الشخصيات الإسلامية

سلسلة المعرفة

الحلقة الثامنة عشر

د. محمد سعيد

الشخصيات الإسلامية هم فئة قليلة جداً من المسلمين، في خضم بحر الأمة الإسلامية جمعاء، وهم الفئة المؤمنة المذكورة في القرآن الكريم وفي نصوص الحديث الشريف، وقد أصبحوا اليوم بإيمانهم فئة تتصف بالنشوز عن باقي المسلمين، كنشوز الرسول r وصحابته الكرام رضي الله عنهم في مكة، ونشوزهم عن باقي العرب والعجم .

نشوء هذه الفئة المؤمنة لم يكن من إفرازات الفكر المنحرف الضال الذي قِيدت به الأمة، وسيقت به إلى الضلال والإنحراف، وليسو هم نتاج ردة فعل لهذا الواقع المظلم، بل وجود هذه الفئة في كل الأزمان والأماكن أمر طبيعي، في الخير وفي الشر، في الهدى وفي أيام الضلال، وفي كل المجتمعات، إلا أن وجودهم أيام الضلال، وإقبالهم أيام تولي الناس هو الغريب في الأمر، بل هو الشيء المميز والعظيم، وهو الشيء المبارك الذي أخبرنا به رسول الأمة r أن الخير لا يزال في أمته إلى يوم القيامة .

هذه الفئة المؤمنة لم تأخذ علمها حتماً من المدارس أو الجامعات الإسلامية القائمة اليوم، التي تقدم ثقافة ولا تقدم علماً، أو تقدم علماً ولكن لا تتيح مجادلة أمره في التطبيق الواقعي، لأنه ليس له واقع في التطبيق أصلاً، وتضطر أن تكذب وتزيف للدارسين صورة غير صحيحة للإسلام والواقع، كما يهوى الحكام .

لقد أخذت هذه الفئة درسها وعلمها بمجهود شخصي، على أيدي علماء ربانيين سبقوهم في العلم والإيمان، فدخلوا في الإسلام والإيمان دخولاً صحيحاً بإصوله وفروعه، كما أنزلها الله على سيدنا محمد  r، وكما آمن بها السابقون والمسلمون الأوائل رضي الله عنهم أجمعين، وارتضت هذه الفئة في هذا الزمان الغابر أن يتحملوا الإبتلاءات المصاحبة للإيمان الحق كمن سبقوهم .

لقد آمنت هذه الفئة بالله حق الإيمان، وفرض عليها إيمانها طاعة الله وعبادته والولاء له ولحكمه دون غيره، أي أنها كفرت بكل الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي ورفضتها، كون أن الأنظمة القائمة في هذا الكون قائمة بخلاف ما أمر الله به ورسوله محمد r ، وبخلاف ما جاء في عقيدة الإسلام ونظامه، ومن هنا إنطلق نشوز الفئة المؤمنة وجاء تميزها عن باقي المسلمين في العالم أجمع، ومن هنا جاءت بلاءاتُها وجاء اصطدامها مع الواقع، إبتداءً بالحكومات القائمة، مروراً بمن يواليهم من شياطين الجن والإنس، وانتهاءً بالمجتمعات المسلمة "المُضَللة" بأفكارها ومقاييسها وقناعاتها، وما تولد عنها من عادات وتقاليد وأعراف غير إسلامية، والتي تعيش هذه الفئة في وسطها .

لقد أدى إيمان هذه الفئة المؤمنة القليلة إلى تعرضها لفتن كثيرة في نفوسها بالإعتقال والسجن والتعذيب من الحكام المتسلطين، وتعرضهم للفتن في أموالهم وأبنائهم ، وبالتضييق عليهم في أعمالهم وأحوالهم المدنية، وبمنعهم من طلب الرزق، والتضييق عليهم في معايشهم على وجه العموم، وأدى بهم إيمانهم هذا ومطالباتهم إلى النشوز في المجتمعات، وإلى إلصاق التّهم الباطلة بهم، أو إلى وصفهم بالمجانين أو الضالين أو المنشقين أو المتطرفين .

