بغال الحكومة
بغال الحكومة
شهلا العجيلي
قبل أكثر من عشرين عاماً كان لقائي الأوّل بـ (آل ماكيندو)، وكانت صداقتي مع ولدهم (أكّاي)، وذلك حينما عمل والدي موظّفاً دبلوماسيّاً في (الكونغو). و(آل ماكيندو) هم من أغنى العائلات في شمال (الكونغو)، وكانوا يمتلكون أهمّ مزارع الخيل في البلاد، هذا عدا أعمالهم التجاريّة الأخرى.
قضيتُ و((أكّاي) أمتع مراحل حياتي! هناك عرفتُ الكثير، جرّبتُ وغامرتُ، واكتشفت المشاعر المختلفة، عشتُ الخوف، الخوف من هجوم الذئاب في الليالي التي طالما قضيتها في مزارعهم، وعرفتُ الشجاعة في إطلاق النار على المتوحّشين من الحيوانات والبشر...! وتعلّمتُ ركوب الخيول، وترويضها، والتحطيب، وصناعة القوارب، وبناء (الهنكارات) لإيواء الحيوانات. إنّ معرفتي بـ (آل ماكيندو) كانت جزءاً مهمّاً في صياغة حياتي فيما بعد.
وكان لصديقي (أكّاي) جدٌّ خبر حياة مثيرة كما علمت، ولطالما أدهشني! كنت ومازلت معجباً به، لدرجة أنّني أراه خلاصة التجربة الإنسانيّة. حملتُ له مشاعر متناقضة: الودّ، والبغض، والخوف، أجل، كنتُ أخافه، وأجده شرّيراً، ومع ذلك لا أنكر إعجابي به. أمّا لماذا أخافه، فذلك لأنّني بمنطق الطفل كنت أجده قاتلاً، قاتلاً للجياد، أي للرجال.
في إحدى الليالي سهرنا في المزرعة نتابع الأخبار على شاشة التلفاز، وكانت الأحوال في (الكونغو) مضطربة، شغب وفتن، وقتال بين الحكومة واليساريين اقتضى تدخّل الجيش، فالتهبت البلاد، وبلغ عدد القتلى آلافاً. كانت تظهر على الشاشة مجموعة من الرجال، وقد بدت على الناس مظاهر الاحتفال بهم، كانوا يحملونهم على الأكتاف، ويقبّلونهم. اغتبط الجدّ بظهورهم، وراح يصفّق ويهتف، ويتبادل التهاني مع أولاده، متمنّين للأحوال انفراجاً، وللبلاد مستقبلاً أفضل.
سألته: من هؤلاء الذين فرحت بهم يا جدّي؟
أجاب: إنّهم جيادنا يا ولد، جياد الوطن، جياد الحكومة الجديدة!
- ولكن لماذا يحملونهم على الأكتاف.
راح يعبث بشعري قائلاً: لو كنت هناك لحملتُ معهم، إنّنا نحملهم لدقائق، لأنّهم سيحملوننا للأيّام المقبلة.
- وهل هذه الجياد من مزارعكم يا جدّي؟
- إنّهم رجال، رجال من أرض هذا الوطن، لطالما توسّمنا فيهم خيراً.
احترتُ يومها بين الرجال والجياد كما تختلط الأمور عادة في أذهان الأطفال، ولكن لم أكن ملحاحاً، وتظاهرتُ بأنّي قد فهمت، لأنّي كنتُ أهاب الجدّ، وأرغب في أن يثق بفهمي، وألاّ يضيق ذرعاً بأسئلتي، فسكتُّ، ولكن منذ ذلك الحوار ارتبط الرجال في ذهني بالجياد!
بعد أيّام، استيقظتُ في الصباح على صوت إطلاق رصاص، هرعتُ إلى الخارج، فلم أجد أحداً، غضبتُ كثيراً لأنّي ظننتُ أنّهم خرجوا إلى الصيد من غيري، لكنّه لم يكن صيداً، كان أمراً غريباً! في مضمار الترويض، رأيت الجدّ وأبناءه مجتمعين، ومنظر دمويّ جعلني أكرههم جميعاً، حتّى (أكّاي)، وأعتبرهم قتلة وأشراراً: جياد مرداة على التراب، معفّرة بدمائها، وأخرى تستعدّ للموت، وكان الجدّ يصوّب المسدّس على الصدر ثمّ يطلق، فيشبّ الجواد إلى الأعلى مطلقاً صهيلاً ما زال يتردّد في ذاكرتي، ثمّ يطلق الأبناء كلّ من مسدّسه، فيخرّ الجواد صريعاً.
لا يمكن لذاك الحدث أن يُمحى من ذاكرتي حتّى الموت، خاصّة أنّ الجياد ارتبطت عندي بالرجال، ومنظرها صريعة في المضمار، ارتبط في مخيّلتي بمنظر القتلى في الشوارع، الذين شاهدتهم على الشاشة منذ أيّام.
