سياسة تنظيم الأسرة في الصين

ما لها وما عليها

عباس جواد كديمى *

[email protected]

وأنا افكر فى الكتابة عن هذا الموضوع ، يتبادر الى ذهنى التزام بألاّ أجامل واضعى السياسات على حساب الناس ، وأن التزم الموضوعية فى تناول هذا الموضوع الأنسانى الحساس . ولكونه موضوعا قديما ، فقد كُتِبَ عنه الكثيرُ وحظى بنصيب وافر من الثناء والانتقادات فى آن واحد . أما كتابتى عنه فليس من أجل إضافات بل بهدف إزالة الغموض المحيط به ، لكونى أعيش فى الصين منذ أكثر من عشر سنوات واستمعت لآراء الكثيرين عنه.

وإذا أردنا الخوض فى مثل هذا الموضوع الأنسانى يجب الأخذ بالاعتبار آراء الناس المتأثرين بهذه السياسة وكيف ينظرون اليها ، وما هى مشاعرهم ، وخاصة السيدات الصينيات ، فربما أثير حسرة فى قلب سيدة تحب فى طبيعتها ، مثل كل نساء الارض ، أن تكون أما لأكثر من طفل ، وربما أُتَّهمُ بمحاباة هذا الجانب ضد ذاك.

من الطبيعى ان الإنسان يُولد ويترعرع ويكبر ومعه حب فِطرى لأكبر قدر من التواصل الإجتماعى ، فقد خلق الله سبحانه الناسَ شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتواصلوا . أما المرأة فتولد وتترعرع وفى طبيعتها حب غريزى للأمومة ، وفى فطرتها حب لامتناهٍ لأطفالها ولعائلتها. وهذه الصفة ليست حكرا على البشر ، بل تتجسد حتى فى الحيوانات ، الأليفة منها والمتوحشة .

والإنسان ، سواء الذكر أو الأنثى ، ميال للتكاثر وفقا لطبيعته التى خُلق عليها ، والصينيون ليسوا استثناء ، ولكن الأمر مختلف فى هذا البلد . وحقيقة الاختلاف تكمن فى سياسة مفروضة على مواطنيه منذ عشرات السنين، وهى أن يكون لكل زوجين طفل واحد .

ومما لاشك فيه أن واضعى هذه السياسة كانت لهم مبرراتهم وحججهم . ولكن ماذا عن المواطن ؟ هل تنسجم هذه السياسة مع مشاعره وتطلعاته ؟ وهل يلتزم بهذه السياسة طوعا وتفهما ؟ أم مجبر أخاك لا بطر ؟ .

وبمجرد ذكر المواطن العادى يتبادر الى الذهن فورا العامل الإنسانى فى هذه القضية ، حيث تبدو هذه الإجراءات قاسية فعلا بحق الأبوين ، وخاصة بحق الأم التى خلقها الله تعالى وفى غريزتها حب فطرى للأمومة.

ومن أجل إزالة الغموض المحيط بهذه السياسة ، يتعين الإحاطة أولا بظروف فرضها فى الصين قبل نحو 30 عاما ومبررات تطبيقها ، ثم الحديث عن التطورات الكبيرة التى شهدها هذا البلد خلال هذه الفترة بالذات ، وصولا الى اسئلة تفرض نفسها وهى : هل مازالت مبررات هذه السياسة قائمة ؟ وهل استجاب واضعو السياسات فى الصين لتغيرات الزمن؟  وهل حان الوقت لإحداث تغيير فيها ؟ وهل مازالت على حالها منذ فرضها وتطبيقها قبل ثلاثة عقود؟ ، وللإجابة على هذه الإسئلة لابد من تفاصيل ولو بشكل بسيط.

