أحدثكم عن نملة "سليمان"!
أحدثكم عن نملة "سليمان"!
محمد عبد الشافي القوصي
يحكى أنه عندما اجتاحت جحافل التتار عاصمة الخلافة (بغداد) واستباحت بلاد الشام، وبينما الخلافة العباسية تتهاوى، احتدم الجدل -في تلك الأثناء- بين أكبر فقيهين في الأُمة حول (نملة سليمان) أهي ذكر أم أنثى؟!
سمعت هذه القصة قبل عقدين من الزمان، وانشغلت بالتنقيب عنها في بطون الكتب وأحشاء المراجع، ولما أعياني البحث، هرعتُ إلى شيخي، علّني أجد عنده جواباً شافياً عن فحواها ..
فنظر إليّ الشيخ نظرةً فاحصة مملوءة بالحسرة والقلق!
قلت: أرجو ألاّ تغضب مني -يا شيخي الجليل- ولا تهزأ بسؤالي..
فصاح بصوتٍ عالٍ: كيف أهزأُ –يا فتى- وأنت تسأل عن أمرٍ جلل!
لقد سألت عن نملة عزيزة علينا، محببة إلينا ... منزلتها عندنا بمنزلة الرأس من الجسد!
* * *
حسبها شرفاً أنها استمتعتْ برؤية نبي الله سليمان بن داود "ع" في عزه ومجده وموكبه. وخاطبته، وحاورته، ثم اعتذرتْ إليه بأدب دونه كل أدب.
وأنها أدخلت الفرح والسرور والبهجة إلى قلب نبيّ عظيم القدر، فجعلته يتبسّم ضاحكاً من جمال منطقها، وروعة بيانها، وكريم طباعها، وحسن تصرفها.
ثم أقسم –الشيخ- بأغلظ الأيمان أن هذه النملة الصغيرة، لأعقل من كثير مما نرى من الآدميين "عديمي الآدمية" الذين يؤذون الأنبياء، ويتهكّمون بالمقدسات، بلْ ويسخرون من الذات الإلهية ... سخِر الله منهم ولعنهم في الدنيا والآخرة.
لقد أُوتيتْ النملة عقلاً راشداً، وقلباً نابضاً، فعرفتْ ما لها وما عليها، وأدركتْ ما يلزم وما لا يلزم، وفهمتْ كيف تتأدّب في حديثها مع نبيّ الله .. فلم تسفّه كلامه ولم تردّ قوله كما يفعل –دعاة العلمانية- في زماننا، ولم تتطاول عليه وعلى ما أُوحيَ إليه من ربه، كما يحلو للماديين والتغريبيين الظانين بالله ظن السوء، ولم تقذفه بالحجارة وتصدّ عن السبيل كما فعل السفهاء والليبراليون القدامى مع أنبيائهم، ولم تزعم أن التديّن سبب البلاء الذي حلّ بالبلاد والعباد كما يعتقد "الجاهليون الجدد" الذين إذا قلتَ لهم: إن مصيركم هو مصير يتامى الماركسية وما آلوا إليه من الذلة والهوان، فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو؟!
فما أحوجنا في هذا الزمان إلى مثل هذه النملة الحكيمة لتعلّم "المثقفين" و"المتحضرين" و"المتفلسفين" و"الجالسين على الأرائك" دروساً في أدب الحديث، وفن الحوار، والأخلاق العامة، وآداب الطريق، وتوقير أهل العلم والصالحين!
وربما لا تصدّق -يا بُنيّ- أن هذه النملة (رحمها الله) مجرد نملة عادية جداً، فلا يمكن بحال من الأحوال أن نعتبرها مثقفة بالمعنى الأكاديمي، ولا أظن أنها من حملة الرسائل العلمية، أو على دراية بالنظريات والفلسفات الغربية، فما قرأتْ شيئاً عن سارتر أو ديكارت، وما سمعتْ أبداً عن دارون ولا سبنسر، وما لديها علم قط بماركس وانجلز ... ولا هي بحاجة إلى محاضرات في أكاذيب العلمنة والتنوير، وليست مستعدة كي تلوّث مسامعها الطاهرة بشعر الحداثة الذي ينقض الوضوء!
