صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري-3-
صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري-3-
د.
محمد أبو بكر حميدسنوات الانتشار و الازدهار
"
يتابع كاتب هذه الحلقات رواية سيرة الغبن الذي لحق بباكثير ويتوقف عند أحداث ووقائع ارتكبها نجوم ضد باكثير في سنوات الازدهار والانتشار وكانت تلك المواقف ما تزال في حدود الشخصية البحتة التي ستتحول لاحقاً إلى موقف شبه رسمي اتخذه القائمون على شؤون المسرح المصري الذين ظلموا ذلك الرائد وحرموه، من أبسط حقوقه المعنوية في الوصول إلى القارئ والمشاهد ".كان من الممكن لباكثير أن يثير حول نفسه ضجة بإنتاجه الذي صحبه معه إلى مصر من حضرموت وعدن والسعودية، وكان من الممكن أن يتحدث عن نفسه لسنوات، فقد جاء مصر وحياته مليئة بالتجارب والأحداث، على حداثة سنه ـ فقد خاض معارك فكرية في حضرموت وشهد خلافات قومه في أندونيسيا واتصل في شرق إفريقيا وعدن والحجاز بشخصيات كان لها دورها في صنع التاريخ الأدبي والسياسي للمنطقة فيما بعد كان من المتيسر له أن يقيم الدنيا ويقعدها بقصة حبه ومأساة زواجه بموت زوجه الحضرمية الشابة فيكتب فيها الروايات والمسرحيات ويقيم حول نفسه هالة. ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا كله فلم يكتب عن نفسه ولا عن مأساة زوجه إلا في مسرحيته الأولى " همام ". وبدأ إنتاجه في مصر بصفحة جديدة من تاريخه الأدبي يستلهم التاريخ الإسلامي ويتوجه بخطابه لأمته العربية والإسلامية. ولعله رأى أن موقعه في مصر يعينه على توجيه رسالته لأمته الإسلامية كلها لا لقطاع صغير فيها. وقد كان إنتاجه في مرحلة ما قبل مصر يركز على القضايا الخاصة بمنطقة جزيرة العرب وهمومها الاجتماعية ومشكلاتها السياسية، وربما رأى أن غليان الساحة في مصر في ذلك الوقت لم يكن ليسمح بظهور دواوين تحمل قضايا المجتمع في الجزيرة العربية.
الانتشار 1938 ـ 1948
وكان بإمكانه في مصر أن يقيم حول شخصه ضجة كبيرة فهو الحضرمي الذي جاء من أقصى جزيرة العرب ليلتحق بقسم اللغة الإنجليزية ويجد نفسه نتيجة لتحد بينه وبين أستاذه الإنجليزي الذي حط من قدر اللغات الأخرى وبينها اللغة العربية وقال إن الإنجليزية وحدها التي تتفرد بالشعر المرسل. فغضب الطالب باكثير غضباً إيجابياً كانت ثمرته ترجمة لمسرحية " روميو وجوليت " إلى الشعر المرسل لأول مرة في اللغة العربية. وكان ذلك سنة 1936 وهو بعد في السنة الثانية. وتطورت هذه التجربة بتأليفه مسرحية " أخناتون ونفرتيتي " سنة 1938 ـ قبل تخرجه بقليل ـ ويلتزم فيها بحراً واحداً هو بحر المتدارك وبهذا العمل كان باكثير أول من استخدم الشكل الشعري التفعيلي، متطوراً عن كل الذين ادعوا أنهم سبقوه.
وكان بإمكان باكثير أن يثير ضجة كبرى بهذه المسرحية التي ضرب بها " نزيل القاهرة " كما كان يوقع بها قصائده في ذلك الوقت، عصفورين بحجر إذا حقق بهذا ريادتين، ريادة في الشعر وريادة في المسرح الشعري. ولم يرحب بهذه التجربة في حينها إلا الأستاذ إبراهيم المازني الذي كتب في مقدمة المسرحية مشيراً إلى حل باكثير لمشكلة الشعر في المسرح يقول:
" أحسب أن باكثير قد وفق في اختيار بحر لشعره التمثيلي يسهل وروده على الأذن، ويطرد الكلام فيه اطراد النثر ".