واقع الصين وخلفية فرض هذه السياسة :

شهدت الصين الفقيرة خلال ستينات وسبعينات القرن الـ 20 زيادة سريعة ومستمرة فى اعداد السكان. وفى السبعينات بالذات بدأت موجة عارمة فى البلاد نحو الاصلاح والانفتاح وضرورة التخلص من الفقر والتخلف . وقاد تلك الموجة الاصلاحية الزعيم الراحل دنغ شياو بنغ الذى يطلق عليه الصينيون لقب " مهندس الاصلاح والانفتاح". ولكن طموحات تلك الموجة الاصلاحية سرعان ما اصطدمت بحقيقة واضحة تتجسد فى استحالة تحقيق اصلاح حقيقى وتنمية اقتصادية ملموسة فى ظل الزيادة السكانية المستمرة بسرعة وبشكل عشوائى بالصين. وعندها وُلِدت فكرة لكبح الزيادة المتسارعة فى عدد سكان الصين ثم تحولت الفكرة الى سياسة وطنية بدأ تنفيذها فى عموم البلاد فى عام 1979 .

طُرِحت سياسة أو إستراتيجية تنظيم الأسرة فى الصين كإجراء مؤقت يهدف الى كبح الزيادة السكانية من خلال التشجيع على تأخير الزواج وتأخير الإنجاب ، بما يسهم فى تهيئة الظروف لتحقيق التنمية الإقتصادية المرجوة ، والعمل على تحسين الرعاية الصحية للأمهات والاطفال ، واستهدفت بالأساس سكان المدن ،على أن تختلف اساليب تطبيقها وفقا للظروف الواقعية لمناطق البلاد.

ومن المعروف ان الصين مجتمع شرقى زراعى تقليدى ، يفضل ابناؤه العائلة الكبيرة باعتبارها مصدرا للسعادة والدعم والاسناد ، وكانوا يفضلون الذكور على الأناث ، لذلك كان من الحكمة عدم المخاطرة بفرض هذه السياسة إجباريا دون توعية باهدافها واسبابها وموجباتها وتوضيح مفاهيمها ، ولذلك أُعلِنت فى البداية كإجراء مؤقت. وفى هذا المجتمع الشرقى والفلاحي كان من الطبيعى أن تواجه هذه الاجراءات بعض الرفض والمقاومة والممانعة والتجاهل.

وقبل ثلاثين عاما ، كانت الصين متخلفة اقتصاديا ، وضعيفة سياسيا ، حيث يعانى معظم مواطنيها من الفقر والجوع والحرمان والأمية والجهل خاصة فى مطلع الستينات. وكان الناس لا يجدون ما يكفى لسد رمقهم ، وكانوا يتناوبون على أكل وجبة الطعام ، لذلك كانت الزيادة السكانية المطردة مصدر قلق كبير لقادة البلاد وواضعى السياسات فيها ، وهى السبب الرئيسى لفرض هذه الاجراءات.  

ورغم مرور ثلاثة عقود على تطبيق هذه السياسة ، لكنها ظلت غامضة بالنسبة للناس خارج الصين.

لكن الذى يعرفون ظروف الصين جيدا خلال العقود الثلاثة المنصرمة يدركون أسباب هذا الغموض ، حيث كانت الصين كلها تقريبا منغلقة ، حتى ان البعض كان يشبهها بمجتمعات القرون الوسطى .

الجواب قطعا لا ، ولكن كيف ؟ وهذا ما يستدعى الحديث ولو بإسهاب بسيط..

ظروف الصين وحقيقة هذه السياسة :

الصين بلد واسع مترامى الأطراف يعيش فيه خمس سكان العالم ، ويضم المجتمع الصينى 56 قومية ، أكبرها قومية الهان إلى جانب 55 أقلية قومية ، منها عشر قوميات مسلمة . ولكل قومية ظروفها التاريخية والاجتماعية والتراثية الخاصة ، الأمر الذى يعنى ضرورة الاهتمام بكل هذه التفاصيل عند فرض مثل هذه السياسات.

وكان للمساحة الشاسعة وتوزيع السكان وتنوعهم القومى فى مناطق ومقاطعات الصين أثر واضح على شروط تطبيق هذه السياسة.