تتصف هذه الفئة المؤمنة بالفكر العميق المستنير وبالعلم والإيمان، وبالتالي إلى الإخلاص الخالص لله سبحانه وتعالى، وإلى بيع الدنيا بالآخرة، وإلى تجنيد نفسها في سبيل الله والدعوة إلى الإسلام، وإلى جعل الدنيا وراء ظهرها، فهي بحق شخصيات إسلامية بالعلم النقي الصافي، وبالتالي بعقلية إيمانية واضحة، وهي بحق قد باعت نفسها لله في سبيل دعواها، وفي طريقة عيشها بمقياس الحلال والحرام. وهي تحمل القناعة التامة بأن الله هو الحق، ودينه هو الحق، وما دونه من الأفكار أو الأحكام هو الباطل،  فهي تعيش بنفسية تتوافق تماماً مع عقليتها، فلا ترضى إلا ما يرضي الله، ولا تنفر إلا مما يغضب الله، فهم آيات تسير بين الناس بعلمهم وإيمانهم، يتحملون كل الإبتلاءات التي تنصبّ عليهم، لا يخشون في الله لومة لائم، أو سطوة جائر، أو ترهيب الأجهزة الأمنية الجائرة في البلدان الإسلامية، ولا يثنيهم عن فعلهم شيء .

ينقادون بالإسلام، ويقتادون به أينما حلوا أو نزلوا، يرون الحق فيتبعونه، ويرون الباطل فيرفضونه، يسيرون بنور الله وعلمه وأمره ونهيه، لا تلهيهم الدنيا ومتعها ولا يقيمون لها وزناً، يتآخون مع غيرهم بعقيدة الإسلام ونظامه، وليس بعقيدة الوطنية أو القومية والجنسيات المزيفة، وهم الذين لم ولا تنطلي عليهم حيل المرابحات والمساهمات المالية أو الربوية التي يجرها الحكام على الناس، بل ولا يلقون لها بالاً بعلمهم وإيمانهم، وهم الذين يُقدِمون وقتما يصد الناس، ويصدون وقتما يقدم الناس على الدنيا .

هذه الشخصيات الإسلامية لا تنطلي عليهم حيل الكفار المحتلين أو المستعمرين، فهم أصحاب وعي ودراية، فهم ينظرون بمنظار الإسلام لكل أمر، ويقيسون على الإسلام في كل مستجد، يعرفون ما يريدون، ويعملون ما يُملي عليهم إيمانهم، فلا تنطلي عليهم حيل الإستسلام للعدو والسلام معه، ولا حيل تقارب الأديان، ولا حيل تحريف أصول الإسلام وقواعده لتسير مع هوى الحكام والمستعمرين والخائنين .

لا يتصفُ هؤلاء المؤمنين بصفات تميّزهم عن باقي الناس في ملبسهم أو مظهرهم، كما تفعل الشخصيات المتدينة التي تحدثنا عنها آنفاً، بل لا يميزهم الرائي عن غيرهم من الناس، ولا تجد في أحاديثهم شيئاً من اللهو المشاع أو اللغو المتبع، أو الدعاوى الباطلة، أو الحكم السفيه على الأشياء بمقاييس المنفعة والمصالح المعلومة.

لا تجد عندهم ما تجده عند الناس من التفاخر بالأحساب أو الأنساب أو التفاخر بالأموال أو الأملاك والتظاهر بها بينهم، بل يتميزون بلين الجانب ولطافة المعشر، وحسن الكلام، وأدب الأخلاق، والوعد والعهد الصادق مع الناس، والإلتزام بالكلمة، وشدة الأمانة، والنظام الدقيق في المعاملات والعهود والعقود، عدا ما نجده عندهم من النجدة والكرم والغوث والصبر والحلم على الناس، وفوق هذا كله فهم لا يدّعون العلم أو الإيمان الخالص، وهم في الحقيقة أصحابه وأهل له .