فعندما مرّ موكب سليمان "ع" لم تفتعل النملة العاقلة صخباً ولا ضجيجاً كالذي تحدثه مليشيات العلمانية عندما تعترض الرقابة على كتاب ما، فلم تلوك لسانها بالحديث مثلهم عن حرية الإبداع وحرية الفكر وحرية الكفر، ثم تنهال بالهجوم على الأزهر والاستبداد الديني والحكومة الدينية ...إلخ. كما لم تتألم وتتحسر باستنكار: هل لدى الأزهر صلاحية مصادرة الكتب وتنفيذ المصادرة؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي أثارها قديماً البروفيسور "أُمية بن خلف" ورفاقه في "دار الندوة"!
فالنملة بفطرتها، تعرف للدين قداسته، وللأنبياء حرمتهم، وللعلماء مكانتهم .. وأن العقل يسترشد به لفهم الوحي .. وتعرف النملة لكل ذي قدر قدره، فلا ترجم بالغيب، ولا تفتي فيما ليس لها به علم، ولا تخوض مع الخائضين، ولا تكذّب بيوم الدين، ولا تملأ الصحف الصفراء والحمراء ومواقع الانترنت بسخيف القول وحامض الفكر، وكناسة الشعر!
فاكتفتْ النملة العظيمة بتوجيه الأمر إلى أتباعها الصالحين والصالحات بأن يدخلوا مساكنهم، ويلزموا حدود الأدب والسكينة فقط .. فلم تلطم الخدود، وتشق الجيوب، وتذمّ شفتيها، أو تمد لسانها مطالبة بـ"المساواة"، أو ترفع شعار "الدولة المدنية" و"المجتمع المدني" و"حقوق الأقليات" و"حقوق الدواب" .. و"مخاطر الدولة الدينية"، ولم تجادل في مسألة "الحجاب والنقاب"، أو تطالب بعقد مؤتمرات دولية عن "الختان" والإجهاض وحقوق الشواذ .. ولم تعتبر جيش سليمان بأنه عدوان على الحريات، وحملة عداء للسامية!
فالنملة المهذّبة لا تعرف فن المتاجرة بالشعارات، فلم تركب موجة "محاربة الإرهاب" ثم تسخر من الشعائر الإسلامية، أو تتشدق بـ"حرية الإبداع" فتطالب بإعادة طبع الكتب البالية، التي أفرزها اللادينيون وجنود إبليس أجمعون .. لأنها ليست تافهة كعصبة التافهين والتافهات في أيامنا هذه، فلا وقت عندها لزعزعة النفوس وإثارة القلاقل وبلبلة الرأي العام، وصرف الناس عن قضاياهم المصيرية.
نعم .. إنها مشغولة بقضايا أهم، وأمور أبعد من ذلك بكثير .. مشغولة بإصلاح وإعمار وادي النمل، وبناء المساكن، وتنظيم العمل، واستثمار الطاقات المعطلة، وترشيد الإنفاق، وطرح حلول عملية لمشاكل العنوسة والبطالة والغلاء، ومحاصرة شبح الفقر والجهل والمرض، ورسم خطط مستقبلية للمواليد الجدد، وتوفير الغذاء والدواء والأمن درءاً لأية أزمات أو كوارث طبيعية قد تحلّ على الوادي وساكنيه.
ولم تكن تلك النملة الكريمة تجيد أساليب النفاق والمداهنة والتسلّق والوصولية والانتهازية، فتعلّق آلاف الشارات واللافتات لتجديد البيعة والتحية والتهنئة بمناسبة مرور موكب "الملك العظيم" بالقرب من الوادي .. إنما كانت –كأهل عصرها- تلتزم الصدق، وتؤدي الأمانة، وتهدي إلى الخير، وتحافظ على المال العام، وتتقن العمل، وتأخذ بالأسباب، وتتوكل على رب الأرباب.
