رسائل الإصلاح 11
رسائل الإصلاح
(11)
الجهاد في سبيل الله
د. موسى الإبراهيم
1- فضله وأثره في عزة الأمة الإسلامية
قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير)) وقال تعالى: ((انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)).
لقد خلق الله تعالى هذا الكون وجعل له سيداً يقوم عليه وهذا السيد هو الإنسان الذي جعله الله عز وجل خليفة عنه في الأرض يعمر الحياة ويقيم فيها الحق والعدل والقسط بين الناس ولم يترك الله تعالى هذا الخليفة وحده بل بعث الرسل وأنزل الكتب ليوضح للخلق جميعاً سبل الحق والرشاد وطرق الأمن والسلام ومعالم العدل والإنصاف. وكانت آخر الرسالات السماوية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تلك الرسالة الخالدة التي رسمت للبشرية جمعاء طرق الحياة السعيدة الفاضلة في الدنيا والآخرة فشريعة الإسلام وحدها التي تربي المجتمعات تربية صحيحة راقية بحيث يعرف كل فرد في المجتمع الإسلامي دوره وواجبه ومسؤوليته فيقوم بكل ذلك كما يعرف حقه فيقف عنده ولا يتعداه ولما كانت هذه الشريعة الإسلامية هي وحدها طريق الحق وهي لا تسمح بظلم ولا طغيان ولا أنانية ولا استبداد فالناس فيها أمام الحق سواء لما كانت كذلك وقفت النفوس الشريرة المنحرفة في وجهها وكاد لها السفهاء من الناس الذين لا يألفون السير إلى في الظلام والذين ألفوا حياة الظلم والاستبداد والطغيان. هؤلاء وقفوا وما زالوا واقفين في وجه هذا الدين العظيم وقفوا بعناد وإصرار لحجب نور الحق أن يبلغ مداه. ولما كان الله عز وجل يعلم أن الحياة لا تصلح إلا بهذا الدين فقد أمر المسلمين بالتمسك به والدعوة إليه والجهاد في سبيله.
نعم لقد أمرنا الله بالجهاد في سبيله لحماية الحق الذي أنزله سبحانه وتعالى من أن تطاله أيدي الظالمين الطغاة فالحق الذي ليس له قوة تحميه حق ضائع ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى الله بحكمة وتأنٍ وصبر وعزيمة وتحمل للأذى والاضطهاد حتى إذا تجمع حوله قوة من المسلمين ولهم أرض يثبتون عليها هي المدينة المنورة ما إن حدث ذلك حتى أذن الله لهم بالقتال فقال تعالى: ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)).
ثم أمر بذلك أمراً فقال سبحانه: ((انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)). ثم توعدهم بعد ذلك إن هم ركنوا للحياة ولم ينفروا في سبيل الله أن يعذبهم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيرهم يحملون هذا الدين بحق ويجاهدون في سبيله فقال تعالى: ((إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير)).
وبين الله تعالى للمسلمين الدرجات العالية التي ينالها المجاهدون في سبيله ويحرم منها القاعدون المتخلفون فقال تعالى: ((لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً)).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدد لأصحابه فرائض الإسلام وشرائعه وفضائله فيجعل الجهاد في سبيل الله أرفعها مكانة فيقول صلى الله عليه وسلم: "وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله".
من هذا كله –وغيره كثير- أصاخ المسلمون للنذير واستجابوا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت حياتهم كلها حركةً دائبةً وجهاداًً متواصلاً وتضحياتٍ عظيمةٍ حتى رفعوا لهذا الدين لواءه وعمقوا لهذا الحق أسسه وبنوا في الأرض حضارة إسلامية إنسانية لم يعرف التاريخ لها مثالاً من قبل نعم يا إخوة. لم يعرف الجيل الذي رباه الرسول صلى الله عليه
وسلم الجهاد كلمات رنانة ولا خطباً ومحاضرات وإنما عرفه ممارسة حية واقعية وقدم الدليل من الدماء الشهداء.
فهذا تاريخنا الإسلامي المجيد يخبرنا أن الجهاد في سبيل الله قد فرض في العالم الثاني من الهجرة النبوية ويخبرنا لجانب ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاد سبعةً وعشرين غزوة إسلامية خلال تسع سنين وبعث في هذه المدة نفسها خمسة وأربعين سرية لقتال أعداء الإسلام في مواقع مختلفة وبعملية حسابية سريعة يتبين أن الصحابة رضي الله عنهم قد خاضوا اثنتين وسبعين معركة خلال تسع سنين فقط بمعدل ثمان معارك في العام الواحد وبمعدل معركة واحدة كل شهر ونصف من الزمن.
وهكذا استمروا في جهاد لاحب دائم متواصل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا التاريخ أيضاً أنه في شهر صفر من العام السادس عشر للهجرة النبوية أي بعد وفاة رسول الله بخمس سنين وشهرين فقط ثم فتح آخر معاقل الحضارة الفارسية وإخضاعها لهذا الدين الإسلامي العظيم. وهكذا استمرت الأجيال الإسلامية تتعاقب على حمل الراية وتفتح الأمصار وتشيد في الأرض العمران وتقيم الحق والعدل بين الناس عبر سنوات طويلة من الزمن بل عبر قرون وأحقاب.
والآن... ماذا نقول عن هذه الفريضة الإسلامية العظيمة ؟! هل سقطت عن المسلمين ؟! هل نسخت ؟ هل رفعت ؟
لا وألف لا فالجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلنها صريحة واضحة لا لبس فيها ولا خفاء عندما يقول: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق".
فالطريق الوحيد لعزة الأمة الإسلامية اليوم وفي كل يوم هو طريق الجهاد في سبيل الله طريق التضحيات والشهداء. طريق الدماء الزكية الطاهرة تراق في سبيل الله لتحمي العقيدة الإسلامية والأرض الإسلامية وتسترد المقدسات الإسلامية.
وكل طريق غير هذا الطريق طريق فاشل وكل راية غير هذه الراية راية كاذبة خادعة وكلما ابتعدت أمتنا عن حمل هذا اللواء ازدادت ضعفاً وذلاً وهواناً بين الناس.
أيها الإخوة. هذه كلمات ونفثات من قلب كلمته الأحداث الصعبة والواقع المر الأليم الذي تعيشه أمتنا الإسلامية وهي تتخبط فيه خبط عشواء
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
فلنتطلع أيها الإخوة إلى الجيل الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينيه ولنقتف آثاره فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
اللهم اجعلنا من المخلصين لك في جميع ما نقول ونعمل. اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا فإنك أنت ربنا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.