دعوى هذه الفئة :

هذه الفئة عندما نشأت، وآلت على نفسها الإخلاص لله ولرسوله وللدين الذين نزل، بما علمت من مطالب شرعية، فرضها الله على كل من أسلم وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، رأت أن الإسلام قد أزيح عن التطبيق في واقع الحياة، وآل التشريع في الحياة إلى أحكام الكفر، وأصبح غير الإسلام هو السائد في حياة الناس، وأصبح الإسلام مجرد فلسفة خيالية موجودة في باطن الكتب، يَدّعي كل حاكم، لإرضاء الناس وإخضاعهم، أنه هو الوحيد الذي يطبقه في حياة الناس، وهو عن ذلك بعيد .

في هذا الواقع المخالف لدين الإسلام أصلاً وفرعاً، دفع الشخصيات الإسلامية إلى العمل الجاد المخلص لإعادة الحكم بما أنزل الله، في واقع الحياة في صورته الأصلية، التي سارت عليها الدولة الإسلامية إثني عشر قرناً من الزمان، منذ أيام سيدنا محمد r والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، فجندوا أنفسهم لهذا الأمر بالرغم من تكاليف الحياة العصرية المضنية، وفي خضم المحاربة الصريحة الصارخة لأمر كهذا ولمن يدعو له أو يتحدث به، وتحملوا في سبيل ذلك، والناس مخدرون ولاهون عن دين الإسلام، تحملوا أعباء هذه الدعوة وتكاليفها الشاقة، وهم يعلمون أن مصائب المسلمين كافة من قهر وظلم وتخلف، وضياع بلدانهم وثرواتهم وعزتهم وكرامتهم، إنما هي ناجمة عن ضياع رأس الأمر في دينهم، وهو الحكم بما أنزل الله .

فالغاية التي يسعى إليها هؤلاء هي رضوان الله سبحانه وتعالى، والهدف المنشود لهم هو إعادة الحكم بما أنزل، في صورة الخلافة الراشدة الموعودة في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الأمة محمد r، ولمّ شمل المسلمين تحت راية دولة واحدة، حدودها أقصى المشرق إلى أقصى المغرب.

هؤلاء هم الشخصيات الإسلامية، وهؤلاء بالرغم من عدم حملهم للسلاح أو حملهم له، هم من تحذر منهم اليوم أمريكا وأوروبا وغيرهم ليل نهار، وهم الهدف الذي يصوّبون عليهم رماحهم وفُوهات مدافعهم، وهم الهدف الذي رسموه لعملائهم الحكام بحربهم والنيل منهم، تحت مسمى حرب المتطرفين الأصوليين، وأصحاب الإرهاب الفكري، أو الإرهابيين .

هؤلاء هم النقاط المضيئة في العالم الإسلامي، وهؤلاء هم حماة الأمة الإسلامية، وهم ذُوّاد دينها وشريعتها، وهم من سيقودها إن شاء الله عندما ينجلي الغمام عن الأمة الإسلامية، فتقوم الأمة بنصرتهم والوقوف إلى جانبهم كما نصر الأنصار رسول الله محمد بن عبد الله r في المدينة المنورة، فأقام الدولة الإسلامية وجعلها نوراً يُهتدى به في العالم أجمع .

 قال الله تعالى في سورة النور 55 :

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

وقال تعالى في سورة الممتحنة 2 :

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ

قال رسول اللهr :

" تكون النبوة فيكم ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها, ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون فيكم ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها, ثم تكون ملكا عضوضا فيكون ما شاء الله ان يكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها, ثم تكون ملكا جبرية فتكون فيكم ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها, ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ,ثم سكت."

رواه احمد في مسند