أكلة الجوز الفارغ
جميل السلحوت
"في الصّدق نجاة" هكذا قال العرب من غابر الأزمان، فهل يتوخّى أبناء هذا العصر الصّدق في حياتهم؟ فالكذب مذموم عند جميع الشّعوب، ومن اللافت أنّ كثيرين من "المبدعين" والسّياسين والتّجار والموظفين وغيرهم يتعمّدون الكذب في حياتهم، ظنّا منهم بأنّ ذلك يرفع شأنهم، فينسبون لأنفسهم أشياء ليست فيهم ولم يعيشونها، فهم يتنكّرون لماضيهم وظروف الحرمان والبؤس التي عاشوها، ويزعمون بأنّهم ولدوا وملعقة ذهبيّة في فم كلّ منهم، مع أنّهم ولدوا في ظروف فقر وحرمان مبكية، ولا يدرون أنّ إنكارهم لمرحلة من حياتهم هو شطب لكفاحهم وجدّهم في هذه الحياة، أو هو إثبات دون أن يدروا على أنّهم وصلوا ما وصلوا إليه بالمحسوبيّات أو بفعل غيرهم...وقد انتبهت حكمة الشعب لمثل هؤلاء، فالمثل يصفهم بأنهم" مثل اللي ياكل جوز فارغ" أيّ أنّهم شكل بلا مضمون. ولو أنّهم يقولون الصّدق لكان ذلك زينة يتحلّون بها، "فحبل الكذب قصير" وسريعا ما ينكشف الكذب، فيهوي الكاذب إلى الحضيض مهما تظاهر بالرّفعة.
وممّا يروى أن شخصا أساء لأحدهم بقوله:" الله يلعن أبوك اللي مات من الجوع!...فردّ عليه: الله يلعنه اذا لقي ما ياكله ومات جائعا...لكنّ اللعنة تحلّ على أبيك الذي مات تخمة من الرّزق الحرام"! فالفقر ليس عيبا تماما مثلما هو الغنى ليس مفخرة. وممّا يروى أنّ الشّاعر الأمويّ جريرا مرّ بوالد الفرزق يرضع الحليب من ثدي ماعز، فهجا جريرٌ الفرزدقَ واصفا أباه بالقرد الذي يرضع من الحيوانات الأخرى! فردّ عليه الفرزدق مفاخرا بأبيه بقصيدة طويلة جاء فيها:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فهل أكْلُ الجوز الفارغ يسمن أو يغني من جوع؟
ومّما ينسب للامام عليّ قوله:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً*** يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ
فليس يغني الحسيب نسبته*** بلا لسانٍ له ولا أدب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا*** ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي
ومن الصّدق اللافت ما كتبه الرّوائيّ السّوري العربيّ الكبير حنّا مينا في كتابه"كيف حمت القلم" وما كتبه الرّوائيّ الروسيّ في كتابه"طفولتي" حيث كتبا عن الحرمان والبؤس والحرمان الذي عاشاه في طفولتهما، فهل نتعلم منهما وممّن هم على شاكلتهما؟