سنة التدافع وعوامل النصر (5)
عمر حيمري
إن الحرب بصفة عامة هي نزاع وصراع مسلح، يعتمد القتل والعنف والتشريد والتهجير والتخريب والهدم ، بهدف السيطرة على الأرض وخيراتها، وبنية وقصد السيطرة السياسية والإيديولوجية والفكرية والدينية والاستيلاء على الحكم والسلطة عن طريق إلحاق الضرر بالطرف الآخر في المعدات والمال والأنفس والاستيلاء على أرضه ونهب خيراته وسرقتها ، ومن ثمة إلحاق الهزيمة به ودفعه إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء . وهي ظاهرة إنسانية عالمية يتم النصر فيها ، أو تكون سجالا ، عندما تتساوى الفئتان المتقاتلتان في الكفر والشرك والاعتقاد العلماني والإصرار على الظلم والاعتداء ، لمن يملك كثرة السلاح والعتاد والمال والرجال ذوا التدريب العالي الجيد ، الصابرين على البأساء ، المدربين على إدارة الحرب بالرأي والفطنة والذكاء والمكيدة ، ولهم من الأصدقاء والموالين من يساندهم ويناصرهم على عدوهم . مثال ذلك الحرب بين هتلر وقوى التحالف العالمي ، إذ كانت الغلبة في البداية لهتلر لكثرة عدد جنوده ، وحسن تسليحهم ، وجودة عدتهم وسلامة خططهم الحربية . ثم انقلبت الكفة فانكسرت شوكته ولحقت به الهزيمة ، لما اجتمعت عليه قوى التحالف العالمية وعلى رأسها أوربا وأمريكا ، بعد أن تهيأت لها من الإمكانيات الحربية ما يفوق إمكانيات هتلر ، فكان لها النصر . وهناك نموذج آخر هو حرب بريطانيا والأرجنتين ، إذ انتصرت فيها بريطانيا على الأرجنتين لتفوقها التكنولوجي وامتلاكها أخطر أنواع الأسلحة المدمرة ومساندة أمريكا لها كقوة عظمى تملك من التكنولوجيا ما لا تملكه الأرجنتين ، فانتصار بريطانيا إذن هو أمر طبيعي ، مستحق لا ينكره عاقل ، لأنه تم وفق قوانين الحياة ، ووفق مبدأ البقاء للأقوى والأصلح ، والأخذ بكامل الأسباب المادية. .
أما أن تنتصر الفئة القليلة الضعيفة ، التي لا تملك ترسانة من الأسلحة ، على الفئة الكثيرة الظالم المتفوقة في السلاح والعسكر ، فهذا هو العجب ، الذي لا يخضع لا للعقل ولا للمنطق ولا لقوانين الحرب والحياة ، بل يخضع لمنطق لا غالب إلا الله الذي هو. ضد منطق التفوق في العدة والعتاد الحربي ، وخارق للقانون الطبيعي للحرب ، الذي يسير وفق الكثرة في الجند والعتاد والتكنولوجيا الحربية ، فمنطق القوة ،وقانون الحياة ، تراه يتعطل ، ويتوقف ويفسح المجال لمنطق وقانون لا غالب إلا الله ، في حالة اقتتال طائفتين إحداهما ضعيفة ، ولكنها تقاتل من أجل قضية تؤمن بها ، أو عقيدة تحملها ، أو دين تدافع عنه ، أو وطن تذود عنه ... وأخرى تحارب من أجل الحرب أو من أجل السيطرة السياسية والمنافع الاقتصادية والمادية أو من أجل اغتصاب أرض واستعمارها وسرقة مواردها الطبيعية كالبترول والغاز والمعادن ...فالنصر يكون بالضرورة للفئة صاحبة القضية والمعتقد والدين والوطن .وحروب التحرير ضد المستعمر في العالم والانتصارات فيها شاهد على هذه الرؤية ، والدليل عندنا نموذج حرب الفيتنام مع أمريكا وقبلها مع فرنسا وحرب التحرير الجزائرية مع فرنسا وحرب أفغانستان ، التي لا تملك شيئا ، لا تملك حتى الطعام ، ولا شرك النعل . ومع ذلك قاومت روسيا وأمريكا والحلف الأطلسي الذين يملكون كل شيء ، بل يملكون ما لا يمكن تصوره من أسلحة الدمار الشامل الفتاك ، فانتصرت عليهم ، و خسروا كل شيء في الحرب مع هذه الفئة المؤمنة الأفغانية المعتدى عليها ، لأنها كانت صاحبة مبدأ وقضية ، قريبة من الله ، وكانوا بعيدين عن الله ، معجبين بقوتهم وكثرة جندهم وعتادهم ، كانوا ظالمين معتدين ، يقاتلون بغير قناعة وبغير هدف نبيل ، فكانت الهزيمة من نصبهم .....