فقد وضعت الحكومة المركزية الصينية مبادىء عامة مُرشدة لتطبيق هذه السياسة ، ولكنها منحت صلاحيات واسعة للحكومات المحلية ، خاصة للمناطق المأهولة بالاقليات القومية التى تتمتع بسياسة الحكم الذاتى. وسمحت للمقاطعات وحكوماتها المحلية باتخاذ الاجراءات والسياسات المناسبة لواقعها وظروفها. وحتى فى حدود المقاطعة الواحدة هناك تباين فى تطبيق هذه السياسة ، وسبب التباين هو تعايش عدة قوميات فى اطار المقاطعة ، الأمر الذى ساعد على تخفيف قيود هذه السياسة وتيسير شروط تطبيقها .

وهذا يعنى أن لكل منطقة الحق فى تعديل إجراءات التطبيق بما يتلاءم وظروفها الذاتية ، ولذلك هناك استثناءات وتسهيلات للمناطق المكتظة بأبناء الأقليات القومية مثل القوميات الصينية العشر المسلمة وغيرها من القوميات القليلة العدد، حيث يسمح للزوجين بإنجاب أكثر من طفل من اجل زيادة عدد ابناء القومية ، وهذا ينطبق على اكثر من خمسين أقلية قومية بالصين .

وهنا لابد من الإشارة الى المناطق الخمس الرئيسية المتمتعة بالحكم الذاتى وهى : منطقة نينغشيا التى تقطنها قومية هوى المسلمة ومنطقة شينجيانغ لقومية الويغور المسلمة ومنطقة منغوليا الداخلية لقومية المنغول ومنطقة التبت التى تقطنها غالبية تبتية ومنطقة قوانغتشى لقومية تشوانغ . فابناء هذه المناطق يتمتعون ، سواء فى داخلها او خارجها ، بتسهيلات واستثناءات ملحوظة فى مجال الإنجاب ويحق لابنائها انجاب اكثر من طفل .

وكما قلنا سابقا فإن هذه السياسة تطبق عموما على كافة الصينيين ، ولكنها تستهدف أساسا سكان المدن ، وهؤلاء ايضا يحظون بتسهيلات ومرونة . ويمكن تلخيص التسهيلات وشروطها بما تطبقه مدينة شانغهاى مثلا على سكانها ، ومعظم هذه التسهيلات ممنوح لعدد كبير من سكان المدن الصينية الأخرى ، ويمكن تلخيص هذه التسهيلات كالآتى ::

1-            يحق للزوجين إنجاب طفلين إذا كان كل منهما وحيدا فى عائلته.

2-    يحق للزوجين إنجاب طفل ثان إذا حدث عوق غير وراثى للطفل الأول ، وقد يمنعه العوق من العمل عند بلوغه سن الرشد.

3-    يحق للزوجين إنجاب طفلين إذا كان احد الزوجين معاقا ، بسبب غير وراثى ، ولا يمكنه التصرف بمفرده فى الحياة .

4-            إذا كان احد الزوجين عسكريا معاقا من الدرجة الثانية ، يمكنهما إنجاب طفلين.

5-    إذا كانت مهنة احد الزوجين بحارا او صيادا يعمل فى البحر لخمس سنوات متتالية وما زال فى مهنته ، يحق للعائلة انجاب طفل ثان.

6-    يمكن للزوجين انجاب طفل ثان إذا كان أى منهما فلاحا ، أو انه ( الزوج او الزوجة) الوحيد فى عائلته  .

7-     يمكن للزوجين انجاب طفلين ، إذا كانت الزوجة تقيم بشكل دائم فى قرية وليس لها اشقاء ذكور ، وتلتزم جميع اخواتها بسياسة انجاب طفل واحد ، على ان يعيش زوجها فى بيت إسرتها للمساعدة فى إعالة حمويه العجوزين.

8-    إذا تبنى زوجان عقيمان طفلا بشكل قانونى ، وتشهد إحدى المستشفيات الرسمية من الدرجة الثانية وما فوق ، بأنهما كانا عقيمين ، يحق لهما انجاب طفل من نسلهما اذا تمت معالجة عقمهما.

