إلى الشباب أكتب

محمد نادر فرج

ميرلاند - أمريكا

[email protected]

ربما لأنه آذَنَ بالرحيل، فوجدتُ نفسي مُشفقةً أن تنخلعَ عنه، فإذا بها تتعلَّقُ في أطرافهِ وتتشبثُ في ثناياه .

وربما لأني عجزتُ عن تحقيقِ أحلامٍ عظامٍ كنتُ في أولِ الشبابِ أصبو لها، ولكنَّ عجلةَ الزمانِ لم تلبثْ أنْ دفعتني إلى أخرِ المضمارِ من غيرِ شعورٍ، ودونَ أن أصلَ إلى ما كنتُ أتمناه، وأحلمُ في تحقيقه .

وربما لأني أدركتُ قيمةَ هذه المرحلةِ من العمر، وعرفتُ قدْرَها بعد فواتِ الأوان، وبعد أن تناثرتْ الرَّغباتُ وضاعتْ الأحلام، وانتهتْ هذه الرحلةُ المثيرة، لأجد هذه النفس التواقة، محطمة منهوكة، تجثو متهالكة على قارعة الطريق. فأردت أن أنبه من هم خلفي مغبة الطريق ووعورته، .

وربما لأني أدركتُ أنَّ عليَّ واجباً أن ألقي نظرةً إلى الوراءِ، أقيِّمَ ما حقَّقتُ، وأحاسبَ نفسي على ما فرَّطت.

وربما لأني أحسُّ بحقيقةِ الواجبِ تجاهَ هذه الأمة، فأردتُ أن أكفِّرَ عن بعضِ العجزِ والتقصيرِ حيالَها، لأنقلَ لها خلاصةَ تجربةٍ حتميةٍ خضتُها، وهي قَدَرٌ على كلِّ إنسان، فأنبِّهُ الشبابَ حتى لا يضيعَ جيلٌ آخر.

وربما لأنها خارتْ قواي، وبدأتُ أشعرُ بالعجزِ والضعفِ حيالَ رايةٍ كنتُ أحاولُ أن أعيشَ في كنفِها، فأخذتُ أبحثُ عن من أجدُ فيه الأملَ الذي أوشكَ أن يضيعَ في حملِها، فوجدتُه في حيويةِ وطاقةِ الشبابْ .

فلكم يا معشرَ الشبابِ أكتب، وإليكم أفيء .

أكتبُ لكم لأن فيكم العزمَ والشكيمةَ، وفيكمُ القوَّةَ والحيويةَ، وفيكم الطاقةَ والقدرةَ، وهذه هي مقومات المجدِ والبناء.

أكتب لكم لأنكمْ أملَ الأمةِ، تنظرُ إليكم بعيِن التفاؤلِ، في ثقةٍ ويقين، فأنتم طلائعُ النصرِ، و لكم يبزغُ الفجر، وأنتم معقلَ الرجاء، وهذا لسانُ حالي يقول :

نحن يومٌ طُويتْ صفحتُهُ            في ظلامِ الليلِ ضمَّتهُ اللُّحودْ

نحنُ أمسٌ قد مضى لكنكم           غدُهُ الوضّاءُ خفّاقُ البنودْ

فأنتم الغدُ المشرقُ الذي تحلمُ بهِ وتتطلَّعُ إليه .

إن الأمةَ تعيشُ في ضعفٍ وتمزُّقٍ وانكسارٍ، مهزومةً مهانة، تتقاذفُها الأطماعُ، وتميلُ بها الأهواء، فهي عاجزةٌ قاصرة، لا تجدُ ملاذاً تأوي إليهِ، أو كَنَفاً تحتمي به، ولا مَلْفاً تركُنُ إليه، فهي ترى فيكم فرسانَ النصرِ تعيدونَ لها العزةَ والكرامةَ، وتصنعونَ لها المجدَ والفَخار .

وهي تعيشُ الجهل والتخلُّفَ والتبعية، تتقاذفُها الأمواجُ كريشةٍ تائهةٍ لا تدري أتقاومُ عواصفَ هوجاءَ من فوقها، تسوقُها إلى ما تكرهُ، وتدفعها لغير وجهتها، راغمةً منكسرة. أم أمواجاً من تحتِها، تحملُها لترتطمَ في الصخورِ، فتتناثرُ أشلاءً محطَّمة. فهي ترى فيكم مركبَ الأملِ، وزورقَ النجاة .

وهي تعيشُ الذلَّ والضعفَ والخوف، فلا تجدُ ناصراً ولا تلقى مُعينا. تتلوّى بين ما يحيقُ بها من مواجعَ وآلام، وبين نظرةِ الشماتةِ في وجوهِ الأعداءِ وأحداقِ الشامتين. فلكُمْ تشكو، وإليكم تلوذ، وبكم تستجير .

إليكم يا أحفادَ الملوكِ وأنجال الأبطالِ أكتب، فلا تغرنَّكم الحياةُ، ولا يلفتنَّكم عن المجدِ سفاسفُ الأمورِ، ولا المظاهرُ الزائفةَ، ولا توافهُ المغريات .

