فقه التغيير

الأخيرة

الخلاصة 

د. خالد الأحمد

قال تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }، تغيير النفس سماه بعض الدعاة إصلاح الفرد ، وإصلاح الأسرة المسلمة ، وإصلاح الفرد والبيت مما يقدر عليه كل منا وحده بعد الاستعانة بالله عزوجل ،  ثم يأتي تغيير ما بالقوم وهو إصلاح المجتمع ...والدولة جزء من المجتمع ، بل هي مؤسسة اجتماعية ...

وإصلاح الأسرة ( البيت ) يقوم على إصلاح الفرد ، فعندما نجد الرجل والمرأة الصالحين سوف نجد البيت المسلم الصالح ....

وإصلاح الرجل وإصلاح المرأة هو ما سميناه على مدى عقود إصلاح الفرد ، فتغيير الأنفس هو إصلاح الفرد المسلم ....

وخلاصة إصلاح الفرد المسلم أن لاتكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ، وأن تكون الآخرة والعمل لها ديدنـه في الليل والنهار ... وأن لايغيب عن ذهنه قوله تعالى :

"اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور". الحديد: ٢٠

وهؤلاء الأفراد الذين همهم في الآخرة ، لايتصادمون ، وإنما يتصادم أهل الدنيا ، كما سبق وشبههم محمد قطب بكائنات بشرية برزت لهم نتوءات من الأمام والخلف ومن الجانبين كذلك ، ولهذا السببب يصتدمون بالناس الآخرين في الشارع ، لأن كل فرد منهم صار محتاجاً لشارع وحده ؛ كي لا يصطدم بالآخرين ...

وإصلاح أنفسنا يكون با تباع سنة الرسول r والخلفاء الراشدين المهديين من بعده "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" آل عمران: ٣١  .

 فلننظر دائماً في سيرته r ولتكن لنا حصة يومية مع هذه السيرة كي لا نغفل عن الآخرة ، وهذه لمحة عن حياته r .

(( وأما فرش بيت النبي  r فكان بعيداً عن زهرة الدنيا وزخرفها ، بعيداً عن فرش الملوك والسلاطين ، لأنه   rلم يكن صاحب ملك بل كان عبداً لله، يحمل رسالة هداية ونور للعالمين ، يضرب لهم المثل الأعلى في الزهد والتقلل من الدنيا ـ ليكون قدوة حسنة لأصحابه وأمته ، يقتدون به ويهتدون بهداه .

فقد كان فرشه r سريراً من جريد النخل فيه سعفه ، وكانr يضطجع عليه ، وإذا اعتكف في مسجده جلـس عليه كذلك ، وكان مرمولاً بشرط ( منسوجاً بشريط )، ودخل عمر رضي الله عنه فرأى أثر الشريط بجنبه r فبكى وقال : يارسول الله كسرى وقيصر يجلسون على سرر الذهب، ويلبسون السندس والإستبرق، فقال r :

[ أما ترضون أن تكون لكم الآخرة ولهم الدنيا ؟ ] .

وكان من جملة فرش البيت أيضاً حصيرة ، تقول عائشة رضي الله عنها : كانت لنا حصيرة نبسطها في النهار ، ونحتجرها بالليل ( احتجر الشيء : جعله لنفسه دون غيره ) ، ويضاف إلى فرش بيت النبي r بساط يضطجع عليه ، تقول عئشة : كان ضجاع رسول الله r من أدم حشوه من ليف . كما كان له وسادة ينام عليها من أدم حشوها ليف ...

والبيت بلغتهم يعني غرفـة واحدة ... وكان مغتسله داخل الحجرة ، إذا لا يوجد حمام للاغتسال .

 أخي حارب الشهوات :

مشكلتنا اليوم نمو الشهوات وتضخمها إلى درجة الطغيان ، فقد طغت الشهوات وسيطرت الأهواء حتى أدخلت المسلمين في حالة الوهن التي قال عنها رسول اللـه r :[ ... وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا : وما الوهن يا رسول اللـه، قال : حب الدنيا وكراهية الموت ] - جزء من حديث أخرجه عن ثوبان t -.

فالمسلمون اليوم يسرفون في طعامهم وشرابهم ولباسهم ومسكنهم ، يسرفون إلى حد غير معقول ، فيرمون الثياب الجديدة ، ويرمون الأرز واللحم ، ويرمون ما يكفي لأمة مثلهم في العدد أو تزيد ، ويأكلون حتى يسمنوا فيذهبوا إلى الأطباء يبحثون عن العلاج لتقليل السمنة وإنقاص الوزن ، فراجت اليوم كلمة ( الريجيم ) على كل لسان ، واشتكى كثير من الناس من مرض السكر ، وأمراض القلب ، وغيرها من أمراض الإفراط في الغذاء والشراب ، وملايين المسلمين في مناطق أخرى كإفريقيا وشرق جنوب آسيا يتضورون جوعاً ، وتفتك بهم حملات التبشير النصرانية عندما تقدم لهم الخبز والدواء مع الكتاب المقدس .