9-  إذا تزوج مطلقان ، أو أرملان ، وحيدان فى عائلة كل منهما ، زواجا ثانيا ، وكان لكل منهما طفل من زواجه الأول ، يحق لهما انجاب طفل آخر يكون الثالث من زواجهما الثانى.

إضافة الى تسهيلات واسعة أخرى تمنح حسب ظروف الزوجين ، ووفقا لظروف المقاطعة او المحافظة او المدينة ، ناهيك عن التسهيلات الممنوحة لمناطق الحكم الذاتى ، الى جانب الغاء هذه السياسة اصلا فى بعض المناطق الريفية للأقليات القومية.  ;

سياسة تنظيم الأسرة فى الصين بين مؤيد ومنتقد :

مازال مؤيدو هذه الإجراءات يرون ان الصين تقدم من خلال تطبيقها مساهمة كبيرة لكوكب الأرض وللبشرية جمعاء.

فلولا هذه الإجراءات لكان مستحيلا على الصين أن تُطعِم هذا العدد الهائل من السكان ( خمس العالم ) وتنتشل اكثر من 200 مليون من مواطنيها من براثن الفقر المدقع ، وتوفر لهم الطعام والكساء والتعليم والخدمات الصحية ، وتسهم إيضا فى تقديم المساعدات قدر الإمكان لبعض الدول المُحتاجة . ولولا هذه الإجراءات لما تمكنت الصين من تحقيق الإكتفاء الذاتى فى محاصيلها الغذائية ولما تمكنت من تحقيق نمو إقتصادى أثار إعجاب العالم أجمع، إضافة الى مساهمة الصين فى خفض زيادة تقدر بثلاثمائة مليون نسمة لسكان العالم خلال فترة تطبيق هذه السياسة. ولذلك مازال مؤيدو هذه السياسة مُصِرّين عليها وعلى معارضة أى محاولة لتيسيرها ، رغم الانتقادات التى توجه اليها من هنا وهناك.

ونبقى على الجانب المؤيد لسياسة تنظيم الأسرة فى الصين ونشير الى ما يقول عنه مؤيدوها بانه بعض من إيجابياتها ، خاصة ما يتعلق بالبيئة والموارد والنزاعات الناجمة عن الانفجارات السكانية. فهم يستشهدون بالأخطار البيئية المُحدِقة بكوكبنا جراء الاستغلال المفرط للموارد التى باتت ضعيفة على سطح الارض ، ويعتقدون ان الزيادة الكبيرة فى أعداد سكان الارض سينجم عنها مشاكل خطيرة تبلورت فعلا فى هجرات الجياع بحثا عن الطعام والرزق ، وفى حدوث نزاعات جيوبوليتيكية باردة وأخرى ساخنة ومسلحة فى أماكن عديدة بالعالم حول الحدود وموارد الأرض والمياه والطاقة . ويعتقدون ان مشاكل الانفجارات السكانية غالبا ما تعالج اما بالحروب او بالكوارث ، ويتساءلون عن سبب الانتقادات طالما ان هذه السياسة توفر مجالا لتنظيم الانجاب بشكل قانونى وطوعى ومقبول واقعيا ، ويرون أن هذه المعالجة أفضل من انفجار سكانى يعنى عدم الاستقرار الاجتماعى وإمكانية اندلاع حرب فى اى لحظة.