هلْ أدركتم ما يحيقُ بكم، وما يرادُ لهذه الأمةِ، وقد تكالبتْ عليها الأممُ وتحشَّدتْ حولها الحشودُ، فلا يسمعُ لها رأيٌ، ولا يصانُ لها عرضٌ، ولا تُحفظُ كرامة. فهي مهيضةُ الجناحِ، كسيرةُ الوجدان. فهلْ أدركتم مآلَ التشتُّتِ ورأيتم مصيرَ الضَّياع ؟ هلْ عرفتم الطريق ؟. 

أتظنونَ أن تتبُّعَ الموضةِ وتقليدَ الأشقياءِ من الماجنيَن والساقطينَ والعاهرات، والسيِر على طريقِ الانحرافِ، هو طريقُ التقدُّمِ ومنهجُ الرُّشدِ والفلاح ؟ .

أتظنونَ أن المجدَ يُصْنَعُ بالتسكُّعِ على قارعةِ الطريق، وإضاعةِ الوقتِ باللهوِ والمجون، والتنافسِ بالمنكرات ؟ .

أتظنون أنَّ المجدَ تصنعُهُ المعاكساتُ، والاعتداءُ على الحرمات، ومحاولةُ الإيقاعِ بالمحصناتِ، والولوغُ في شرفِ الأمةِ وأنتم أجدرُ الناسِ بحمايته ؟ .

أليسَ مَنْ تغررونَ بهن أختُكَ وأختُ زميلك ؟ وأنتم مع ذلكِ تحلمونَ وتأملون .

ررحمَ اللهُ فيلسوفَ الأمة وشاعرَها إقبالُ حيث يقول :

وما نيلُ المطالبِ بالتَّمني            و لكن تؤخذُ الدنيا غِلابا

لقد والِله ترفَّعَ الذينَ بَنَو الأمجادَ وأشادوا صروحَ الحضارةِ عن هذهِ التوافه، فخلَّدهم التاريخُ في صفحاتِه الناصعات، و لو أنهم صرفوا قُدُراتهم كغيرِهم من الناسِ لما كانَ لهم ذلكَ التميُّز، ولا هذا الشأنُ العظيم، فقد سلكوا مَسْلكاً لم يسلكه إلاّ أمثالَهم من ذوي الإرادةِ الأشدّاءُ الأقوياء .

اعلموا أيها الشبابُ، أن أروعَ نشوةٍ - وهي ما يبحثُ عنهُ الشبابُ - إنما تكمنُ في الفوزِ على النَّفسِ الأمّارةِ بالسوء، والنصرِ على الهوى والشيطان، فليسَ أجملَ من القوةِ في مكامنِ الضعفِ، والنجاةِ في مواطنِ الهلاك، هذا الإحساسُ الذي تمتزجُ فيه نشوةُ الفوزِ بسعادةِ الحياة، لا يعرفُهُ إلا مَنْ جرَّبه، فلا يجدهُ إلا شابٌّ ترفَّعَ عن ما وقعَ به الآخرون. إحساسٌ بالنصرِ والانتعاش، دائمٌ لا يُنغصُّه ندمٌ، ولا يقتلهُ إثمٌ، ولا شبحُ خطيئة، فهو شموخٌ وكبرياء.

حينَ يسقطُ الضعفاءُ وأصحابُ الهممِ الهزيلة، وحيَن ينهزمُ الأقزامُ والشذّاذُ، لا يسمو إلاّ الأشداءُ، ولا ينتصرُ إلاّ الأقوياء .

وإذا كانت النفوس كباراً           تعبت في مرادها الأجسامُ

وحينَ ينحرفُ سخفاءُ العقولِ وضعافُ النفوسِ، لا يعرفُ طريقَهُ ولا يصلُ الغايةِ إلاّ أهلُ الحكمةِ، وذوي العقلِ والرشادْ.   من يكونُ الفائزُ ؟.

أتراه سهلا هكذا أن نبلغ الأمجاد لا تعباً نحسُّ ولا نصب

هذا هو الإخفاق والذلُّ البغيـضُ ألا ترى حال العرب

هل يكونُ النصرُ بالتبعيةِ أم هو التميُّز والانفراد ؟.

اعلموا أن عنصرَ التنافسِ هو عنوانُ الحيوية، وهو روحُ الشباب، وأروعُ ما يتميَّزُ به، ولكنه سلاحٌ خطيرٌ ذو حدَّين .فحيَن يكونُ التنافسُ على الفضائلِ والبرِّ وصالحِ الأعمال، ويكونُ متجهاً نحو البناءِ والعطاء، يكونُ فيه الازدهارُ والتقدم، ويكونُ أداةً فعَّالةً في صنعِ الحضارةِ وبناءِ الأمجاد .