ووضع باكثير تجربته على الناس ومضى يؤلف وينشر غيرها تاركاً القوم من بعده يختصمون ويتقاتلون بعده بسنوات بحثاً عن رائد الشعر الحر. ولما لم يقل باكثير ها أنذا ولم يدخل في معمعة القيل والقال نسبتها نازك الملائكة لنفسها ونسبها لويس عوض لنفسه، ونسبها بعض النقاد للسياب رغم اعتراف السياب لباكثير بالريادة في مقال له بمجلة الآداب البيروتية العدد السادس يونيو 1954 ص69 وهو القول الفصل. ومع ذلك فقد أنكروا عليه هذه الريادة في حياته فصمت وإن كان يطوي تحت صمته بركاناً يغلي كما يصفه الأستاذ كمال النجمي حين كتب:
" كان ـ باكثير ـ رحمه الله يضحك بسماحة يظن من لا يعرفه أنه لم يكن يبالي ما ينكرونه عليه من حقه وما يكتبونه عنه من نقد يدرجه في جملة الجامدين أو السلفيين.. ولكن باكثير الحساس كان يختزن في صدره كمده وحزنه لما يجده من نكران وجحود حتى قتله الحزن والكمد رحمه الله ".
ويقول النجمي أنه سأل مرة مداعباً باكثير:
ـأنت تدعو إلى تبجيل السلف الصالح،وأراك تعقهم كما يفعل غرماؤك التفعيليون الجدد.فماذا وراء ذلك؟
فأجاب باكثير:
ـأنا أحاول زيادة تراث الخليل بن أحمد، ولو سطراً واحداً وهم يحاولون هدم الخليل. فهم أهل العقوق ولست منهم (مجلة الحوادث، عدد 1164، 23/2/1979م).
وهكذا لم يعترف لباكثير بهذه الريادة إلا بعد وفاته حيث كتب العديد من الدراسات والأبحاث التي أعادت الحق لصاحبه ولكن على طريقتنا العربية دائماً في تقدير العظماء بعد وفاتهم وبعد أن يكون المظلوم قد انتظر حتى آخر رمق من حياته تعيد إليه حقه. وقد تصدر الناقد المعروف الدكتور عز الدين إسماعيل قضية إنصاف باكثير بعد وفاته حين كتب دراسة طويلة جادة عن مسرح باكثير الشعري نشرتها مجلة " المسرح " في العددين 70 و 71، وقال:
"... إن هذه التجربة ـ تجربة باكثير في أخناتون ونفرتيتي ـ في مجال الشعر المسرحي قد تسربت في ما بعد إلى ميدان شعر القصيدة ـ تسربت إليه بكل أبعادها الشكلية والمعنوية. فحركة الشعر الجديدة التي بدأت منذ أواخر الأربعينات في العراق والتي امتدت في ما بعد إلى سائر الأقطار العربية وما زالت حتى اليوم تنمو وتتطور لم تحدث في شكل القصيدة من البداية إلا ما أحدثه باكثير" !
بعد أن فرغ باكثير من وضع بصمات تجديده في الشعر والمسرح الشعري ترك هذه الريادة تتفاعل طبيعياً ولم يواصل الكتابة بها واتخذ من النثر وسيلته الأساسية في التعبير الروائي والمسرحي، فكتب سنة 1942م أولى رواياته " سلامة القس " التي وسعت شهرته على المستوى الشعبي بعد أن تحولت إلى فيلم مثلت بطولته أم كلثوم. فكانت أول عمل يطل على الجماهير العريضة للشاشة لأن أعماله المسرحية لم تبدأ بالظهور على المسرح إلا ابتداءً من سنة 1947م، ورغم الشهرة التي حققها باكثير من وراء انتشار الفيلم إلا أنه لم ينل حقه المعنوي والمادي معاً. فقد عثرت في جريدة " الكتلة " على مقال للناقد الأستاذ خليل عبد القادر بتاريخ 14/4/1945م يروي قصة إصرار أم كلثوم على أن تتفرد باسمها وحده في الإعلانات عن الفيلم وأصرت على حذف اسم المخرج والممثلين وحتى المؤلف ولم تكتف بذلك بل قامت أيضاً بتعديل بعض الأدوار والتدخل في الإخراج لكي " تكون هي كل شيء في الفيلم منذ أطفئت الأنوار حتى السلام الملكي ".
أما من الناحية المادية فإن باكثير لم يحصل إلا على 30 جنيهاً وهو مبلغ زهيد يدفع لصغار الزجالين ثمناً لمنولوج واحد يذيعه مونولوجست على حد تعبير خليل عبد القادر. وذلك لأن باكثير لم يكن يهتم كثيراً بالمادة فقد قبض ما أعطاه له المخرج دون مناقشة ودون توقيع عقد برغم معرفته أن غيره حصد من وراء قصته مئات الجنيهات. يقول الأستاذ عباس خضر:
".. قال لباكثير أصحابه: كيف ترضى بذلك الثمن وأنت ترى هذا الشأن الكبير للفيلم... ارفع قضية فأبى أن يدخل في مقاضاة واكتفى بسروره من نجاح الفيلم وانتشاره "(مجلة الثقافة عدد52 ، 1978م).