منتقدو هذه السياسة ::

يرى منتقدو هذه السياسة انها لم تَعَُُد مبرَرة بعد التقدم الكبير الذى شهدته الصين على كافة الأصعدة ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومعاشيا ، وقد آن الأوان لتخفيفها إن لم يتم إلغاؤها تماما. ويشيرون الى ضرورة ان تنتبه الصين لحقيقة ان مواصلة كبح الزيادة الطبيعية للسكان سيجرّ عليها مشاكل  مثل شيخوخة المجتمع ، وعدم التوازن بمواليد الجنسين ، والتمييز ضد الأناث ، مضيفين ان العالم اليوم يشهد تغيرات عميقة فى كافة المجالات وهناك دول أخرى ، خاصة المجاورة للصين ، تشهد زيادة سكانية كبيرة توظفها لصالحها سياسيا واقتصاديا ، كما يحصل فى الهند مثلا ، إضافة الى عوامل مهمة أخرى تتعلق بمقارنة معدلات الخصوبة والإنجاب لدى الصينيات من جانب وجاراتهن الآسيويات وفى مناطق أخرى بالعالم من جانب آخر ، وأثر ذلك على معدلات الإنجاب والنمو السكانى الطبيعى فى الصين مستقبلا ، وهى أمور تستدعى – حسب رأيهم – أن تخفف الحكومة الصينية قيود هذه السياسة إن كان هناك ما يبرر استمرار تطبيقها حتى الآن. 

ويستشهد منتقدو هذه السياسة بأمثلة واقعية فرضت نفسها خلال العقد الماضى وتجسدت بمنح عدة مدن صينية كبيرة ، أولها شانغهاى، تسهيلات لسكانها فى مجال الإنجاب وسمحت للأزواج بإنجاب طفل ثان للحيلولة دون المزيد من مشاكل شيخوخة المجتمع. اضافة الى اضطرار الجامعات الصينية الى غض الطرف عن زواج الطلبة الجامعيين بعد ان كانت تحظر زواجهم خلال فترة دراستهم الجامعية وتطرد كل من يخالف ذلك الحظر.

ويرى المتابعون أنه فى ظل مواصلة تطبيق هذه السياسة ، يتعين على الحكومة الصينية مواصلة تخصيص الاستثمارات للضمان الاجتماعى وضمان الشيخوخة وتوفير رعاية خاصة للأرياف وتحديث الزراعة وتطوير المكننة ، ومراعاة جانب مهم يتعلق بضرورة المعرفة الدقيقة لمعدل الزيادة السكانية الملائم للتنمية المستدامة ، والأخذ بالاعتبار ان تشجيع عدم الإنجاب سيكون سلبيا على المدى الطويل .

وهناك دول تنظر لهذه المسألة بقلق كما هو الحال فى اليابان التى ظهرت فيها دراسات تحذر من خطر ضعف البلاد بعد 200 سنة بسبب ضعف معدلات الإنجاب . ويتعين على الصين ايضا التركيز على تحسين انظمة الضمان الاجتماعى والصحة والتعليم حتى يلمس المواطن ويرى ثمار هذه السياسة ويشعر بمبررات التزامه بها وبالاطمئنان على مستقبله ، وأن لديه ما يحميه ويعينه فى حياته عموما وشيخوخته خصوصا ، لأن وجود ابن واحد فقط قد يدفع الأب أو الأم الى الإحساس بالوحدة واليأس إذا ما شاخ أو عجز ، فالأولاد ليسوا مجرد عدد بل هم مصدر شعور طبيعى للسعادة والاطمئنان  . ويتعين على الحكومة ايضا تعزيز الوعى الاجتماعى ليشعر الآباء والأبناء ايضا بأنهم ليسوا وحيدين فى مجتمع يتجه يوميا نحو المادية واللا اجتماعية. فكلنا يعرف أنه فى مجتمع بات ماديا واقتصاديا من الدرجة الاولى ، تراجعت العلاقات الاجتماعية كثيرا وأصبح الابن بعيدا عن أبويه ، والأخ مشغولا عن أخيه ، والجار لا يعرفُ جاره بسبب مشاغل الحياة وعدم وجود الوقت الكافى لمثل هذه العلاقات . وفى ظل غياب هذه الحقائق المُعَزِزة للعلاقات الأسرية والإجتماعية ، اصبح ضروريا أيضا أن يتهيأ للطفل المناخ الملائم لترعرعه ، إذ لايمكن من الناحية البيولوجية أو الاجتماعية أن يترعرع الطفل وحيدا فى محيط اسرة ليس فيها أخ أو أخت يلعبان معه ويُلاطفانه أو يُلبيان اهتماماته الطفولية الطبيعية ، خاصة فى ظل حقيقة ان الأبوين مشغولان طوال الاسبوع بعملهما الذى يمتد من الصباح حتى المساء ، وإذا عادا الى البيت مساء يكونان مُتعَبَين لا وقت ولا مزاج لديهما لطفلهما. وهنا لابد من اللجوء الى المُربية التى تعتبر حالة منتشرة بكثرة فى الصين. ولايخفى على أحد المشاكل الناجمة عن غياب الأم الحقيقية واستبدالها بمربية غريبة لا تربطها بالطفل سوى الأجرة اليومية أو الشهرية . لذلك يسعى الصينيون – خاصة الأمهات – الى محاولة تعويض اجواء الانسجام الطفولى المفقودة فى شقة العائلة من خلال الإجتماع سوية فى ساحة المجمع السكنى ، حيث تجلب كل أم طفلها ليلعب مع الاطفال الآخرين ، وعندما ينتهى الوقت المحدد لهذا الاجتماع ، يذهب كل طفل مع والدته الى شقته الخالية من أى أُلْفة طفولية يحتاجها كل طفل طبيعى.