كنتُ مرعوباً، اختبأت في أحد (الهنكارات) وصرت أبكي راجياً العودة إلى والديّ، ولمّا افتقدوني بقيّة ذلك اليوم، بحثوا عنّي. كان الجدّ قد أدرك سبب عزلتي وبكائي، ثمّ عرفتُ فيما بعد أنّه لم يرد إيقاظي يومها، خوفاً من أن تصل حالتي إلى ما وصلتُ إليه.
راح يداعبني، ويشرح لي بالحجّة، محاولاً إقناعي بما فعل. أذكر أنّه قال لي إنّه اشترى مجموعة من الجياد، لكن ثبت أنّها بغال، لقد خُدع وضلّل.
قال: كان كلّ شيء يثبت أنّها جياد جيّدة، فحصناها، ودفعنا ثمنها، ووضعناها في اصطبلاتنا مع خيلنا، وعاشت على حسابنا سنة كاملة، شاركتنا طعامنا وجهدنا، وأموالنا، وانظر النتيجة! انظر إليها كم سمنت، وانظر إليّ كم نحلت، وانظر إلى يديّ كيف تسلّختا من تسييسها وتعليمها، ولكن كلّ ذلك كان بلا جدوى، إنّها لا تحمل، ولا يُحمل عليها، وفوق هذا، أردت أبنائي من على ظهورها، واقتحمت مخازن الحبوب وخرّبتها، وعضّت صديقك (أكّاي) في فخذه وهو يطعمها، لم يكن أمامي سوى أن أبيعها أو أقتلها، وأنا يا بنيّ، لا أغشّ، ولا أبيع بغالاًً مُخرِّبة.
قلت له بأسى طفل: لمَ لم تعطها فرصة أخرى، تحاول من جديد، سنة واحدة مدّة قصيرة، حرام.
ردّ مبتسماً: إنّك لا تعرف يا بنيّ! إنّ سنة في عمر الخيل زمن طويل!
- إذن، كم من الزمن تحتاج الخيل لتثبت أنّها بغال؟
- لقد ثبت أنّها بغال وانتهى.
- ولم لا تشتري جياداً من الحكومة؟ ألم تقل إنّ جياد الحكومة أصيلة وقويّة، وأنّها تحملكم؟
هزّ برأسه موافقاً، وظلّت صورته تلك في ذاكرتي، وكانت آخر عهدي بـ (آل ماكيندو)، إذ أنهى والدي تمثيله الدبلوماسي هناك، وعدنا إلى أرض الوطن، وانقطعنا عن (آل ماكيندو) إلاّ ما ندر.
وبعد ما يزيد على عشرين عاماً، سافرت إلى (الكونغو) لعمل تجاريّ، والتقيت (أكّاي). قضينا أمسيات في المزرعة، سهرنا واستعرضنا ذكرياتنا. كان الجدّ قد مات والأحوال تغيّرت. أراد (أكّاي) أن يتابع الأخبار على شاشة التلفاز، وكانت أوضاع البلاد سيّئة. أشار إليّ أن انظر إلى الشاشة: كانوا مجموعة من الرجال، تبدو عليهم علامات الكهولة، رغم أنّهم جميعاً صبغوا شعورهم، لقد كان ذلك مضحكاً حقّاً! ووجوههم بدت مقيتة، وكانوا جميعاً سمينين! وبدوا أنّهم يجتمعون بالناس، ويرينا التلفاز صورهم في أماكن متعدّدة من (الكونغو) ومع جماهير مختلفة.
سألت (أكّاي): من هؤلاء؟ قال: ألا تذكر؟ انظر جيّداً، إنّهم جياد الوطن، جياد الحكومة، وراح يذكّرني بتلك الليلة، وبحديثي مع جدّه.. قلت: كم كبروا وسمنوا! لقد سمنوا كثيراً!
ضحك قائلاً: هم سمنوا، ونحن نحلنا!
قلت: ولم هم مجتمعون بالناس هكذا؟
قال: لقد طلبوا من الشعب فرصة أخرى، بعد أن أخفقوا وخرّبوا...
قلت هازئاً: فرصة أخرى ليثبتوا أنّهم جياد! وذكّرته بحادثة قتل البغال، وبحديثي مع الجدّ، وكيف أنّي ظللت بعدها أخلط بين الجياد والرجال.
قال بحزن: تصوّر! لقد أعطاهم الشعب فرصة أخرى ليحاولوا من جديد.
قلت: ليحاولوا بعد عشرين سنة! إنّه زمن طويل جدّاً في عمر السياسة!
ردّ: ومخيف أيضاً!
ضحكت قائلاً: كان جدّك قاتلاً يا (أكّاي)، لقد أثبتت جياد الحكومة أنّها بغال بجدارة، ومع ذلك فإنّ أحداً لم يطلق النار عليها!
بعد أيّام، قدم مندوبو الحكومة الجديدة القديمة، ليضعوا أيديهم على مزارع (آل ماكيندو)، تطبيقاً لقانون تحديد الملكيّة الخاصّة، الذي بدؤوا به برنامجهم الإصلاحيّ الجديد. يومها بكى (أكّاي)، بكى كثيراً لمصير (الكونغو)، وبكيت أنا أيضاً.
' كاتبة من سورية