والمسلمون مسرفون في مهور بناتهم إلى درجة يخجل المرء من التحدث عن ذلك ، ومسرفون في ولائم الأعراس ، وولائم المآتم ، يتفاخرون ويتباهون في ولائمهم ، ويتلفون أموالهم وثرواتهم وأجسادهم ...

وقد أخرج الشيخان رحمهما اللـه تعالى عن أبي سعيد الخدري t قال : جلس رسول اللـه r على المنبر وجلسنا حوله ، فقال : [ إن مما أخاف عليكم ما يفتح اللـه عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ] - (الترغيب ، (5/144) - . وقد فتح اللـه على المسلمين زهرة الدنيا ، فتنافسوها كما تنافسها من قبلهم ونسأل اللـه أن لا تهلكهم كما أهلكت من قبلهم ، والمرأة المسلمة هي الركن الأساسي في الأسرة،وهي التي تسـوس الأسـرة فتنشئها على الاعتدال في المأكل والمشرب والملبس والـمسكن ، ولها ولأسرتها في رسول اللـه r وصحابته الكرام أسوة حــسـنة :

فقدأخرج ابن سعد (8 /167) عن الواقدي قال : حدثني معاذ بن محمد الأنصاري قال : سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول : وهو بين القبر والمنبر : أدركت حجر أزواج رسول اللـه r من جريد النخل وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود ، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يُقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج رسول اللـه r في مسـجـد رسول اللـه r ، فما رأيت يوما أكثر باكياً من ذلك اليوم ، قال عطاء : فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ واللـه لوددت أن تركوها على حالها ، ينشـأ ناشـئ من أهل المدينة ، ويقدم القادم من الأفق ، فيرى ما اكتفى به رسول اللـه في حياته ، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها ، - يعني الدنيا - قال معاذ : فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس : كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد ، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها ، على أبوابها مسوح الشعر ، ذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع ، والعظم أو أدنى من العظم ، وقال يومئذ أبو أمامة : ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء ، ويروا ما رضي اللـه لنبيه ، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده - (الكاندهلوي ، حياة الصحابة ، (2/713) -.

وأخرج البيهقي عن عائشة tا قلت : ( رآني رسول اللـه r ، وقد أكلت في اليوم مرتين فقال : [ يا عائشة ، أما تحبين أن يكون لك شغل إلا جوفك ؟ الأكل في اليوم مرتين من الإسراف ، واللـه لا يحب المسرفين ، وفي رواية فقال : يا عائشة اتخذت الدنيا بطنك ، أكثر من أكلة كل يوم سَـرَف، واللـه لا يحب المسرفين]- الترغيب ، (3/423) - .

وعن ابن الأعرابي عن عائشة tا قالت : ( جلست أبكي عند رسول اللـه r ، فقال : [ما يبكيك ؟ إن كنت تريدين اللحوق بي فيكفيك من الدنيا مثل زاد الراكب ، ولا تخالطي الأغنياء ] - الكنز ، (2/150) - .

وأخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي نحوه ، وزادوا : [ ولا تستخلفي ثوباً حتى تـرقعيـه ]، قال عروة : فما كانت عائشـــة تســـتجد ثوبــاً حتى تـرقع ثوبها وتنكســه ( تجعل أعلاه أسفله ) . وقد جاءها يوماً من عند معاوية tt ثمانون ألفاً فما أمسى عندها درهم ، وقالت لها جاريتها ( وكانتا صائمتين ) : فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم ؟ قالت : لو ذكرتني لفعلت - الترغيب ، (5/126) -.

هكذا هي أم المؤمنين ، - أيتها الأم المسلمة - تنسى أن تشتري لنفسها لحماً بدرهم واحد ، وهي بحاجة لهذا الطعام ، لكن الرغبة في الآخرة أنستها نفسها ووزعت ثمانين ألفاً على المسلمين ولم تمسك منها درهماً واحداً... واللـه إنها أخلاق أم المؤمنين التي تربت طفولتها في بيت الصديق، وعاشت صباها وشبابها في بيت سيد المرسلين r

وأخرج الطبراني عن جعدة t أن النبي r رأى رجلاً عظيم البطن ، فقال بإصبعه في بطنه : [ لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك] - الهيثمي ، (5/31)-.

وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة tا قالت : أتي رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم بقدح فيه لبن وعسل فقال : [ شربتين في شربة ، وأُدمين في قدح ؟ لا حاجة لي به . أما إني لا أزعم أنه حرام ، ولكن أكره أن يسألني اللـه عز وجل عن فضول الدنيا يوم القيامة، أتواضع للـه، فمن تواضع للـه رفعه، ومن تكبر وضعه اللـه، ومن اقتصد أغناه اللـه ، ومن أكثر ذكر الموت أحبه اللـه ] ــ الترغيب 5/158ـ .

