قصتي مع تراث باكثير (9)

د.محمد أبو بكر حميد

قصتي مع تراث باكثير (9)

علي أحمد باكثير

الدكتور محمد أبو بكر حميد

رحلات ومذكرات شخصية

عثرت بين أوراق باكثير الخاصة على عدة كراريس تحتوي على مذكرات يومية كان يكتبها أثناء رحلاته ومن حسن الحظ أنه كتب مذكرات عن الفترة التي أقامها بالحجاز بعد خروجه من حضرموت سنة 1352هـ وهي مرحلة لا نعلم عنها كثيراً، وتحدث فيها عن أدباء الحجاز الذين اتصل بهم مثل الشيخ عبد الله بلخير، حسن كتبي، محمد حسن فقي، الغزاوي، طاهر زمخشري، عبد القدوس الأنصاري، ضياء الدين رجب، عبد اللطيف أبو السمح وغيرهم ومذكرات أخرى عن المرحلة الرسمية التي رأس فيها وفداً مصرياً لحضور مؤتمر أدبي في طشقند بالاتحاد السوفييتي وقصة مواصلته السفر بمفرده إلى كل من ألمانيا، والنمسا،وبولندا،وإيطاليا،وتشيكوسلوفاكيا حتى عودته إلى مصر وكان ذلك سنة 1958م. وقد حوت ملاحظاته وتعليقاته على الحياة والناس هناك وما حدث له معهم من طرائف.

كتاب شعراء حضرموت

وقد عثرت على كراستين من هذا الكتاب بخط باكثير نفسه لدى شقيقه الأستاذ عمر أحمد باكثير عندما زرته في حضرموت صيف 1980م ثم وجدت الجزء الأول من هذا المخطوط لدى الأستاذ الجليل عبد القادر بن احمد السقاف عند لقائي به في منزله بجدة بعد ذلك بعامين، ولعل هذا الجزء الأول يعتبر أهم الأجزاء لاحتوائه على مقدمة أعتبرها من أهم ما كتب عن الشعر الحضرمي الفصيح والعامي وقد كان الإهداء على الصفحة الأولى كالتالي:

"إلى مستودع الأمل، ورجال المستقبل، إلى النشء الحضرمي الوثاب، إلى تلك الأدمغة الصافية التي لم تعلق بها الأوهام، ولم تعبث بها الغِيَر أهدي كتابي هذا كأول زهرة في أصيص تاريخ الأدب الحضرمي، ولي الأمل الوطيد أن يضموا إلى هذه الزهرة وأخواتها من نتاج قرائحهم، فتتألف من ذلك باقة متألقة الأنوار".

ثم كان أن لقيت بين أوراقه في القاهرة الأجزاء الأخرى من هذا المخطوط مع الأجزاء الأولى مما يدل على أنه حرص على أن يكتبها أكثر من مرة، ولقيت مادة أخرى ضمن رسائله تضاف إليه وهي مجموعة رسائل من أولاد الشعراء الذين أراد الكتابة عنهم فيها ترجمة آبائهم ونماذج من أشعارهم مما يدل على أنه قد اهتم بمتابعة هذا المشروع حتى بعد وصوله إلى مصر لأنه بدأ كتابته بحضرموت سنة 1927م ولعل ظهور كتاب تاريخ الشعراء الحضرميين للأستاذ عبد الله السقاف جعله يتوقف عن مواصلة مشروعه وخاصة أنه يقال أن الأستاذ السقاف قد استعان بالمادة التي جمعها قبله باكثير، ولكن يظل كتاب باكثير بحاجة للنشر لأنه يقدم هؤلاء الشعراء بأسلوب مختلف وبمفهوم يختلف عن مفهوم السقاف، ويظل وثيقة تاريخية أخرى عن شعراء حضرموت بين أيدينا لأنه لم يكتب عنهم أحد إلى الآن بسعة السقاف ولا بدقة باكثير.

الآن اكتمل ديوان باكثير

ومن خلال وقوفي على كل أوراقه وجدت أن باكثير قد بدأ بالفعل يجمع شعره في آخر أيامه، وبدأ ينظمه تحت أبواب معينة تخضع للأمكنة فهناك شعر كثير تحت باب "الحضرميات" و"العدنيات" و"الحجازيات" وهو مجموع ومكتوب بخط جميل واضح، ولكن الموت قطع عليه مواصلة جمع مراحل شعره في مصر وهو الأكثر والأغزر، وقد كانت مهمتي صعبة في جمع هذا الشعر والتعرف عليه، فلقد وجدت عشرات القصائد متناثرة بين أشيائه، فهناك قصائد في بطون الكراريس وهناك على أغلفة كتب وقصائد كتبها على قصاصات ورق نسيها في بطن كتاب وقصائد أخرى مكتوبة على أنواع مختلفة من الورق جمعها ووضعها في مغلف رسائل على أمل العودة إليها وهناك قصائد على كراريس ملخصات نثرية لمشروعات مسرحية وقصائد من مفكرات الجيب التي لا تفارقه أبداً كما وجدت قصائد مكتوبة على ما تبقى من فراغ رسائل تصل إليه يرد على موضوعاتها ومن الواضح أن هذه القصائد جميعها من نتاج الدفقة الشعورية الأولى التي تمتلئ بها نفسه فتفيض بها على أي ورق تقع عليه يده ومعظمها تصعب قراءته ويحتاج إلى وقت طويل للتعرف على خطه لكن العمر لم يمهله أن يراجع هذه القصائد ويعيد كتابتها والنظر فيها، وقد لاحظت أنه قد يرقم بعض القصائد لتأخذ شكلاً جديداً غير الشكل الذي ظهرت به عند الدفقة الأولى، وهو قليل التعديل في القصائد، فإذا ما قام بتعديل فإنه يتم لبعض الكلمات وكثيراً ما يترك المسألة معلقة في حالة خيار حين يكتب كلمة أخرى على الهامش ويترك الكلمة الأصلية في البيت كما هي، ومن الواضح أنه كان يفعل هذا ليعود للقصيدة مرة أخرى، وقد لاحظت أن معظم ما كتبه في العشر السنوات الأخيرة من حياته بحبر أخضر اللون أما إنتاجه قبل ذلك فكان بالحبر الأسود كما هو الحال في كراستين تحتويان على شعره في أثناء الحرب العالمية الثانية.

وما بقي الآن إلا العمل على إعداد ديوان باكثير الضخم للنشر بعد أن ظل بعيداً عن القراء ما يقرب من خمسين عاماً !