ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة

ذكرياتي مع

دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

( الحلقة الأولى )

الإهداء

إلى بنت الإسلام والمنزلة، الشهيدة (الدكتورة/ سحر الفراش).. وإلى ابنتها الشهيدة (منة الله).

وإلى الصابريْنِ المحتسبَيْنِ: رب الأسرة (الأستاذ/ منصور أبو الغيط)، وابنه (محمد).

أهدي هذه الكلمات...

د. جابر

ليست هذه الكلمات تاريخا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط والمغالاة...

مقدمة المؤلف

الإنسان مجموعة من " الأعمال والمواقف، ورجل الدعوة - في إيجاز شديد - "هو ذلك الرجل الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله".

وأعني برجل الدعوة وريث النبي e)) في حمل رسالته، والاضطلاع بها، ونشرها على كل المستويات بما تحمل من مبادئ وقيم تنفع الإنسان في دنياه وأخراه. وميراث النبوة ليس مالاً، ولكنه علم وقيم.

فالماضي الحي هو الركيزة والمنطلق، يعيشه المسلم، وخصوصًا الداعية " في حاضره بقيمه: العقدية، والخلقية، والإنسانية، وينطلق منه لصنع مستقبل حي مشرق وضيء.

وفي كل أولئك، على المسلم أن يفيد وينتفع بكل جديد من معطيات الآخرين، حتى لو كانوا من غير المسلمين، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.

ومعروف أن النبي e)) أخذ فكرة "حفر الخنادق" للتحصن من الفرس عن طريق سلمان الفارسي، وعنهم أخذ عمر بن الخطاب t نظام الدواوين.

ويهب العلمانيون يتهمون الدعاة الرساليين بالتخلف والانغلاق، ويدعون أن الحياة المثلى في الانسلاخ من قيم الماضي، والانفتاح لمعطيات الغرب. إن مثل هذا العلماني الإنكاري – وقد لقبته بأمير العميان – قلت فيه:

يـا  أمير العميان  حسبك iiزورًا
فـلـتـقل  ما تشاء فالحق أبقى
فـلـقد  عشتَ  منْكِرًا  كلَّ iiحقٍّ
غـيـر أنـي أقول قولة iiصدق
تـعـست  أمة تراخت فصارت
يـدعي أنه البشير "بطب" iiقادر،
فـإذا  طـبـهـ  iiخداع..وزور
يـنكر  الأصل  والجذور iiويُبْقِي
وإذا أنـكـر الجذورَ نباتٌ iiمات








قـد تـماديت في هوى iiالتزوير
لست في العير أنت أو في النفير
وجـهـولاً مـتوجًا... iiبالغرور
لا  تـبـالـي بـسلطة أو iiأمير
مـركـبًـا هيِّنا لغِرٍّ...  ضرير
نـاجـح، جـديـد، iiمـثـيـر
يـجعل  السهل ألفَ ألفِ iiعسير
فـي  حِـماهُ الملعون كل iiعقور
فـي لـفْـحَـةِ اللَّظى iiوالهجير

ومن معايشتي لدعوة الإخوان في المنزلة دقهلية - مسقط رأسي - ما يزيد على ستين عامًا، تعلمت الكثير والكثير... تجارب، وعلومًا ومعارف، وتأثرت بتوجيهات أساتذتنا الأجلاء في هذا الحقل العامر النظيف.

وقلت في نفسي: إن عليَّ واجبًا يتلخص في تقديم تجاربي ورؤاي – في منظقة المنزلة –  للجيل الجديد من شباب الإخوان. وأنا المؤمن إيمانًا وثيقًا بأن الداعية هو ذلك الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله.

وهأنذا أقدم صفحات هذه الحياه من جهود الإخوان وجهادهم في منطقة المنزلة دقهلية، مع ملاحظة أن أغلب ما كتبت اعتمدت فيه على الذاكرة، أو ما يسميه بعضهم "الاجترار الذهني"، آملاً في أن يكون ما كتبته فيه النفع لمن يقرأ وخصوصًا الشباب.

والله ولي التوفيق... 

 الأدبي والعلمي

من أربعة وسبعين عامًا ولدت في مدينة المنزلة بأقصى شمال دلتا النيل. وفي مجال التعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن .. ثم تعلم بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى "المرحلة الإلزامية أو الأولية". ثم المرحلة الابتدائية (أربع سنوات), ثم المرحلة الثانوية (خمس سنوات) منها أربع للثقافة العامة، أما السنة الخامسة فهي للتخصص الأدبي أو العلمي.