وهناك مشكلة أخرى عترف بها معظم الصينيين ، وهى الدلالُ المُفرِط للطفل الواحد . ففى العائلة الصينية اليوم ، هناك ستة اشخاص على الأقل يحاولون بشتى الوسائل تدليل الطفل ، وخاصة الطفل الذكر . والاشخاص الستة هم ابواه وجداه من جهة الاب وجداه من جهة الأم ، وقد تراهم يهرولون خلف عربته أو عجلته جميعا ، هذا يُلاطِفُه وذاك يُطعِمُه ، والآخر يساعده وذاك يضحك بلا سبب إلا لإرضاء الطفل المُدلل. ولايحتاج الأمر الى تفكير طويل لمعرفة ما ستؤول اليه نفسية هذا الطفل الذى سينشأ معتمدا على الأخرين ومفتقدا للقدرة على مواجهة ظروف الحياة ، مغرورا بنفسه وأنانيا، وهذا يعنى بالنتيجة خلل فى تحمل المسئولية الاجتماعية لعدة أجيال.

ومن خلال هذا الطرح ، يتبين لنا ان لكل فريق – المؤيد والمنتقد – وجهة نظره حول هذا الموضوع . وتبقى الظروف الواقعية للصين ، بعدد سكانها الهائل وبمواردها المحدودة  وبالتحديات التى تواجهها ، هى التى تحدد فعلا ما اذا كانت هذه السياسة ستبقى حيز التنفيذ ، أم آن الأوان لتخفيف قيودها لإرضاء شريحة ميسورة واسعة ظهرت فى البلاد خلال العقد الماضى ، وباتت تلجأ لكل الوسائل بما فيه التحايل على القانون ، من أجل إنجاب المزيد من الأطفال. ويبقى الجدل حول هذا الموضوع مستمرا طالما ظلت هذه السياسة قيد التطبيق وطالما ظل حب الأبوين يزداد للمزيد من الأولاد.

وهنا يطيب ذكر آية قرآنية تكون مِسكَ الختام لهذا المقال وهى " المالُ والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " (الكهف 46).

وأرجو أن أكون قد وُفِقتَ فى طرح هذا الموضوع ، مع خالص الشكر لأصدقائى الصينيين الذين ساعدونى فى معرفة المزيد من المعلومات عن هذه السياسة وشروط تطبيقها ، والشكر موصول للقارىء العزيز.

* كاتب المقال: باحث عراقى فى الشئون الصينية يعمل فى بكين.

              

* إعلامي عراقي مقيم في العاصمة الصينية بكين.

وباحث في الشئون الصينية يعمل في بكين.