ويروي الأستاذ عبد الحميد جودة السحار في كتابه " صور وذكريات " أن باكثير رفض أن يقبض مكافأة عن طبع روايته " سلامة القس " التي نشرتها له " لجنة النشر للجامعيين ":
"إنه لا يريد مالاً وكل ما يطلبه هو بعض النسخ لأصدقائه ! " بعد أن روى قصة إخراج الفيلم وذكر أن حق باكثير المادي والأدبي لم يهتضم في السينما فقط بل في الإذاعة أيضاً: " وراحت الإذاعة تذيع أغاني سلامة، ويعلن المذيع: تسمعون الآن: أحب القس سلامة، لعبد الرحمن القس ! " ولفت باكثير نظر الإذاعة إلى أن القطعة من تأليفه، فاختفى اسم عبد الرحمن القس ولم يذكر اسم المؤلف الحقيقي لأنه لا يزال حياً يرزق!".
ولعل هذه الحقيقة جعلت ناقداً كبيراً هو الأستاذ وديع فلسطين يكتب قائلاً:
"لقد كان باكثير يثير حنقي بسكوته الهادئ على سالبيه وناهبيه. جدد في الشعر المسرحي تجديداً رائداً، فسلبوه هذه الريادة وهو لا ينطق. غنت أم كلثوم شعره فنسبوه إلى غيره، والتهمت الدواوين المكتبية حياته، وهو بدخان غليونه المتصاعد يسخر منها، حتى زملاء شبابه انفضوا عنه لأن لغته وتفكيره لم يعودا يسايران العصر" (مجلة الأديب، عدد يناير 1970 م، بيروت).
ورغم ذلك كله فإن باكثير قد اقتحم ميدان الحياة الأدبية في مصر بجرأة وثقة وجسارة وأصبح كما يقول محمود تيمور في كتابه " طلائع المسرح العربي " :
"إنه ذلك الشاب المثقف الذي وفد إلى مصر ليغتصب جوائز المسابقات الأدبية اغتصاباً لأنه لم يكن يترك مسابقة إلا ويدخلها فتفوز مسرحياته بالجائزة وبالطبع".
ويروي صاحب صحيفة " الشورى " المجاهد الفلسطيني الأستاذ محمد علي الطاهر في كتابه " في ظلام السجن " في سياق حديثه عن ذكرياته مع باكثير هذه الواقعة فيقول:
"وقد بلغ من نبوغه المثالي أن وزارة الشؤون الاجتماعية طلبت سنة 1947 ست روايات في مواضيع معينة وأقامت مسابقة مصحوبة بمكافأة باهظة فتلقت الوزارة خمسمائة رواية. ولما فحصت اللجنة المختصة ذلك الجبل من الروايات اختارت ستاً، ولما ظهرت غلافات الأسماء ظهر أن الأستاذ علي أحمد باكثير قد فاز بروايتين من الست روايات وهو فوز باهر لا مثيل له، فداعبته إحدى الصحف طالبة من الحكومة منع الأستاذ باكثير من دخول المسابقات ! ".
فقد نالت أولى مسرحياته في مصر " أخناتون ونفرتيتي " 1940 جائزة المباراة الأدبية للفرقة القومية كما نالت روايته الأولى " سلامة القس " جائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية مناصفة مع نجيب محفوظ عن رواية "رادوبيس " فحصل كل منهما على أربعين جنيهاً.
ومضى باكثير بعدها يكتب بعزيمة لا تعرف الكلل تاركاً أعماله تفرض نفسها على الجوائز الأدبية. فينال سنة 1945 جائزة وزارة المعارف عن روايته الشهيرة " وا إسلاماه " التي قررت على المدارس في ما بعد في عدد من البلاد العربية. وتحصل أكثر مسرحياته حظاً في العروض المسرحية " سر الحاكم بأمر الله " قبل عرضها على جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1943 وينال نفس الجائزة في السنة التالية 1944 عن مسرحية " السلسلة والغفران ". وعن مسرحية " أبو دلامة مضحك الخليفة " يحصل على جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية أيضاً سنة 1950 حتى قيل وقتها غبطة أو حسداً أن جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية أنشئت خصيصاً لباكثير!!
وعليه فإننا نستطيع أن نقول أن باكثير بدأ منذ هذه المرحلة الأولى من حياته الأدبية في مصر قوياً ثابتاً.. بدأ بأعمال كتبها في مصر ولها علاقة حميمة بتاريخ مصر وفي نفس الوقت تقع في صميم خريطة التفكير عنده وهو محور الإسلام والعروبة ، وهو الخط الأساسي الذي تجسد في كل أعماله في ما بعد.
