الخطب المنبرية الجاهزة..!
صالح خريسات
لم تكد تمضي ساعة واحدة,من يوم الجمعة,على جلوسي في مكتبة تبيع الكتب الإسلامية, حتى بلغ عدد الذين سألوا عن كتاب"الخطب المنبرية" من الشيوخ, والوعاظ, وأئمة المساجد, ستة رجال.وقد أثار هذا الأمر دهشتي سيما وأن هناك من الكتب والدراسات الإسلامية،ما هو أولى بالقراءة والبحث،من هذا الكتاب,وبخاصة أننا في عصر تفجر العلم والمعرفة, ونبحث عن وسائل بديلة للتعاون مع دول العالم،ومذاهبه,وطرق الالتقاء,ونبذ كل أشكال العنف والتنافر, بيننا وبينهم.فلماذا لا يسأل هؤلاء الخطباء,عن كتب ومؤلفات علي عبد الرازق، وزكي مبارك, وزكي نجيب,وأحمد كمال,وشاكر مصطفى, وحامد عمار, ومحمد عبده,وجمال الدين الأفغاني,والطهطاوي.. وغيرهم كثير.
وسألت صاحب المكتبة,عن سر الطلب على هذا الكتاب,فأخبرني, بأن الوعاظ يتوزعون على المساجد,ويحتاجون إلى هذا الكتاب ومثله,لاختيار ما يناسبهم من خطب ومواعظ،يلقونها في الدرس الديني،أو في خطبة الجمعة.
وتابع صاحب المكتبة قائلا:أنا شخصياً, أحفظ جميع الخطب المنبرية،لكن الذي لا أكاد أفهمه،لماذا يتحول الواعظ،أو خطيب المسجد,بعد دقائق فقط من خطبته إلى مقاتل شرس،.. لكنه والحمد لله،يعود للهدوء مرة ثانية،ويتظاهر بمهارات التفكير السليم،فيطوي الورقة في جيبه,ويدعو للناس بالمغفرة,وهذا أفضل ما في خطبته.
وفيما أنا استمع إلى هذا الرجل,وثب إلى ذهني أسطر من خطبة الحجاج،يوسف الثقفي,سفاح العراق بلا منازع, حملونا على حفظها،والإعجاب بها,عندما كنا صغاراً لا نميز في المحفوظ بين قول وقول,فكم مرة طلب منا في الدرس, أن ننهض لنلقي في نغمة الخطباء, قول الحجاج" أنا ابن جلا وطلاع الثنايا,متى أضع العمامة تعرفوني،.. إني _ والله_ لأرى أبصاراً طامحة,وأعناقاً متطاولة،ورؤوساً قد أينعت,وحان قطافها,وإني لصاحبها,كأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى,.." فهل فتح يومئذ المعلم,أبصارنا لنكره صاحب هذا القول,حتى لو كانت بشاعة معانيه لبست ثوباً لفظياً من حرير؟!هل أوحى لنا المعلم يومئذ,بأن نتساءل,ماذا تكره يا حجاج من الأبصار,إذا طمحت,والأعناق إذا تطاولت؟! وماذا نصنع برجل مولع بقطع الرؤوس,وحب الدماء؟!أوليس علينا أن نحيل هذا البطل المزعوم,وتاريخه المجيد,إلى الطب النفسي؟!
وتذكرت خطبة زياد بن أبيه،وخطبة عبد الله السفاح,وهو من قال مفاخراً في أول خطبة له في جموع المسلمين المساكين:" أنا السفاح المبيح,والثائر المتيح..!" فهل تستحق مثل هذه الخطب,أن نحفظها ونعلمها للأجيال؟! ألم نمل بعد من التكرار,وإعادة الكلام,والتهديد من على منابر المسجد؟! أما آن الأوان بعد, أن ندرك بأن هذا التاريخ ليس تاريخنا نحن،وإنما هو تاريخ أجدادنا كتبوه تحت ضغط العصور التي عاشوا فيها،وفي حدود الإمكانيات التي كانت متوافرة لهم؟!
وما هذه الخطب المنبرية,إلا جزء من هذا التاريخ الممزق,تاريخ الفرق والمذاهب,عبر فيها الخطباء على المنابر،عن مواقفهم الشخصية,وميولهم الخاصة,فلا نكاد نجد فيها علماً, ولا يظهر لنا منها سوى التهديد,والوعيد,بينما تكتفي بالتلويح بشعلة الدين,في الظلمات التي تدعي إنارتها.
إننا لا نزال حتى الآن,غير قادرين على فهم هذا التاريخ على حقيقته,فهو تاريخ الشخصيات,وقواد الجيش,ومادته هي,الحوادث, والأيام,والجواري،والقيان,وهو تاريخ مصطنع, لا يميز بين الحقائق والأساطير,وقد اعتمد مؤلفوه على الرواية في سرد الأحداث،والمعجزات,والخوارق, في صنع النتائج, لكنه يخلو من شرح عقلي للحوادث التاريخية.
إننا نقرأ الكثير من صفحات هذا التاريخ,وهي منقوصة مشوهة, وتخالف العقل, والمنطق أحياناً, ونظرا لارتباط هذا التاريخ بالدين الإسلامي,فقد أصبغنا عليه صبغة القداسة,فلا نكاد نبحثه بحثاً علمياً,وتركناه على ما فيه من خرافات, وأوهام,وكله درجات من الانحراف والسقوط.فلماذا نتعبده؟!
إن اللجوء إلى الخطب المنبرية الجاهزة,وغيرها من كتب التراث الإسلامي,نوع من الهروبية والانهزامية,والفشل في مواجهة الواقع.وإن الوعظ والإرشاد،والخطب المنبرية,تستمد تقبلها من جموع المسلمين,ليس من التكرار,وإنما من التجديد المستمر,والتجديد مؤشر على نضج الممارسة العقلية,وتحمل الإنسان مسؤوليته,في التعبير عن تجربته الذاتية, ورؤيته المتجددة لقضايا عصره,فإذا مارس الإنسان هذا الحق المشروع بحرية وشجاعة,كان مؤهلاً لحمل المسؤولية,والوقوف أمام الناس واعظاً,أو خطيباً,يرفع صوته,ويسكت له الجميع0