أما عندما تكون الحرب بين طائفتين مؤمنتين ، فالواجب على المسلمين الإصلاح بينهما ، فإن لم ترعو الفئة الظالمة ، وجب على المسلمين مقاتلتها لردها إلى رشدها وإلى الحق ونصر الطائفة المظلومة عملا بقوله سبحانه وتعالى : [ وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينتهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ] ( سورة الحجرات آية 9 ) وهنا تكون الهزيمة حتما من نصيب الطائفة الباغية لبغيها وظلمها واعتدائها أولا ، ولاجتماع المسلمين على حربها ومقاطعتهم لها سياسيا واقتصاديا ثانيا .
ولكن عندما تكون الحرب بين فئة مؤمنة ، وأخرى كافرة ، فإن الله وعد المؤمنة بالنصر على الكافرة [ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ] ( سورة محمد آية 7 ) [ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنين ] ( سورة آل عمران آية 31) لأنهم أصحاب أمانة ورسالة وتوحيد وقضية ، اختارهم الله ، بعد أن فشل اليهود وعجز النصارى عن حمل الأمانة ورعايتها ، وبعد أن خانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم وتآمروا على الإسلام وأهله ، فأمر الله سبحانه وتعالى بقتالهم ، وقتال كل من يقف في وجه حرية العبادة والدعوة إلى الإسلام ، من المشركين والعلمانيين الذين يطعنون في ديننا ويتآمرون علينا ويتربصون بنا الدوائر . فقال سبحانه وتعالى[ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ] ( سورة التوبة آية 14 – 15 ) . كما أمرنا سبحانه وتعالى بقتال الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون بدين الحق ، سواء كانوا أهل كتاب أم علمانيين لائكيين لا دينيين . فقال تعالى [ قاتلوا الذين لا يومنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دن الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ] ( سورة التوبة آية 29 ) . ذكرت سابقا أن النصر ليس من الضروري أن يكون بسبب الكثرة في العدد والعدة وإنما النصر يكون من عند الله وبسببه وإذنه طبقا لمنطق لا غالب إلا الله ، والتاريخ يحدثنا عن حرب عين جالوت ، إذ انتصر فيها المؤمنون بقيادة الملك المؤمن طالوت رغم كثرة جيش جالوت الطاغي وسلاحه ، وذلك لصبرهم وطاعتهم لملكهم ، وتنفيذ أوامره ، وقربهم من الله واعتمادهم عليه وتوجههم بالدعاء الخالص له واستغاثتهم به وطلب النصر والصبر والتثبيت منه سبحانه وتعالى فكانت الإجابة فورية من الله سبحانه وتعالى لدعائهم وكتب لهم النصر والتمكين بإذنه وآتاهم الملك ، وهذا ما سجله القرآن الكريم في سورة البقرة [ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اعترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ] ( سورة البقرة آية 249 ) وما هو ثابت في قوله تعالى [ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ] ( سورة البقرة آية 250 -251 ).
كما أن المشهد نفسه ، يتكرر مع جند الله ...