ومن نجد تبدأ انطلاقته بمسرحية " أخناتون ونفرتيتي " 1938م التي اكتسب بها باكثير فيما بعد ريادة الشعر الحر ودخلت هذه المسرحية فنياً تاريخ حركة التجديد في الشعر الحديث ـ كما هو معروف. وقد أعطت هذه المسرحية الرائدة لباكثير دفعة قوية للانتشار واقتحام الحياة الأدبية في مصر من أوسع أبوابها وأكثرها غموضاً. فقد اختار هذا الشاب القادم من أقصى الجزيرة العربية موضوعاً فرعونياً ليعبر من خلاله عن رؤية سياسية إسلامية. فقد فسر باكثير فشل سياسة أخناتون بالرغم من اعتناقه دعوة التوحيد إلى منهجه السلبي. وناقش من خلال ذلك قضية الحرب والسلام حين رفض أخناتون رفع سيف لإقرار الأمن والسلام ظناً منه أن ذلك يخالف مبدأ السلام. فكان ذلك الخطأ التراجيدي الذي وقع فيه أخناتون. وبهذا فسر باكثير العيب في منهجه لا في عقيدته، فالسلام لا يستغني عن سيف العدل وعالج باكثير من خلال هذه الشخصية الفرعونية فكرة إسلامية سياسية مهمة وهي " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".
وتوالت أعمال باكثير بعد هذه المسرحية حين استقرت به الحياة في مصر. فقد كتب قبل الثورة المصرية سنة 1952 ما يقرب من عشرين مسرحية تعاملت معظمها مع القضايا السياسية إما بالمعالجة الرمزية أو الواقعية للتاريخ والأسطورة أو الحياة السياسية المعاصرة ولم يكتب إلا مسرحيتين اجتماعيتين وهما " الدكتور حازم " 1945 و" الدنيا فوضى " 1951م، ويظل العامل السياسي عنصراً أساسياً في معظم أعمال باكثير التي تكون نواتها الأساسية فكرة إسلامية وتتخذ أطرها الخارجية من الأساطير أو التاريخ. ففي أولى مسرحياته في مصر وهي " أخناتون ونفرتيتي " 1940 يصور باكثير كيف ينهار بناء المحبة والعدل والسلام عندما لا تحميه القوة. وفي " الفرعون الموعود " 1944م يرمز باكثير للأوضاع السياسية الفاسدة في مصر ويصور فرعوناً غارقاً في ملذاته بالرغم من نصح الكاهن ولما لم يستجب الفرعون الفاسد للنصح يحذره الكاهن بأن فرعوناً موعوداً سيأتي ليخلص البلاد من آثامه. وقد اعتبرها النقاد في ما بعد استشرافاً للمستقبل وإرهاصاً بالثورة المصرية.
وقد شغلت فلسطين باكثير كما لم تشغله أية قضية مثلها وأحس بالخطر القادم قبل أن يتفجر فكتب سنة 1945 مسرحيته الشهيرة " شيلوك الجديد " التي استعار شكلها الخارجي من مسرحية شكسبير " تاجر البندقية " وصب فيها مضموناً جديداً. ففي هذه المسرحية استقرأ باكثير الواقع في فلسطين وصور تعاون الصهيونية والاستعمار الإنجليزي معاً في التمهيد لقيام الكيان الصهيوني وتوقع باكثير قيام دولة إسرائيل قبل قيامها الفعلي بثلاث سنوات ولكنه أيضاً صور أسباب سقوطها واستسلامها من خلال حصار اقتصادي يقيمه العرب حولها فتحقق الشق الأول من رؤيته ولم يتحقق الشق الثاني لأسباب نعلمها جميعاً !! وقد كتب وقتها الناقد سيد قطب مقالاً في مجلة " الرسالة " عدد 655 ـ 21 يناير 1946م أكد فيه سبق باكثير للجامعة العربية في طرح فكرة المقاطعة وقال:
".. وهو الحل الذي اهتدت إليه جامعة الدول العربية بعد شهر من ظهور المسرحية. وحسب المؤلف وهو فرد أن يلتقي مع أبرز رجال الجامعة العربية في حل قضية فلسطين " !
وختم سيد قطب مقاله في التعبير عن أهمية المسرحية بقوله:
"أنا الذي زعمت لنفسي.. يوم تتبعت قضية فلسطين في مراحلها المختلفة أنني ممن يعرفون هذه القضية أشهد أن مسرحية " شيلوك الجديد " قد أطلعتني على أنني كنت واهماً في ما زعمت.. فقد كشف لي الأستاذ باكثير عن حقيقة وضع القضية وحقيقة العوامل التي تتصارع فيها، بما لم يكشفه لي كل ما وصل إلى يدي عنها خلال خمسة عشر عاماً أو تزيد ".
