تعدد المرضعات رؤية مقاصدية

د. إيمان سلاوي

 باحثة في القضايا النسائية 

[email protected]

تعدد المرضعات ظاهرة لم تأخذ بعد حظها من الدرس المقاصدي، ولا من النظر الموجه إلى أهميتها والغاية من تشريعها، فقد ظلت مبحثا حبيس أبواب الفقه في إطار بيان حكمها، ما يترتب عنها من حرمة الزواج وغيره، ولعله آن الأوان لكي تعطى لهذه القضية الأهمية التي تليق بها كأمر نص عليه القرآن نفسه،- وفي ذلك دلالة على أهميته- وبدا بارزا في مراحل حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تكاد رواية واحدة للسيرة النبوية تغفل عنه أو تتجاهله.    

والملاحظ أن ممارسة المسلمين لهذه المسألة " إرضاع المرأة لغير وليدها "لا تخرج عن صورتين: إما إقبال عليها في غير وعي بقوانينها وضوابطها وما يتريب عنها من أحكام حساسة وخطيرة تقتضي مسؤولية عظيمة، والصورة الثانية هي الإعراض عن هذا الفعل، والتحفظ منه بدعوى الخوف من تجاذب الإخوة من الرضاع وهو محرم شرعا، وقلما نجد نمادج تقدم هذا المعنى الذي ورد في القرآن والسنة بصورة تعكس الوعي العميق بالمقاصد والغايات المتوخية منه، لتكون بذلك قدوة مشجعة لغيرها على نفس الفعل.

ورود موضوع تعدد المرضعات في القرآن والسنة ودلالاته:

·      في القرآن الكريم:

رغب القرآن الكريم في الرضاعة الطبيعية عموما، وهذا إعجاز متجدد تكشف عن خباياه البحوث العلمية المنجزة في الموضوع، وحث القرآن الكريم على إرضاع الأم لوليدها حولين كاملين قال تعالى: "والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاع " البقرة 233 ، ورغم أن الإرضاع سلوك فطري، فقد دعا القرآن إلى إعطاء الأجرة للمرضع وإن كانت أما، تأكيدا على أهمية الإرضاع، قال تعالى: " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن..." التحريم 6 .

فإذا تعذر الإرضاع لسبب اجتماعي أو غيره ، لم يغفل القرآن الكريم أن ينبه إلى أهمية استرضاع امرأة أخرى، قال تعالى: " وإن تعاسرتم* فسترضع له آخرى"التحريم 6، ورتب القرآن الكريم على تعدد المرضعات أمومة حقيقية تستوجب أحكاما عظيمة دلت عليها الآية الكريمة: "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأمهاتكم اللاتي أرضعتكم" النساء 23 ، وكان من الممكن أن يسميهن القرآن مرضعات أو نساء، ولكن اختيار لقب الأم له دلالة عظيمة ومقصد يحتاج إلى بيان، ونص القرآن الكريم على ما يحدث بسبب الإرضاع من وشائج، اتصال وارتباط لا تغفل عنها الأم ولا الطفل إلا لهول عظيم كهول يوم القيامة، قال تعالى: " يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت..." الحج آية 2 .

·      أما في السنة النبوية:

     فقد ثبت إقرارها للعرف الذي كان سائدا وهو عرف استرضاع نساء البادية بغية إكساب الأبناء قوة بدن ونفس ، كما ثبت إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم لمرضعاته، جاء في سنن الترمذي عن أبي الطفيل قال:" كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت امرأة فبسط النبي صلى الله عليه وسلم رداءه فقعدت عليه، فلما ذهبت قيل هذه كانت أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم"، وأقرالرسول صلى الله عليه وسلم توطيد الأواصر

*نص القرآن عليه في حالة الاختلاف أو الطلاق.