التحقت بالمرحلة الابتدائية في قرابة العاشرة من عمري، في مدينة المنزلة. وفي مجال التعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن.. ثم تعلمت بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى "المرحلة الإلزامية أو الأولية". ثم المرحلة الابتدائية ( أربع سنوات)، ثم المرحلة الثانوية (خمس سنوات)، منها أربع للثقافة العامة. أما السنة الخامسة فهي للتخصص. وكان بالمدرسة عدد طيب من الأساتذة من الإخوان المسلمين.. منهم عباس عاشور: أستاذ اللغة العربية، وإبراهيم العزبي، أستاذ اللغة الإنجليزية، والمهدي قورة، أستاذ التربية الفنية (الرسم والأشغال)، وكانت بوادر القضية الفلسطينية تلوح في الآفاق المصرية، وذلك في منتصف الأربعينيات، ويتولى الإخوان المسلمون الدعاية للقضية، وعملية الشحن المعنوي. وقد قاد الإخوان مظاهرة في القاهرة بلغت مليونين من المصريين سنة 1947م وخطب فيها الإمام الشهيد قائلا: "إن كان ينقصنا السلاح، فسننتزعه من أعدائنا، ونلقي بهم في قاع البحار".

وقد استطاع الأستاذ إبراهيم العزبي - أستاذ اللغة الإنجليزية - أن يشدنى إلى الإخوان لأكون شبلاً من أشبالهم، مؤمنًا إيمانًا صادقًا بفكرهم، وذلك لما وجدت فيه من أبوة حانية وحسن معاملة، وتشجيع في المجال العلمي، وسنعرف أن شخصيات ومواقف أخرى اشتركت في العوامل التي شدتني للدعوة، سنعرفها فيما بعد.

كانت فلسطين بطوابعها الدينية، وأصالتها التاريخية تهيمن على مشاعرنا من الصغر، وثمة عدد من المواقف مرت بي، والتقيتها في سني الباكرة، منها أن أول ما نظمت من الشعر كان في فلسطين.. والقصيدة طويلة أتذكر منها أبياتًا مطلعها:

فلسطين أمي وحق اليقين                      وحق الشهيد غدًا تسمعين

وقد نشر القصيدة بعد ذلك الأستاذ (علي الغاياتي) - رحمه الله - في صحيفة منبر الشرق. وتأخذني الحماسة وأنا تلميذ في أواخر المرحلة الابتدائية، وأتحدث إلى أستاذنا (عبد الرحمن جبر) - رئيس منطقة الإخوان في المنزلة بمحافظة الدقهلية, وكان الإخوان قد بدءوا في التطوع للجهاد في فلسطين.

قلت له: أريد أن أتطوع لأداء ضريبة الجهاد، وإنقاذ فلسطين، فقال : لكنك صغير السن.. فأنت لا تتعدى الثالثة عشرة من عمرك، قلت: لكني أعلم أن من الأطفال من قاتل في "بدر" مثل: (ابني عفراء).

كان الأستاذ عبد الرحمن يعرف أنني وحيد والدي، فابتسم وقال: إن شاء الله قد نحتاجك مستقبلاً, فنطلب منك التطوع والتقدم للجهاد.

قلت : أرجوك.. فاليوم خير من غد.. اسمحوا لي بالتطوع، ولو جعلتم مهمتي أن أقدم للمجاهدين "الشاي والقهوة".

فقال وهو يبتسم: مستحيل، فعندهم أمر بعدم التدخين وشرب الشاي والقهوة. وبت في ليلتها وأنا في بكاء متواصل، وأذكر أن  مدرستنا – وكنا في آخر المرحلة الابتدائية - قامت برحلة إلى معالم القاهرة، ومن ضمن هذه المعالم "المتحف الزراعي" تقدم منا أحد "السعاة" المسؤولين عن قسم من أقسام المتحف، وقدم إلينا نفسه دون أن نطلب منه ذلك: أخوكم عبد السميع قنديل، من إخوان إمبابة وقد تطوعت للجهاد في فلسطين، وإن شاء الله سيكون اسمي في أول قائمة من قوائم الشهداء.. وحقق الله ما تمنى، وقرأت اسمه في أول قائمة من قوائم شهداء الإخوان في فلسطين. إنه حديث ذو شجون، أوردته عفو الخاطر، من قبيل التذكرة حتى يبقى الارتباط النفسي بيننا وبين فلسطين والمسجد الأقصى، أرضًا وتراثًا حيًا لا يموت.

وإنصافًا للحقيقة التاريخية، أعرض على القارئ ما علمته بعد ذلك، وخلاصته أنه اختلف مع شقيقه عبد المنعم اختلافًا شديدًا: كل منهما مصر على التطوع للجهاد في سبيل فلسطين، وأبوهما شيخ كبير. وأمام إصرارهما أجاز الأب تطوعهما.. وجاهدا في الله حق جهاده. واستشهد عبد السميع، وعاد عبد المنعم.. بعد تآمر حكامنا، والقبض على الإخوان المجاهدين، وعاش عبد المنعم بعدها سنوات صاحبًا ومديرًا لمحل "ساعاتي بورسعيد" بميدان الدقي بالجيزة.