وفي سنة 1946م يصدر باكثير مسرحية " عودة الفردوس " يصور فيها كفاح أندونيسيا المسلمة ـ وطن مولده ـ ضد الاستعمار الهولندي وافتتح المسرحية بإهداء يقول:
"إلى الذين لا يزالون يعانون قيود الأغلال من أمم الإسلام وشعوب العرب أهدي هذا الكتاب ليسمعوا قرقعة خمسة وسبعين مليون قيد في أندونيسيا تتحطم !
وإن لهم في إخوانهم الأندونيسيين الأبطال لأسوة حسنة ".
وحتى أسطورة أوديب الإغريقية التي كان من المتوقع أن تكون صياغتها الجديدة أبعد ما تكون عن القضايا السياسية فقد ربطتها صياغة باكثير التي صدرت سنة 1949 بعنوان " مأساة أوديب " رمزياً بقضية فلسطين إلى جانب مضمونها الفلسفي الإسلامي. يقول باكثير في كتابه " فن المسرحية " ص58 أنه كتب هذه المسرحية إثر حرب فلسطين التي انتهت بانتصار اليهود على الجيوش العربية مجتمعة ثم يضيف:
".. فقد انتابني إذ ذاك شعور باليأس والقنوط من مستقبل الأمة العربية وبالخزي والهوان مما أصابها. أحسست أن كل كرامة قد ديست بالأقدام فلم تبق لها كرامة تصان وظللت زمناً أرزح تحت هذا الألم الممض الثقيل ولا أدري كيف أنفس عنه. ولعل ذهني من خلال ذلك كان يبحث عن الموضوع دون أن أشعر ثم اهتدى إليه ذات يوم دون أن أشعر أيضاً إذ تذكرت فجأة تلك الأسطورة اليونانية التي خلدها سوفوكليس في مسرحيته الرائعة " أوديب ملكاً " فأحسست أن فيها لا في غيرها يمكن أن أجد المتنفس الذي أنشده.. ذلك أني كنت أحس في أعماقي كأن الذنب الذي ارتكبه العرب في فلسطين لا يوازيه في البشاعة غير ذلك الذنب الذي ارتكبه أوديب في حق أبيه وأمه والخزي الذي لحقه من ذلك".
وفي سنة 1952 كتب باكثير مسرحية " إمبراطورية في المزاد " يختم بها مسرحيات ما قبل الثورة المصرية وهي تسير في نفس خطه الأساسي الذي تميزت به أعمال هذه المرحلة وهو الكوميديا السياسية الساخرة. ففي هذه المسرحية يواصل باكثير كفاحه الفني ضد الاستعمار، ويرسم صورة ساخرة للإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس ويتخيل أن شمسها قد غربت بعد تحرر شعوب الأرض من احتلالها وعرضت هذه الإمبراطورية في المزاد العلني. وقد كتب باكثير في مقدمة هذه المسرحية الكلمة التالية:
"مؤتمر دلهي الذي تنبأت به هذه المسرحية قد تحقق في مؤتمر باندونج. وقد كتبت هذه المسرحية قبل انعقاد مؤتمر باندونج بثلاثة أعوام ".
الازدهار 1948 ـ 1958
ومثلما وقع باكثير في أول عمل له على الشاشة ضحية أنانية أم كلثوم، وقع في أول عمل له على المسرح ضحية أنانية يوسف وهبي وغيره من النجوم الذين قاموا بدور البطولة في مسرحية باكثير الشهيرة " الحاكم بأمر الله ". ففي بداية الإعلانات عن المسرحية أهملوا ذكر اسم المؤلف وجعلوا الإعلان يلمع بأسماء الممثلين فقط.
يقول الأستاذ عباس خضر " عندما مثلت له مسرحية " سر الحاكم بأمر الله " كان يوسف وهبي كعادته يطغى على كل شيء يقدم فالإعلانات في الصحف وعلى الجدران يملأها اسمه بحروف كبيرة وهناك في زاوية أو ركن بعض الإعلانات يكتب اسم المؤلف " علي أحمد باكثير" بحروف صغيرة وكأنه لص سرق مسرحية أجنبية وينبغي الستر عليه. غاظني ذلك فقلت أن يوسف وهبي يأكل لحم باكثير ويرمي عظامه مثل الغول في حكايات الشاطر حسن وست الحسن والجمال " (الثقافة عدد 52، 1978م).
وهناك من يقول أنه كان في نيتهم أساساً حذف اسم المؤلف من الإعلانات ولولا أن تحذيراً وصلهم من بعض أصدقاء باكثير لما ذكروا اسمه.