 وتعميق الصلة بين الشخص وأهله من الرضاع  فعن عمره بنت عبد الرحمان:"أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها، وأنها   سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت: فقلت : يارسول الله، هذا رجل  يستأذن   في بيتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(أراه فلانا)،لعم حفصة من الرضاعة، قالت عائشة: لو كان فلان حيا – لعمها من الرضاعة – دخل علي؟ فقال: نعم الرضاعة تحرم ما تحرم من الولادة" (1)

وفي الحديث إشارة ضمنية إلى أهمية التواصل بين الأهل من الرضاع كما الأهل من الرحم، وورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤكد فضل الإرضاع وأهمية الإقبال عليه، حتى أنه جعل له أجرة من قبيل الإ كرام والاعتراف بالفضل، فعن حجاج بن حجاج الأسلمي عن أبيه أنه قال: يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع قال: الغرة : العبد أو الأمة.(2)

وزكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ورد في القرآن الكريم من أهمية إتمام الرضاعة    حتى أنه ذكر أن لابنه إبراهيم مرضعا تتم رضاعه في الجنة (3) وبذلك تكون السنة النبوية مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم من أهمية الإرضاع وفضله، ودالة على أهمية حفظ حقوق المرضعات، فما هي الدلالات الخفية لهذه الإشارات، وماهي مقاصد الشريعة الإسلامية من إعطاء الرضاعة بشكل عام هذه المساحة من الاهتمام، وكذا تعدد المرضعات:  

1 – الحث على الرضاعة الطبيعية، واستبعاد أي بدائل يمكن أن كل محلها:

فالمتأمل لما سبق ذكره من النصوص، يستشف تأكيدا واضحا على أهمية الرضاعة الطبيعية، التي من الأولى أن تكون من الوالدة بدليل قوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن" (1) وقد  يصعب ذلك لظروف مختلفة ، أوقد  يتعذر تحقيق الالتزام به طيلة  المدة المذكورة في الآية ، وبذلك يكون استرضاع امرأة أخرى وقاية من اللجوء إلى البدائل من الحليب المصنع والتي يؤكد العلم الحديث أنها لا يمكن أن تكون بديلا عن حليب الأم، فاسترضاع امرأة أخرى من شأنه أن يحقق نوعا من التعاون على الرضاعة الطبيعية وعدم استبدالها بغيرها، كما من شأنه أن يوفر للطفل الحصانة الكافية في حالة قلة حليب الأم الوالدة، أو عند قلة اتصالها بالرضيع لظروف عمل أو غيره.

2 – تعويض الحرمان الناتج عن فقدان بعض شروط الدفئ الأسري:

ففي حالات كثيرة قد يفقد الرضيع الأم نفسها، أو الأب، أو قد يكون طفلا وحيدا، ففي استرضاع امرأة أخرى ضمان لإكسابه جوا أسريا بديلا من شأنه أن يخفف شعوره بالحرمان، كما أن الرضاعة طريق بيولوجي لإكساب الأنساب إذا تعضد بالاحتضان العاطفي والتربوي لاشك أن يكون له بالغ الأثر في تقوية الوشائج الارتباط بين الرضيع وبين أسرة مرضعته، ولعل قوله تعالى:" يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت " متضمن لما يجب أن يكون من اتصال عاطفي ناتج عن علاقة الإرضاع، فإذا كانت القيامة كان هوله مسببا – استثناء – في الذهول أو الغفلة.

(1) البخاري: كتاب النكاح

(2) فهرس الدارمي : كتاب النكاح

(3) فتح الباري ابن حجر – كتاب الجناتر – رواية مات بن ثمانية عشر شهرا وفي سند أحمد

(4) الوالدة ودلالتها اللغوية، الإشارة إلى الإعجاز في هذه المسألة وفي المدة.

3 – توسيع دائرة التواصل بين الناس والحوافز الداعية إليه:

وهذا مقصد شرعي واضح دلت عليه آيات ونصوص عدة، ومنها قوله تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا "، والأصل أن المسلم إلف مألوف تتعدد عنده الأسباب والدواعي لتوطيد الصلة بالناس، و الحرص على محبتهم و صيانة مودتهم، و جميع ذلك يصب في بعد أساس و منطلق واحد هو الاجتماع على الخير، و التواصي به، وتتعدد الأسباب      و العلات لتحقيق هذه الغاية، فكيف لا يكون الاشتراك في الرضاعة واحد من هذه الأساب،  و قد ثبت أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يزور مرضعاته، و يحفظ حقهن، و يكرم من انتسب إليهم بسببهن، و هذا فيه ما فيه من القصد التوجيهي لما يترتب عن تعدد المرضعات من توسيع خير التعارف و الاتصال و التواصل، و في ذلك توسيع شبكة العلاقات التي تقوي المسلم و تعصمه، فالانتساب إلى أسرة مؤمنة طيبة حريصة على حدود الله تعالى لا شك أنه وحده يحفظ صاحبه ولو حرجا من الوقوع في الزلات و المعاصي.