بلْ إنها بلغتْ مبلغاً جليلاً من عزة النفس وسمو الخلق والعفة والطهارة والنزاهة، فلم ترغب في تشتيت عقول قومها، وتوهين عزائمهم، وتضييع أوقاتهم، وتبديد أموالهم، فلم تنتهز فرصة لقائها بـ"الملك" لتطلب منه أن يسمح لها وقومها بإصدار صحف تافهة فاسدة لنشر أخبار الحوادث وفضائح النجوم والساقطين والمهرجين والمرضى النفسانيين، وأخبار المراحيض ودورات المياه!
ولم يذكر أحد من الرواة والإخباريين أن النملة المحترمة طلبت من "الملك" أن يبني لها وقومها عدداً من المسارح ودور السينما والبارات والكباريهات، ويرصد لها الجوائز لإقامة مهرجانات الأفلام الشاذة والمسلسلات الساقطة والأغاني الخليعة ... لأنها حريصة –كل الحرص- على ميزانية الدولة، وثروات الأُمة، فلا تبددها فيما يضر ولا ينفع .. وليس من شيمتها أن تُغضِب نبيها الكريم، فتجلِب سخطاً وفقراً على قومها.
وجميع التقارير الدولية أكدت أن ما حققته النملة المجاهدة من إنجازات لقومها هو جهد ذاتي، فلم تلجأ أثناء بنائها المساكن أو عند الأزمات إلى صندوق النقد الدولي، أو الاقتراض من الشرق أو الغرب، حتى لا تنحني أمام دائنيها، وتقدم لهم التنازلات تلو التنازلات، فيتهمها البعض بالعمالة ... خاصة أنها لم توقّع أيّة اتفاقيات شائنة، ولم ترهبها سطوة العولمة، ولا هي تطمع في الالتحاق بالاتحاد الأوربي، أو الانضمام لحلف شمال الأطلسي، أو حزب التجمع، ألا إن حزب "النيتو" هم الخاسرون!
والنملة كسائر جنود "سليمان" في عمل دءوب لرصف الطرق وحفر الآبار، وهندسة البناء والعمران، وتنشيط مجالات الرعي والزراعة والصناعة والتجارة .. مما جعل عصره ينعم بالعدل والأمن والاستقرار، وصارت مملكته تضرب بها الأمثال في المجد والشموخ وترسيخ قيم الحق ومبادئ العدل وفنون الجمال.
وحسب هذه النملة المباركة فخراً، أن القرآن الكريم عطّر ذكرها، وأورد قصتها، في مقام الإجلال والإكبار والاعتبار، ليظل الصالحون يتعبدون بقراءتها إلى يوم الدين، يوم يعض "الليبراليون" على أيديهم ويقولون يا ليتنا كنا ذباباً!
فما أجملها –يا بُنيّ- من نملة عاقلة ذكية، نبّهت قومها، وأمرتهم بالطاعة والامتثال، ونصحتهم بالتي هي أحسن .. وما عليك إلا أن تفتح آذان قلبك، فتستمع وتتأمل معي قوة موعظتها، ودقة رسالتها، وجمال خطبتها، كلمة كلمة وحرفاً حرفاً:
"يا أيها النمل، ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنّكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون".
فالياء: حرف نداء، أيها: للتنبيه، النمل: المنادى عليه، ادخلوا: أمر، مساكنكم: للتحديد، لا يحطمنّكم: نهي، سليمان: للتخصيص، وجنوده: للتعميم، وهم لا يشعرون: اعتذار لسليمان "ع" وجيشه.
وأخيراً، أخشى أن تُتهم النملة بالسلفية، أو يُظن أنها من الإسلاميين "المتشددين"!
ثم مَنْ أنا –يا بُنيّ- حتى أسمح لنفسي بالحديث عن "فقه" تلك النملة .. وهي من هي!
فما مثلي ومثلها في علمها وفطنتها إلا كمثل النملة ذاتها وسليمان!