ويروي كاتب مجهول ذيل مقاله بكلمة (متأسف) ونشر في " المقطم " في عدد 29 أكتوبر 1951م على مقال بعنوان " يسرقون الأستاذ باكثير ويتمتعون بالثناء الموجه إليه " استهله كاتبه بقوله:
"لا يزال الأستاذ علي أحمد باكثير الشاعر المشهور والروائي العصري الفذ يتحف المسرح المصري بين حين وآخر بروايات عربية مصرية حديثة مبتكرة ستخلد مع الدهر جيلاً بعد جيل بعد أن ملأ الدنيا العربية بقصائده القومية والإنسانية الممتعة ".
ثم أخذ الكاتب يروي كيف أن باكثير لم يحضر العرض الأول لمسرحية " سر الحاكم بأمر الله " لأن القوم الذين طغت عليهم نرجسيتهم نسوا أن يبعثوا للكاتب الكبير بدعوة لحضور مسرحيته فلم يأبه لذلك وأمضى ليلته كعادته يخط سطور مسرحية جديدة وهو جالس في قهوة متاتيا المجاورة لدار الأوبرا يسمع ضجيج الجماهير لروايته العظيمة.
ويكمل الأستاذ محمد سعيد العريان ـ رحمه الله ـ الجانب الآخر للقصة في مقال بعنوان " الفن في مصر إطار بلا صورة " مفاده أن باكثير حصل على دعوة في الليلة الثانية لحضور مسرحيته وحجزوا له شرفة كاملة بدار الأوبرا " ولما أعطوه التذكرة المرقمة ليشهد التمثيل من هذه الشرفة في أول لياليه ظن الأديب الطيب القلب أن هذه الشرفة ستظل محجوزة له باسمه ما دامت روايته تمثل على المسرح. فلما كانت الليلة التالية دعا لفيفاً من أصحابه ليشاطروه الاستمتاع بالمجد ولكنهم ردوه وردوا أصحابه معه عن الباب، وأصداء التصفيق والهتاف المنبعثة من تلك الشرفة ومن شرفات أخرى باسم الممثل والمخرج تصفع اسم المؤلف الممنوع من الدخول " !
ورغم كل ذلك يبقى العمل في النهاية للمؤلف وعرف الناس باكثير وأحبه جمهور المسرح من خلال عشرات العروض المسرحية التي قدمتها له الفرق التمثيلية في مصر على مدى أكثر من عشرين عاماً في حياته الأدبية.
فمسرحية " سر الحاكم بأمر الله " مثلتها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى في أكتوبر 1948م وأخرجها زكي طليمات ومثل فريق من أساتذة التمثيل العربي حيث قام يوسف وهبي بدور الحاكم ومعه حسين رياض وأمينة رزق وسراج منير وفاخر فاخر وفردوس حسين. وقد أعيد تمثيلها مرة ثانية حين افتتحت بها فرقة " المسرح المصري الحديث " موسمها المسرحي لسنة 53 ـ 1954م. ثم مثلت مرة ثالثة حين قدمها " المسرح القومي " في موسم 54 ـ 1955م ثم أعاد عرضها للمرة الرابعة في موسم 55 ـ 1956. وفي 18 مارس سنة 1971م بعد وفاة باكثير بسنتين وبعد مضي ثلاثة وعشرين عاماً على عرضها الأول أعاد " المسرح القومي " عرضها من جديد فأخرجها فتوح نشاطي وهو في السبعين وقام بدور الحاكم فيها يوسف وهبي وهو في الخامسة والسبعين. ولقيت المسرحية نجاحاً كبيراً أعادت للمسرح القومي فتوته وأصالته التي فقدها في الستينات، وأتيح للمخضرمين مقارنة أداء يوسف وهبي في العرض الأول الذي قدمه في شبابه وهذا العرض وهو في شيخوخته.
وقد نالت تلك المسرحية تقريظاً كبيراً سجله مخرجها فتوح نشاطي في مذكراته وخير ما يمثل الاهتمام بتلك المسرحية نقد إيجابي مطول نشرته عدة صحف وكلمة مؤثرة نشرها صالح جودت في المصور عدد 2440 في يوليو 1971.
مسمار جحا
وفي سنة 1951م، أثناء العمليات ضد الاستعمار والحكم الفاسد فجر باكثير على المسرح قنبلة جديدة متمثلة في مسرحيته الشهيرة " مسمار جحا " وقد جعل باكثير من قصة المسمار المعروفة رمزاً لأساليب الاستعمار في البقاء في البلاد العربية والمستعمرة، الأمر الذي جعل جريدة المقطم تكتب في عدد 5 نوفمبر 1951م تقول:
".. فباسم هذا المسمار بقي هذا الاحتلال البريطاني في مصر إلى اليوم، وصار البريطانيون يدعون من الحقوق ما لا يملكون، ويصرون على التمتع بامتيازات ليست متاحة حتى للمصريين أنفسهم ".