4- التعاون على القيام بمهمة التربية على أحسن وجه :

فإذا كانت التربية اليوم مهمة عالمية تقوم بها مؤسسات مختلفة تتعاون من أجلها، و تضع المخططات وفقا لما يناسب تخصص كل جهة (الإعلام، السياسة، التعليم،  ...) فإن من أوجب الواجبات أن يكون التصدي للانحرافات التربوية التي تمرر من خلال هذه المؤسسات، تصديا واعيا، و قويا و لن يكون كذلك إلا إذا سادت قيمة التعاون في المؤسسات التربوية الحاملة لشعار تحصين الأمة، قيمها وعلى رأسها الأسر، و لقد كان طابع الأسر الممتدة كفيلا بمد الناشئ، بحس اجتماعي متميز، فإذا افتقدناه في ظل ذيوع الأسرة النووية كان في الإقبال على إرضاع أبناء الغير،مع استحضار المسؤولية  على ما نقبل عليه – بعض من خير، على رأسه تكثير القدوات بالنسبة للناشئ، الاستفادة من الخير المتنوع الذي تختلف فيه بيئة عن أخرى. فنضمن تنوع مشاربه الثقافية و انفتاحه على خصوصيات مختلفة مادام الدين ضابطا و حكما في هذا الشأن.

5- تحسين النوع البشري :

ذلك أنه ثبت علميا أن الرضاعة الطبيعية تكسب الجنين أجساما مناعية مهمة جدا لحماية جسده و تبعا لذلك عقله و نفسه من الأمراض، و قدأورد د.عبد الدائم الكحيل أنه : " عندما قام العلماء بتحليل حليب الأم لاحظوا وجود مواد لا توجد في الحليب العادي و تختلف من امرأة لأخرى، و عندما يتجرع الطفل هذه المواد يتكون لديه أجسام مناعية بعد عدة رضعات فقط، وهذا يعني أن الطفل الذي رضع من امرأة عدة رضعات فهو يكتسب بعض الصفات الوراثية المناعية من هذه الأم لتصبح بمثابة أم له".

فإذا ثبت ذلك دل على إمكانية اكتساب مناعة إضافية، ثم خصائص و مميزات وراثية يمكن أن تستفيد منها البشرية.

ضوابط و شروط الإقبال على تعدد المرضعات :

أول هذه الضوابط : الإحساس بأن هذه امانة و مسؤولية، تدخل في مقتضى الحديث : "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته"، و المسلم لا يقبل على شيء دون تحمل المسؤولية، و دون وعي بما يجب أن يستحضره من ضوابط شرعية متعلقة بالموضوع. و الحق أن إمكانية تجاذب الإخوة من الرضاع، التي تخيف الناس ترجع إلى عدم القيام بواجب تنشئة الإخوة من الرضاع على مبدأ المحبة الأخوية التي تحاط بالكثير من الرعاية و التعهد حتى تنمو و تترعرع و من وسائل ذلك :

- التنشئة و التربية على الإحساس بالانتماء إلى الأسرة المرضعة، و التذكير بذلك، و توفير فرص اللقاء و الاتصال، و المشاركة في الأفراح و الأحزان، و التعرف على الأهل من الرضاعة.

- التذكير بحدث الإرضاع و إشاعة خبره في الوسط العائلي، و على مسمع من الصغار والتنبيه إلى ما يترتب عنه من حقوق وواجبات، وحمل الصغار على أداء حق أهلهم من الرضاع من زيارة، و سؤال و تفقد.

- إغناء ذاكرة الصغار بما يربطهم بأسرتهم المرضعة و ذلك باعتماد الحكي أو الصور...

وأخيرا إن تعدد المرضعات باب من أبواب إشاعة الخير في المجتمع، والحق أن امتداد الأسرة المسلمة لا يتوقف على الأسوار والبيوت التي تجمعنا، بل امتداد تمنحه النفوس والعقول والقلوب المفتوحة على الآخر والحريصة على التفاعل معه إلى أقصى مدى يمكن أن يكسب الخير للأمة.