاية أحمد حمروش المباركة على المسرح القومي. عرضوا له (شهرة مع تيمور)، في مسرح الحكيم سنة 1960م وهي عبارة عن ثلاث مسرحيات قصيرة بينما رفضوا عرض مسرحية كبيرة مثل، (صقر قريش)، التي عرضت في الكويت وتونس إخراج زكي طليعات!!
وأدان محمود تيمور مجموعة الذين يحتكرون العروض المسرحية لأنفسهم وللدائرين في فلكهم وقال لمجلة ( المسرح) بأسف ومرارة: (للأسف أن بعض الأعمال المسرحية الكبيرة لا ترى الطريق ليس بسبب أي عيب فني أو مسرحي فيها ولكن لأسباب أخرى يعرفها الذين يمنعون ظهورها). ولا يخفى على أحد أن محمود تيمور كان يكتب للمسرح قبل أن تنمو أظافر هؤلاء لكن من يفهم؟ لاشك أنهم كانوا يعتبرونه كاتباً بورجوازياً.
وطلبت المجلة من باكثير أن يفتح قلبه وأن يتحدث عن مشاكله وأعماله وتحت عنوان (من قلب باكثير) سجلوا له كلمة تصف الواقع الأليم لكنها لا تيأس من المستقبل، قال باكثير: (لم تقابلني عقبات في العمل الفني كما قابلني أشخاص في الحقل المسرحي اكتشفت أنهم يضحون بمثل كثيرة في سبيل مصالح خاصة. وقال: ( ولكنني ماض في طريقي اكتب وسيأتي الوقت الذي تظهر فيه الأعمال . وفقاً لمنطق البقاء للإصلاح .. على المسرح).
وهذا ما فعله باكثير بالضبط، ظل يتحدى تجاهلهم له بمزيد من الأعمال. ومات وفي درج مكتبه أكثر من عشر مسرحيات مخطوطة، وهي المسرحيات التي عثرت عليها.
وهنا ارتسمت ملامح راحة على وجهة وهو يقول: ( أنظر الآن) تجد باكثير يعود إلى الحياة متألقاً، ونجمه يطع من جديد، ونجومهم تتساقط واحداً تلو الآخر في غياهب السنيات، وقد حاولوا تبديل جلودهم بعد سقوط الشيوعية المربع لكن الجماهير ترفضهم فلا زالت أنوفهم الشديدة الحمرة مائلة أمام الأنظار مهما حاولوا إدعاء خلاف ذلك.
وسرقنا الوقت، وأحسست أنه أرهق وقبل أن تعاد مكتبه معاً اكرمني ـ كعادته ـ بوجبة الغذاء الشعبية، وكان طبيعياً أن نأكلها ونحن في اتحاد شباب العمال. سندوتشات الفول والزيتون والطحينية، واطلب لي شرابي المفضل الذي اعتدته كلما زرته.. البائسون، وافترقنا ونحن لقاء للحديث عن تنفيذ فكرة إنشاء جمعية أصدقاء باكثير وهو حديث الحلقة القادمة إن شاء الله.
يتبع إن شاء الله