درس في الجدل

محمد المهدي السقال

إلى صديقي توفيقي بلعيد

محمد المهدي السقال

القنيطرة / المغرب

[email protected]

من خصائص إنسان العالم الثالث، احتفاظه بتأثير ما ترسب في وعيه و وجدانه، عن المحيط من حوله بمختلف علاقاته النفسية، مهما ظهر فيها مع التحول، مما يثبت تناقضاتها مع المنطق والعقل، بدعوى النزوع نحو استقرار التصالح مع الأصول التي تشكل وجوده كانتماء اجتماعي.

و على هذا الأساس، تجدنا في كثير من المواقف التي تستلزم التعاطي بمنطق الجدل، أكثر ميلا للتناسب مع تلك الخاصية، علما بأنها في غالب الأحيان، مما يرفضه المنهج المؤسس للتفكير السليم والموضوعي.

تعلمنا على يد شيوخنا أن الدياليكتيك في اللغة لا يعدو أن يكون فن المناقشة، لكن بعيدا عن تطبيقات السفطائية رغم منطقها الداخلي.

أخذ الدياليكتيك في الانتقال إلى مستوى المنهج، مع محاولة"هيجل" استعادة توجيه الميتافزيقا كي تأخذ شكلها المادي في الواقع، من خلال أطروحته حول التغير والتحول في الفكر والكون، إلا أنه بإصراره على أسبقية التغير في الأفكار باعتبارها متحكمة في التحول في الأشياء،سيصبح ممثلا لميتافزيقا معاصرة، قد لا تبدو مختلفة في الجوهر عن الميتافيزيقا التقليدية،

لذلك سيأتي إنجلز وكارل ماركس، لتعديل وضعية الدياليكيك الهيجيلي، بقلب معادلة العلاقة بين الفكر والواقع، ليبدأ الحديث عن المادية الدياليكتيكية، باعتبارها صححت من وضع هيجل الذي كان في تحليله كمن يمشي على رأسه.

كان لزاما التمهيد بهذه المقدمة، لأن بعض المعتنقين للمادية الجدلية في بداية بناء تفكيرهم، يصبحون متنكرين لمنطقها الداخلي، فيتصرفون ذهنيا وسلوكيا،بما يناقض قناعاتهم، إما بسبب اهتزازها في أصل التكوين، وإما بسبب ضبابية التراكم في الخطاب المضاد ، مما ينتج توهمات أو أنماط وعي زائف ،تصبح بديلا يقبل به المادي الجدلي القديم، بمبررات يجدها مسوغة لتحوله بنفس منطق الجدل، لكن هذه المرة، باستعادة الرؤية الهيجيلية، لأنها تحقق انسجاما مع صيرورة الواقع.

هل يخطئ معتنق المادية الجدلية، إذا انتهى به المطاف إلى التغير نحو نفي تحكمية الواقع في الفكر؟ بحيث يعود للمشي على رأسه في اتجاه هيجيلي؟ بمنطق الجدل، يقبل بالتحول، لكن بشرط أن تكون قوانينه من الداخل، لأن المادية الجدلية نفسها تؤمن بأن المتماثل مختلف، أي أننا فيزيائيا نخضع بالضرورة لمنطق التحول في طبيعة وجودنا المادية،عملا بأول مبدأ فيها والقائم على أن "لاشيء يبقى حيث هو، ولا شيء يظل ما هو " و يعني ذلك أن كل شيء بالنسبة للدياليكتيك ، موصول بالامتداد في الزمن ماضيا ومستقبلا، مما ينتهي بنا إلى أن "لا شيء مطلق " و"لاشيء مقدس".وقد تنبهت المادية الجدلية، إلى تمييز الثبات موضوع النقض في الوجود الذي يكتسب صفة المقدس، عن الثبات في حركة الحياة المادية للوجود الاجتماعي بخلفيته التحتية، كمقدمة ترتبط بطبيعة الصيرورة، في إنتاجها للفكر كبنية فوقية.

ثمة ظاهرة تواجهها الدعوة إلى تبني المنهج الجدلي، يمثلها اتجاه في التفكير من خارج الدياليكتيك ، لكن بتوظيف آليات منطقه الداخلي، في تبرير الاتجاه وما يتأسس عليه من موقف، وهكذا يصبح للتراجع عند معتنقي المادية الجدلية، أكثر من مسوغ لإثبات أطروحتهم الجديدة، غير أنهم، لا ينشغلون بتطوير المنهج على أساس مقوماته، و إنما يسعون إلى الاستفادة من إمكانياته، في توظيف يكون مبتسرا في الغالب، إما لإقناع الذات بمبرر التغير، و إما لتمرير ذلك التراجع والإيهام بموضوعيته في مواجهة الآخر، كأنه يبحث عن تصديق هذا الآخر لتغيره، باستعمال نفس حجج النفي في الماضي، كي تقوم مقام حجج الإثبات في المستقبل.

ليس بالأمر الخارق لمنطق الجدل نفسه، أن يجد الإنسان ذاته في لحظة تاريخية ، بحاجة إلى التوافق مع طبيعة التطور في كينونته، بشرط أن يكون التغير نابعا من الداخل و في انسجام مع قوانين التبدل الجدلية، القائمة على أن لا شيء يفلت من الحركة في صيرورة تحولات التاريخ، وإلا فسنسقط في فخ المثالية المجردة والمسلمة بالثبات.

ليس بالأمر الخارق لمنطق الجدل نفسه، أن يعرف الإنسان تحولا في بنيته الذهنية، فينتهي به المطاف إلى التغير في التفكير، لكن بشرط أن أن يكون صادرا فيه عن منطق وحدة الأضداد، المؤسسة على القبول بالتغير، من الكم إلى الكيف، وليس العكس، باعتبار التقدم نحو الأمام وليس الرجعة إلى الوراء.

هل نحن في مستوى البرهنة على نفي النفي لتفسير مواقفنا باعتبارها نابعة من الداخل ومنسجمة مع قانون التناقض قاعدة الجدل؟

سأظل أحترم أي خطاب يصدر عن وعي بالوجود في صيرورته المادية، مهما بلغت حدة الاختلاف مع اتجاه تغيره، بشرط أن يكون كيفيا ونوعيا،

لكني في المقابل، أظل أراهن على مقاومة أي شكل من أشكال التفكير المستجيب للظرفي بغير منطق جدلي، لأنه عندي علامة على اختلال في توازن ذلك التفكير، و تجاوب تحت ضغط إكراهات، أقل ما يقال عنها، إنها لا تنبني على منطق داخلي للتطور الطبيعي في الوعي بالعالم والوجود.

ثمة سؤال جوهري، أخي توفيقي بلعيد، هل نحن ما نحن فيما نقول ونفعل؟

أم نحن ما يراد لنا أن نكون؟

وليذهب ماركس إلى الجحيم، فقط لأن جانبا من جدار المادية تحطم، أو لأن جانبا من بريق المثالية تجبر.