قصتي مع تراث باكثير (6)
قصتي مع تراث باكثير (6)
علي أحمد باكثير |
الدكتور محمد أبو بكر حميد |
قلة الوفاء وموت الضمير:
كانت شقة الأديب الراحل بالقاهرة تقع في الدور السابع في عمارة مطلة على النيل تحمل رقم 111 شارع الملك عبد العزيز آل سعود بمنيل الروضة، وقد عاش فيها باكثير قرابة عشرين عاماً، وشهدت مولد معظم مؤلفاته وأصبح موقعها مشهوراً لاقترانه باسمه، وكان الأستاذ العمودي يأمل أن تتحول هذه الشقة إلى متحف يضم تراث باكثير، وكان يعتقد أن ملاك العمارة والجهات الثقافية ستتفهم وتتعاون في تحقيق هذا الحلم، وفجأة بعد وفاة حرم باكثير بقليل يتلقى الأستاذ العمودي إنذاراً بإخلاء الشقة موجهاً من ورثة مالك العمارة ويحطم الحلم قبل أن يتحول إلى فكرة وبعجل تتحول القضية إلى المحكمة، ويصرخ الأستاذ العمودي في الجهات الرسمية والثقافية منادياً بأن تراث الأديب الذي خدم الأدب العربي قرابة أربعين عاماً في مصر معرض للضياع.
مسكن باكثير يصبح شقة مفروشة:
كيف يخلي الشقة التي كتب باكثير بين جدرانها روائع أعماله وحملت ذكريات السنوات الطويلة، أين يذهب بكتب باكثير وأوراقه وأضابيره، إن شقته الصغيرة لا تتسع لكل هذا التراث، وانتشرت رائحة القضية وكتبت عنها بعض الصحف ولكن.. " لقد أسمعت لو ناديت حياً ".. وكان مصير شقة باكثير نفس المصير الذي آلت إليه الشقق والبيوت التي عاش فيها العظماء والمبدعون: الهدم أو الطرد. ولا ننسى القضية التي ثارت حول البيت الذي كانت فيه الشقة التي عاش فيها العقاد قرابة ثلاثين عاماً وحملت مكتبته التي زادت عن ثلاثين ألف كتاب، ولم يكن غريباً إذن أن يخسر الأستاذ العمودي القضية وبذلك تخسر الثقافة العربية وتخسر مصر مكاناً تاريخياً كان من الممكن أن يتحول إلى مزار للأدباء والقراء يقال لهم فيه هنا أبدع باكثير معظم كتبه.. هنا كتب وهنا قرأ وهناك كان يرتاح ومن هذه الشرفة كان يطل على النيل متأملاً الكون من حوله تاركاً دخان غليونه يتطاير سابحاً في الفضاء، كان من الممكن أن تنتصر المبادئ لو وقفت معها أجهزة ثقافية واعية لا يتسلل إليها بغض ضعاف النفوس ولكن المؤسف أن أمراً صدر من المحكمة بإخلاء الشقة التي عبقت بأنفاس باكثير لصالح ورثة مالك العمارة الذين أرادوا تحويلها إلى شقة مفروشة! وقال لي الأستاذ العمودي:إن ملاك العمارة قد تحايلوا على القضاء ونص الحكم بأن يتم الإخلاء خلال أسبوعين أو عشرة أيام!!
مصير مكتبة باكثير:
وأحس الأستاذ عمر العمودي بالكارثة، كل شيء يسهل حمله ولكن إلى أين يحمل مكتبة باكثير وأين يحفظ تراثه الثمين؟ وحل موعد الإخلاء ولم تكن عائلة الأستاذ العمودي قد استطاعت إخلاء شقة باكثير ولا نقل كتبه وداهم عمال من طرف المالك الشقة وبدؤوا ينقلون إليها أثاثاً آخر في محاولة لوضع الأستاذ العمودي أمام الأمر الواقع ووضعت كتب باكثير على السلالم حتى استطاع الأستاذ العمودي تدبير مكان لها لدى بعض أقاربه مضطراً وابتعدت الأمانة عن الأمين الذي ظل يحرسها منذ
وفاة صاحبها العظيم. وعندما أنشئ المركز الإسلامي بشارع العزيز بالله بجهود المحسن الكريم الشيخ عمر عبيد باحبيش، اقترح الشيخ عمر أن تنقل مكتبة باكثير إلى مكتبة المركز وتسمى المكتبة باسم باكثير، وبالفعل وجد الأستاذ العمودي هذه وسيلة لحفظ كتب باكثير من الضياع وتحقيقاً لهدف من أهداف باكثير في الحياة وهو خدمة الناس وتقديم ما ينفعهم وانتقلت مكتبة باكثير الشخصية وتم افتتاحها في حفل كبير، أما مؤلفات باكثير المخطوطة وأوراقه ومقتنياته الشخصية فقد بقيت أمانة لدى الأستاذ العمودي حتى تتهيأ الظروف لإقامة متحف خاص بها في القاهرة أو حضرموت، وحسناً فعل.
كان هذا كل ما تم لباكثير بعد مضي أكثر من عشرين سنة على وفاته، وكان الأستاذ عمر العمودي كما قال لي يعمل على تحقيق الأمل الذي بدأ باكثير رحمه الله يعد له في آخر أيامه وهو جمع شعره ونثره في ديوان كبير وطبع مسرحياته الأخيرة وهي حوالي عشر التي تأخر طبعها نتيجة للحصار الذي فرضه اليسار الانتهازي عليه والذي كان وقتذاك مسيطراً على الأجهزة الثقافية في مصر.
وقال لي الأستاذ عمر العمودي إنه فتح مكتبة باكثير لبعض الباحثين الذين أرادوا الاطلاع على مخطوطات الأديب الراحل، واشتكى من عقوق بعض هؤلاء الذين لم يبعثوا بنسخة مما كتبه بعد نشره مرفقاً بكلمة شكر، وذكر لي أنه فتح مكتبة باكثير وبيته ـ قبل الانتقال منه، للصديق الدكتور أحمد عبد الله السومجي أثناء تحضيره لرسالة الماجستير عن باكثير وشعره وكان ذلك في حياة السيدة حرم المرحوم باكثير، وذكر لي أنه فعل نفس الشيء مع باحثة مصرية كانت تحضر رسالة الماجستير في مسرح باكثير وهي السيدة مديحة عواد سلامة وغيرهم، وقال أن الأستاذ الدكتور عبده بدوي كان أول من دخل مكتبة باكثير بعد وفاته وقد كان أقرب أصدقاء باكثير إلى قلبه في السنوات الأخيرة من حياته وكان أكثرهم وفاءً له بعد وفاته، وكان يريد التعاون مع د. بدوي لإخراج ديوان باكثير ولكنه قال " إن ارتباط د. بدوي بجامعة الكويت وسفره حال دون المتابعة وتحقيق هذا الأمل.