وهذه الواقعة - على بساطتها - إنما تدل دلالة صادقة على عمق التمسك بدعوة الإخوان، وصدق الاعتقاد دون توانٍ، أو خلل. ولنبدأ الطريق من أوله بالتعرف - على سبيل الإجمال - على بعض الخطوط التاريخية والواقعية في مدينة المنزلة (مسقط رأسي).

المنزلة أحد مراكز محافظة الدقهلية الإدارية، وتقع في الشمال الشرقي من مصر، وقد سميت من قبل مدينة تنيس وهي كلمة هيروغليفية تعني صناعة الحرير، حيث اشتهرت هذه المدينة قديمًا بصناعة الحرير الطبيعي، أما سبب تسميتها بالمنزلة فتذكر بعض المصادر التاريخية أن ذلك يرجع إلى كتاب عمرو بن العاص الذي رد فيه على رسالة القعقاع بن عمرو التميمي، والذي أخبره فيه أنه نزل في هذه المنطقة بعد أن فتح أحد حصون الرومان، فقال له عمرو: بارك الله في منزلتك يا قعقاع، فسميت بالمنزلة.

والمنزلة عبارة عن بيئة تجمع بين سمات الريف والحضر، وبها بحيرة معروفة ومشهورة هي بحيرة المنزلة. وتتميز بحيرة المنزلة بانتشار مجموعة من الجزر، أهمها: جزيرة ابن سلام، وتضم ضريح الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، حيث يفد إليها أعداد كبيرة من الزائرين، كما تتميز البحيرة بغناها بالثروة السمكية والطيور المهاجرة إليها من مختلف الأنواع، ويتم الآن دراسة استغلالها سياحيًّا. وتحمل مدينة المنزلة كل السمات البشرية والثقافية والعمرانية للمراكز الإدارية التابعة لمحافظات الوجه البحري (دلتا مصر).

وللمنزلة تاريخٌ مجيد في مقاومة كل صنوف الاستعمار

وكان لهذه البلدة شأن وخطر لما امتد في أنحائها من أسباب الثورة، ولظهور جماعة من زعماء الأهالي يحرضون الناس على مقاومة الفرنسيين، وقد برز من بينهم في تقارير القواد الفرنسيين اسم "حسن طوبار" شيخ بلدة المنزلة كزعيم للمحرضين وخصم عنيد لا يستهان به، ومدبر لحركات المقاومة في هذه الجهات. وكان "حسن طوبار" زعيمًا لإقليم المنزلة الذي سبب متاعب كثيرة للفرنسيين.. كتب ريبو يصف سكان هذه الجهات بقوله: "إن مديرية المنصورة التي كانت مسرحًا للاضطرابات، تتصل ببحيرة المنزلة، وهى بحيرة كبيرة تقع بين دمياط وبيلوز القديمة، والجهات المجاورة لهذه البحيرة وكذلك الجزر التي يسكنها قوم أشداء ذوو نخوة، ولهم جلد وصبر، وهم أشد بأسًا وقوة من سائر المصريين".

بدأت الحملة تتحرك على البحر الصغير من المنصورة يوم 16 من سبتمبر 1798م بقيادة الجنرال (داماس ووستنج) اللذين أنقذهما الجنرال دوجا، وقد زودهما بالتعليمات التي يجب اتباعها، وفى هذه التعليمات صورة حيه لحالة البلاد النفسية ومكانة الشيخ "حسن طوبار".

تحرك الجنرال على رأس الجنود الفرنسيين، وساروا بالبحر الصغير على ظهر السفن، فأرسوا ليلاً على مقربة من (منية محلة دمنة)، وشعر أهالي المنية باقتراب الحملة فأخلوا بلدتهم، وكذلك كان الوضع في القباب الكبرى، وقد كلف الجنرال داماس مشايخ بعض القرى المجاورة أن يبلغوا أهالي القريتين أن يعودوا، فإن القوة لن تنالهم بشر إذا دفعوا الضرائب المفروضة عليهم. وهناك افترق القائدان، فرجع الجنرال "وسنتج" إلى المنصورة، ومضى داماس إلى المنزلة لإخضاعها ومعه من الجنود أكثر من ثلاث مئة جندي بأسلحتهم وذخيرتهم، غير أن الجنرال "دوجا" وجد أن هذا العدد من الجند ليس في مقدوره القضاء على مقاومة المنزلة؛ مما دفعه إلى أن يطلب المدد من داماس، وبعد محاولات عدة فاشلة فشل الفرنسيون في اقتحام البلدة العنيدة لتظل المنزلة فيما بعد في ذاكرة قادة الحملة الفرنسية، وقد ذُكرت المنزلة في كثير من مذكراتهم مقترنة باسم حسن طوبار هذا المجاهد العظيم.

