المقامة الفيسبوكية
عبد الرحيم صادقي
حكى نبهان بن يقظان قال: دخلتُ الفيس بوك، مَن جهِله أبي وأبوك. فوجدتُ الأصحاب، يتبادلون الإعجاب. يكتبُ هذا ويَعجبُ صاحبُه، ثم يَنكُزه ويُشارِكه. والعجبُ كثيرٌ بلا تدقيق، وأكثره تزلّفٌ على التحقيق. ورُبّ عَجب أورثَ عُجبا، وأكسبَ تعارفا وقُربا. وكم من مُعجَب لا يُعلّق، وإن كان ينسخُ ويَسرِق. وذاك ضربٌ من التواصُل، لا يمنعُه الجَحْد والتّجاهُل. وإنك لَتَعجبُ بما لم تَقرأ، تدفعُ لوْما وتَدرأ. وتَقرأ ولا تَعجب، والصمتُ من ذَهب! ولا تُقيّدكَ القوانين، ولا عُرف ولا دين. ولا تأسِرُك القواعد، ولا تَلزمُك الشواهد. ولا يُضجرُك انتظار، ولا طلبُ نشرٍ واستفسار. ولا إقرار لجنة محكّمة، أنت القاضي والمَحكمة. وميزةُ المكان أن تختار مَن تُصادق، ومَن تَحظرُ أو تُفارق. وفي المكان فتيةٌ لا يملّون الثرثرَة، غداتُهم وعَشيُّهم في خَرْخَرة. وأكثر القوم تجمعُهم الهَواهي، وتُفرّقهم الدّواهي. لا يُطربُهم الفصيح، ولا القولُ المليح. فلَهم لغة مخصوصَة، كأُحجيّة مَرصوصَة. يقتصّون من الفُصحى، كقِصاصِهم في الأضحى. فيُعزِّرون الهمزة، ويُكثرون الغمزة. ويرفعون المنصوب، ويعشقون المقلوب. ولا غالبَ بينهم أو مغلوب، ضَعُف الطالبُ والمطلوب. كيف ولا هَمَّ لهم في حُجّة، كزُهدِهم في عُمرة وحَجّة!
وفي الفيسِ ترتفعُ الفوارق، وتأتيكَ بالليلِ الطّوارق. وتختلطُ المقامَات، وتُخفَض الهامَات. وتَكثرُ النّعوتُ والألقاب، حتى يطاولَ البُغاثُ العُقاب. ولِمن شاء أن يدّعي ما شاء، فينتحل صفةَ الأولياء. ويدّعي الفقيرُ الغِنى، وغِناه أبعدُ المُنى. ويتواضع الكبير، ويتكبّر الصغير. ويتجمّل الدّميم، ويتحبّب اللئيم. وتَرفعُ صورةَ الجمال الشّوْهاء، وتَسترُ العفيفةُ جمالَها بسِتْرِ الحياء. ويغدو البَعْل عَزَبا، والعَزبُ أبا. وفي مَثوى الغَرر يصيرُ ذو الشارِب "هيفاء"، والكاعبُ الحسناء "أبا براء". ويغدو "سعيد" "سعيدة"، وبلا عقيقةٍ جديدة، تصبحُ "مبروكة" "كاترين"، ذاتَ الحَسَب والدّين.
قال حنظلة: أراهُ مجمعَ الهُزَأة والجاد، والقاصِدِ والسّافِر بلا زاد. ومُبتغي البيع والشراء، وصاحب دعوةٍ للاقتِداء. أليس كلٌّ يجِدُ فيه بُغيَته، فيعملُ فيه على شاكِلَته؟ قلت: هو كما رأيت، وقدّرتَ ودَريْت. ولقد تجدُ صديقَك "الشنفرى"، لا علمَ له بشِعرٍ وما درى. وتَلْفى صديقَك المهندس، يخصِفُ النِّعال ويُدلِّس. وطبيبَ الباديةِ والمدائن، تاجرَ علفٍ ودواجِن. أما مُحترِفو الفوتوشوب فقد عمَروا المكان، وأعجزوا الإنسَ والجان. وأكثرُ ما يَستجلبُ القَرف، ويَمحقُ الحياءَ والشرف، شيوعُ التمدّحِ والصّلف، وغرورٌ على خَرف. حتى يجادلَ الجاهلُ العالم، وينظرَ الظالمُ في المظالم. ويردَّ المتعلمُ قولَ الخبير، ويُعانِدَ الضّريرُ البَصير. قال حنظلة: أليسَ في المكان غير هذا العبَث؟ أخشى أن نَهلِكَ لِكثرةِ الخبَث. قلت: بل قد يوقظ الفيسُ النّيام، ويُصلح حالَ الأنام. وقد يُعلن الفيسُ ثورتَه، حين يُكمِل الجَوْر دَورتَه. ولاسيما في دُوَيلات العرب، ألمْ ترَ كيف "الشين" هرب؟! ومِن أهل الفيسِ مَن يحتسِبُ أمرَه، مُغتنِما شبابَه وعُمرَه. فإذا هو كصاحبِ غَزوة، أحرُفُه جهادٌ وذِروة. ومنهم مَن تراهُ يُقَرِّعُ العِباد، بلا رَويّة ولا رَشاد.
قال حنظلة الأحنف: ما كان الرِّفقُ في شيء إِلا زَانَه، ولا نُزِعَ من شيء إِلا شَانَه. لكن أيَقدر الفيسُ أن يُقيم الألفة، ويُزيل الوحشةَ والكُلفة، على بُعد الدّيار وتبايُن الأحوال، واختلافِ الألسُنِ وتَعدُّد الأجيال؟ قلت: رُبّ أخٍ لكَ لم يَلدْهُ أبوك، ورُبّ صديقٍ وَلدَهُ فيس بوك. قال حنظلة: لكني أدركتُ مَن كان يباهي بكثرة المعجَبين والأتباع، ويحسِبُ أنه مِلءُ الأبصارِ والأسماع. ولمّا أحوجَه الاستِقراضُ إلى الأصدقاء، بادَلوه الأسفَ والرّثاء. فإذا هو يتمثّلُ قولَ أبي تراب:
فَما أَكثرَ الإِخوانَ حينَ تَعدّهُم ؞؞؞ وَلكنّهُم في النائِباتِ قَليلُ
ثم كان كلما جاءه مَن يطلبُ صداقتَه، ويخطبُ قُربَه ومودّتَه، أجابهُ: غُرْ يا ابنَ غَيّة، لدَغتْكَ حيّة! ليس هذا بعُشّكِ فادْرُجي! اشتدّي أزمةُ تَنفرجي!
قلت: ولقد ذكّرتَني قولَ دِعبل:
ما أكثرَ الناسَ لا بلْ ما أقلّهمُ ؞؞؞ اللَّهُ يَعلمُ أنّي لَم أقُلْ فَنَدا
إني لأفتحُ عيْني حينَ أفتحُها ؞؞؞ على كثيرٍ ولكنْ لا أرى أحَدا
قال حنظلة الأحنف: نِعم القوْل، وصدقَ دِعبل! بيدَ أنّ المكان إن كان لا يخلو من الغَرر، فأيّ شيء لم يخالطْ صفوَه الكدَر؟