وعندما تقدم باكثير بهذه المسرحية للعرض أشفق عليه القائمون على المسرح وقتها، وكتب المخرج المسرحي الكبير زكي طليمات مقدمة لطبعتها الأولى يقول:
"إنه طلب من باكثير تخفيف لغتها التي لن يستريح لها الإنجليز،وإنه اقترح عليه تسميتها "جحا وابنه" إبعاداً لشبهة الرمز. ولكن باكثير أصر على أن يتحمل تبعات عمله. وتبنى زكي طليمات موقف باكثير وأخرج المسرحية وعرضت على مسرح الأوبرا الملكية في نوفمبر 1951م في حفل كبير وكتبت خبره كل الصحف تقول:
وقام بدور جحا فيها الممثل القدير سعيد أبو بكر ومعه نعيمة وصفي وسميحة أيوب وعبد الرحيم الزرقاوي وعدلي كاسب والممثل الناشئ عبد المنعم إبراهيم الذي بدأ نجمه في البروز منذ ذلك العرض. وأحدثت المسرحية صدى كبيراً في الأوساط الثقافية والسياسية وتناولتها كل الصحف وقرظها النقاد وأقيمت حولها الندوات واعتبرت حفلاتها تظاهرة وطنية ضد الاستعمار في قلب وطن يحتله الاستعمار، الأمر الذي جعل إحدى جرائد ذلك العهد وهي جريدة الأساس تكتب في عرضها للمسرحية في عدد 22/10/1951م تقول:
"استطاع مؤلف مسرحية مسمار جحا وهو الأستاذ علي أحمد باكثير أن ينهج نهجاً جديداً في التأليف المسرحي المصري.. استطاع أن يحقق المذهب الرمزي بأجمل وأكمل معانيه في هذه المسرحية... التي افتتحت بها فرقة المسرح المصري الحديث موسمها وكانت ضربة معلم في حينها وفي وقتها ".
وليس هذا مجال عرض أو مناقشة كل ما كتب في الصحف والمجلات المصرية والعربية الأخرى عن هذه المسرحية بجانبيها الفني والوطني. وقد دعت مجلة " الفن " الشهيرة وقتها إلى ندوة حضرها لفيف من الأدباء والنقاد لمناقشة باكثير في مسرحيته.
ثم اخرج الأستاذ زكي طليمات هذه المسرحية مرة ثانية فعرضها المسرح القومي في موسم 55 ـ 1956م كما عرضها مرة ثالثة في موسم 56 ـ 1957م.
وقاد النجاح الجماهيري لهذه المسرحية إلى التفكير في تحويلها إلى فيلم سينمائي تم إخراجه وتمثيله وأعلنت عنه الصحف.
وبعد ثورة 23 يوليو 1952م، استمر نجم باكثير في الصعود وبدا وكأنه سيصبح أكثر تألقاً في عصر بشر به وكرس الكثير من أعماله في سبيله.ولكن هذا التألق كان إلى حين. المهم أن مسرحية"سر شهرزاد"كانت أول مسرحية تعرض لباكثير بعد الثورة. وكان نجاحها يؤكد ثبات قدم الرجل في فنه.
ففي 15 نوفمبر 1953م افتتحت الفرقة المسرحية موسمها المسرحي لسنة 53/1954 على مسرح الأوبرا بمسرحية باكثير " سر شهرزاد ". وقد تأجل عرض هذه المسرحية التي كتبها باكثير في أواخر سنة 1951م إلى ما بعد قيام الثورة المصرية لكن المسرحية نشرت في كتاب قبل الثورة بشهور واستقبلت استقبالاً حسناً من النقاد خاصة وأنها عبرت عن تفاقم حالة الفساد في حكم شهريار وأظهرت الحاجة الملحة إلى الثورة والتغيير ـ من خلال شخصية " نور الدين ".
وقد أخرج المسرحية فتوح نشاطي وقام بدور شهريار الممثل القدير أحمد علام ومثلت أمينة رزق دور شهرزاد وقام ببقية الأدوار كل من فردوس حسن، نجمة إبراهيم، وفؤاد شفيق وبرلنتي عبد الحميد، ومحمد الطوخي وسامية رشدي وغيرهم. ولقيت المسرحية نجاحاً جماهيرياً كبيراً إذ عرضت في ثماني عشرة حفلة.