وحينَ يكونُ بالتسابقِ إلى الرذائلِ، والتنافسِ بالسقوطِِ والانحراف، والولوجِ في مهاوي الخنى، ومستنقعاتِ الخطيئة، يكون أمضى أداةٍ في هدمِ الحضارةِ وضياعِ الأمجاد .

اعلموا أن المجدَ لا يصنعُهُ من لا يعرفُ طريقَهُ. ولا يدركُهُ من لا يسعى إليه، فهو عزيزُ المنالِ وَعْرُ المسالكِ، شديدٌ على من ليسَتْ له هِمَّةٌ، ولا يعشقُ المصاعبَ والأهوال، وهنا قمَّةُ الرَّوعة، وغايةُ السعادةِ يشعرُ بها أولئكَ الذينَ عرفوا طعمَ التميُّزِ، وذاقوا لذَّةَ التفوق، ونشوةَ النجاة .

لا يمكنُ أن يحقِّقَ هذا الفوزَ إلاّ من عشقوا الفضيلةَ فهي مسلكُ الأبطال .

هذا عنترةُ الذي عاشَ في مجتمعٍ يعجُّ بالجهالة، وينوءُ بالرذيلة، لم يبرزْهُ الخمرُ والمجونُ، وهو ما يَتنافس فيه - وسط هذا الجوِّ - الشبابُ والفتيان، وإنّما أبرزَتهُ قيَمٌ لا يملكُ المجتمعُ الإنسانيُّ في كلِّ مشاربهِ واتجاهاته، إلاّ أن يعترفَ بفضلها حتى وإن عجزَ هو عن تَحقُّقِها أو تمثُّلِها فيه .

لقد تميَّزَ في قِيَمٍ كريمةٍ وأخلاقٍ نبيلة، انفردَ بها عن أقرانِهِ، وسْطَ هذا المجتمع الصاخب، الذي يعج بالرذيلة، ويحفل بالفوضى والاضطراب، فكان له المجد والخلود متميزاً على كل من عاصروه، وإن كانوا ليسخرون منه ويسفهون أحلامه.

لقد أبرزتهُ العفَّةُ التي ترافقُهُ في سلمِهِ وحربِه، فها هو في السلمِ طاهر الذيل، عفيف النفس، يقول :

وأغضُّ طرفي إنْ بَدَتْ لي جارتي          حتى يواري جارتي مَثواها

وفي الحربِ تبرزُ أخلاقه الكريمة، كأجملِ صورةٍ للترفُّعِ عن ما يتنافسُ عليه الأقزامُ وضعافُ النفوس :

هلاّ سألتِ القومَ يا ابنةَ مالكٍ               

إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي

يُخبرْكِ من شَهِدَ الوقائعَ أنني                 أغشى الوَغى و أعفُّ عندَ المغنمِ

هاتانِ صفتانِ من أبرزِ وأهمِّ الفضائلِ الإنسانية، وهما أجملُ ما يُتحلّى به، لاسيما عندَ الشباب لاسيما عندَ الشباب: الشجاعة والنجدة، والترفع عن المغريات ، ولذلك نجدُهما من أبرزِ ما أثنى به رسولُ الله تعالى صلى الله  عليه وسلم على الأنصارِ حيَن مدَحَهم بعدَ يومِ حُنين، وقد أعطى الناسَ الكثيرَ يتألفُ به قلوبَهم، ووَكلَهم إلى إيمانِهم، وهم أهل العفَّةِ والفضيلة، فقال: ( واللهِ إنكم لتقلّونَ عندَ الطَّمَعِ، و تكثرونَ عندَ الفَزَعْ ) .

ولا غرابة في أن يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( ما ذكر لي أعرابي فأحببت أن أراه إلا عنترة ) فهو بهذه الأخلاق الكريمة جدير بأن يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من يرسخ القيم، ويعرف لأهل الفضل ما هم فيه، وكما قال لسفّانة بنت حاتم الطائي حين عرفته بنفسها من بين أسرى طيئ ذاكرة مناقب أبيها ومحامده، فقال لها رسول الله ص : (لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه ) وأطلقها وأطلق جميع أسرى طيء إكراما لذلك الرجل الذي قال عنه ص: أنه كان يحب مكارم الأخلاق.

لعلي أتابع معكم أيها الشّباب في حديث آخر، أعرج فيه على مناقب خالدة من سلف هذه الأمة وأفذاذها من صحابة رسول الله ص ومن تبعهم على هديه ومنهجه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وإنني إذ بدأت في هذا المقال بذكر نماذج من الجاهلية، فإني أردت أن أستفز بكم الحميَّة التي لم ينهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تسير في مسارها الصحيح، فهو يقول لأبي دجانة حين كان يتبختر بين الصفوف مزهوا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنها مشية يكرهها الله إلا في هذه المواطن) ، وحين ذكر حلف الفضول أثنى عليه وقال ( لو دعيت لمثله لأجبت ).

نسأله تعالى أن يحشرنا مع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، تحت لواء سيد المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.