وأخرج أحمد وابن حيان في صحيحه والبيهقي عن ابن عباس tما أن رسول اللـه r دخل عليه عمر رضي للـه عنه وهو على حصير أثر في جنبه ، فقال : يارسول اللـه لو اتخذت فراشـاً أوثر من هذا ، فقال : [ مالي وللدنيا ؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سـار في يوم صائف فاستظل تحت شـجرة ساعة ثم راح وتركها] أي ترك الدنيا ـ الترغيب 5/160ــ  هكذا كان موقف رسول اللـه r من الدنيا ، وقد أمرنا أن يكون لنا أسـوة حسـنة نقتدي بـه فلمَ لانفعل !؟ وهناك من يدعي أن العصر الذي عاش فيه رسول اللـهr عصر فقر ، ولم يتوفر عندهم أنواع الأطعمة والملبوسات ، وأن الفقر كان منتشراً بين الناس كلهم ، أما اليوم فقد انتشرت الخيرات ، ويسارع مثل هؤلاء إلى الآية الكريمة{قل من حرّم زينة اللـه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ، كذلك تفصل الآيات لقوم يعلمون}ـالأعراف 32ـ. ولانحرم زينة اللـه ، لكن عباد الرحمان كما وصفهم اللـه تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكن بين ذلك قواماً } ـ الفرقان 67ـ ، وهذا رسول اللـهr يقول لعائشة t [ .. الأكل مرتين في اليوم من الإسراف ..] وأما الدعوى بأن أيام الرسول r كانت أيام فقر ، فهذا غير صحيح ، فقد ملك رسول اللـهr أموالاً طائلة ، لكن ملكه لها ماكان يبيت عليه الليل ؛ بل كان يوزعها لتوها كما فعل عقيب غزوة حنين :

( .. وأعطى رسول اللـهr المؤلفة قلوبهم ، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير ، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير... ) وعدَّ ابن هشام أحد عشر صحابياً أعطى كلاً منهم مائة بعير وسموا أصحاب المئيـن ـ ابن هشام 277ـ  ( ... وأعطى دون المائة رجالاً من قريش منهم : مخرمة بن نوفل، وعمير بن وهب، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل ، وأعطى السهمي خمسين كذلك ـ ابن هشام 277ــ وهذه كلها من خمس رسول اللـهr ، لأن الرسول r يعطي من سـهمه؛ لامن سهام المسلمين ، وقد غنموا في حنين من الإبل والشـاء ملايدرى عـدتـه ، والذي أريده أن رسول اللـه r زهد في الدنيا وقد ملكها ، بل ملك مفاتحها ، ولو أراد جبلاً من ذهب لأعطاه رب العزة والجلال ، لكنه r رفض أن يشرب اللبن الممزوج بالعسل وقال :[ ... إني لاأزعم أنه حرام ، ولكن أكره أن يسألني اللـه عزوجل عن فضول الدنيا يوم القيامة ، أتواضع للـه ...] . وهذا تصريح منه r بأنه يزهد في الدنيا وقد ملكها ، . وثمة دليل آخر عندما طالبه أزواجه بزيادة النفقة ، فهل تتصور أن أمهات المؤمنين t يطلبن من الرسول r ما لايقدر عليه ، وما ليس في يـده !!؟ أم أنهن رأين الدنيا في يديـه ينفقها في سبيل اللـه ولايبقي منها شـــيئاً له أو لهــن!!؟ ولما خيّرهــنّ r بين الدنيـــا واللـه ورسوله اخترن اللـه ورسوله t .

 ولا أريد أن أطيل عليكم أحبابي ، وألح أن تكون لكم صلة يومية بكتاب الله عزوجل، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع ، وسوف تجد أن ذكر الآخرة والجنة والنار لاتغيب عن صفحات كتاب الله عزوجل ، لأن من رحمته عزوجل أراد أن يكون عبده المؤمن على ذكر دائم للجنة والنار والآخرة ...

وليكن لك صلة يومية بســـيرة رسول الله r  ، صلة يومية بكتاب الله مع تدبر المعاني ، وصلة يومية بسنة رسول الله r ؛ هذا هو إصلاح الفرد ، الذي نعتبره الخطوة الأولى في الإصلاح ، وهو خطوة مستمرة لا تنتهي ، وهذا هو إصلاح النفس ، ومعه تغيير البيت المسلم ، أو قل تكوين الأسرة المسلمة ، وهي الخطوة الثانية في الإصلاح الذي تنهجه الحركة الإسلامية ، وإصلاح البيت من تغيير الأنفس أيضاً لأنه في مقدور الفرد المسلم ( الذكر والأنثى ) ، أعانني الله على النشر وأعانكم الله على القراءة وإبداء الملاحظات والتعليقات للاستفادة منها  ....