وقد تفوق باكثير في معالجته لعقدة شهريار على زميليه الحكيم وعزيز أباظة وذلك باعتراف ثلاثة من النقاد وهم محمد مندور ومحمد القصاص وشوقي ضيف سواء من الناحية الدرامية أو التفسير النفسي لها. لقد برأ الزوجة من الخيانة حيث اعتبرتها تقارير بعض النقاد إنصافاً للمرأة العربية المسلمة مما لصق بها من خرافات عبر العصور. فلقد كتبت مجلة " الصباح " في العدد 1407بتاريخ 17 نوفمبر 1953 تقول ضمن تقرير طويل:
"وتعد المسرحية في نفس الوقت إنصافاً للمرأة وانتصاراً عادلاً لها، إذ نقلت هذه الأسطورة الخالدة من إطارها القاتم الذي يفيض تشاؤماً بالمرأة واتهاماً لها بالخيانة والانسياق مع الشهوة، إلى إطار مشرق جميل تتبوأ فيه المكانة الرفيعة التي تليق بها باعتبارها المصلح الأول للمجتمع الذي نعيش فيه. وهكذا تجمع المسرحية بين الواقعية في علاجها الفني وبين المثالية في هدفها النبيل ".
أبو دلامة
وبعد ذلك عرضت له مسرحية فكاهية لم تخل من الرموز وهي " أبو دلامة مضحك الخليفة " وهي أيضاً من المسرحيات التي كتبها قبل الثورة، فقد نشرت سنة 1951 وتم عرضها بعد الثورة على مسرح الأوبرا سنة 1954 واستمر عرضها متتابعاً من 3 ـ إلى 15 نوفمبر وقد أخرجها فتوح نشاطي وقام بدور أبي دلامة الممثل القدير حسين رياض فلما مرض قام بالدور في بقية العروض الممثل فاخر فاخر الذي لا يقل جدارة عن السابق وقد شارك في تمثيلها غيرهما من ممثلي المسرح القومي. وقد عرضت هذه المسرحية في الكويت في الستينات وقام بإخراجها زكي طليمات. وكانت هذه المسرحية آخر عهد فرقة المسرح القومي بروائع باكثير.
وفي المواسم التالية أعيد عرض اثنتين من مسرحياته التي لقيت أكبر النجاح الجماهيري قبل الثورة. فقد أعيد عرض مسرحية " سر الحاكم بأمر الله " لمدة ثلاث سنوات تفتتح بها المواسم المسرحية 53 ـ 1954، 54 ـ 1955، 55 ـ 1956 على المسرح القومي. كما أعيد عرض مسرحية " مسمار جحا " على المسرح القومي في عامين متتاليين الموسم المسرحي 55 ـ 1956، 56 ـ 1957.
وكان عرض " مسمار جحا " في موسم 56/1957 آخر مسرحية تعرض لباكثير على المسرح القومي الذي بدأ منذ ذلك العام يدير لباكثير وغيره من الرواد ظهره العريض. فقد بدأ يقوم عليه رجال ليس لهم تاريخ باكثير الفني والفكري ولا رصيده من الكفاح قبل الثورة. ولكنهم كانوا أكثر كلاماً عن الثورة بعد الثورة إذ كانوا يجيدون استخدام الكلمات الكبيرة والمصطلحات المبهمة ويعرفون كيف يرفعون الشعارات اللامعة في الوقت المناسب كما أنهم أساتذة في انتهاز الفرصة وركوب الموجة والسير مع التيار. وهذه أمور تنزه عنها كتاب شرفاء أمثال باكثير من الذين يحترمون أنفسهم ويعرفون لها قدرها. ومع ذلك فلم يكن ذلك آخر عهد باكثير بخشبة المسرح على كل حال. فقد أتيح لمسرحيته السياسية " شعب الله المختار" الظهور في يناير سنة 1958 ولكن على مسرح آخر، على مسرح حديقة الأزبكية مثلتها فرقة المسرح الشعبي المصري.
وقد كتب باكثير هذه المسرحية سنة 1948، بعد قيام إسرائيل ووضع فيها تصوراً آخر لنهاية الدولة الصهيونية يختلف عن " شيلوك الجديد . ففي هذه المسرحية يتوقع باكثير انهيار إسرائيل من الداخل بثورة شعبية تسقط الحكومة. وتقوم حكومة جديدة تتفاوض مع العرب لتأليف حكومة عربية لفلسطين ويخير اليهود في النهاية بين البقاء كمواطنين في حكومة فلسطين العربية أو العودة إلى أوطانهم الأصلية دون أذى.
وبعرض هذه المسرحية يسدل الستار على مسرحيات باكثير الكبرى ـ ذات القضايا السياسية ـ وتنتهي مرحلة الازدهار من خلال العروض المسرحية. وظل باكثير في المرحلة الثانية يكتب للمسرح وينشر مسرحياته دونما أمل في عرضها في حياته على الأقل.
ومع ذلك فقد عرضت له مسرحيات في المرحلة الثانية ولكنها كانت من مسرحيات اهتماماته الجانبية وهي القضايا الاجتماعية كما سنرى.
يتبع..