أثناء العدوان الإسرائيلي على مصر (سنة 1956م):

بعد العدوان الإسرائيلي على مصر، ومع امتلاكه سلاح جو رفيع المستوى، أصبحت مدن مصر في مهب قذائف العدو، ولاسيما المدن المتاخمة على شاطىء قناة السويس، ومنها محافظات السويس والإسماعيلية وبورسعيد.

لذلك؛ عمل معظم أهل  هذه المحافظات وساكنوها على الهروب منها، واللجوء إلى إحدى المدن القريبة نسبيًّا من هذه المحافظات، وأن تكون بعيدة وبمنأى عن قذائف العدو.

وكانت مدينة المنزلة هي أنسب هذه المدن لذلك؛ لما عرف عن أهلها من الكرم وسعة الصدر، وقد استقبل أهل المنزلة اللاجئين، أو كما كان يطلق عليهم حين ذاك (المهاجرون)، وقد عمل أغلب هؤلاء المهاجرين في الأعمال والحرف التى تشتهر بها المنزلة، مثل: الزراعة، وصناعة الأدوات الخشبية والأثاث، والصيد، وذلك سهَّل عليهم انخراطهم في مجتمع المنزلة قبل أن تنتهى الحرب ويعود كل منهم إلى الديار.

وللحديث بقية .

ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة

( الحلقة الثانية )

المنزلة ودعوة الإخوان

كانت مدينة المنزلة من أسرع المدن استجابة للإمام الشهيد، عند بداية نشوء الدعوة، كما كان لشعبة المنزلة نشاط كبير جدًّا في مقاومة حركة التنصير. وقد كتب الإمام الشهيد عن ذلك في مذكراته مما يطول شرحه لو أردنا تتبعه.

كيف كانت بدايتي مع الإخوان:

من الذكريات ما يطويه الزمن، ويسدل عليه ستائر النسيان إلى غير رجعة.

ومن الذكريات ما يطوف بالإنسان في فترات متباعدة من حياته، ولكن في صورة شبحية غائمة، لا تثير في النفس من المشاعر إلا هوامشها الطافية، ومساحاتها السطحية.

ومن الذكريات ما يتغلغل في نفس الإنسان حتى تشربه روحه، وتغدو هذه الذكريات كأنها عضو حي من أعضائه، بل أشدها وأقواها نبضًا وحياة.

أقول هذا بعد مضي ما يزيد على ستين عامًا على واقع عظيم لذيذ.. عشته لساعات، وأنا تلميذ بالمرحلة الابتدائية، وذلك في مدينة "المنزلة" - بلدي ومسقط رأسي –  وهى تبعد عن القاهرة بقرابة مئة وخمسين ميلاً.

أنا رأيتهم.. عايشتهم..

كان ذلك في شارع (البحر المردوم) - أوسع شوارع "المنزلة" وأطولها - فبعد صلاة الظهر - في يوم شديد الحرارة - رأيت مسيرة من خمس مئة رجل على الأقل، ما بين شاب في العشرين، وشيخ جاوز الخمسين.. أزياؤهم واحدة: لونها "كاكي"؛ والزي الواحد يتكون من "بنطلون" قصير "شورت"، وجورب طويل، وقميص، وطربوش، ومنديل أخضر كبير يلف على العنق، ويرخى قرابة نصفه على منطقة التقاء العنق بالظهر على شكل مثلث، ويتدلى طرفاه على الصدر محبوسين بحابس من الجلد.

عرفت بعد ذلك أن هذا الزي يسمى "زي الجوالة"، وأن هؤلاء جميعًا - من شباب وكهول وشيوخ - اسمهم "جوالة الإخوان المسلمين"، وأنهم جميعًا من أهل "المنزلة" والقرى التي تحيط بها، وقد جمعت هذه المسيرة الموحدة الزي فلاحين وعمالاً وأطباء ومدرسين ووعاظًا وتجارًا.

ياه!! أنا لم أشهد مثل هذه المسيرة من قبل، لا في الواقع، ولا في الخيال والأحلام.. صدقوني..

رأيتهم يسيرون على دقات طبول منتظمة، تتخللها أصوات قوية نفاذة من "النفير" أو "البروجي"، وكان النافخون في هذه "الآلة النحاسية" لا يقلون عن أربعين جوالاً موزعين على ثلاث مجموعات: في المقدمة والوسط والمؤخرة، ومن عجب أن النافخين كانوا ينفخون كل مرة قرابة خمس دقائق دون نشاز، ودون أن يسبق نافخ زميله، أو يتأخر عنه للحظة واحدة على تباعد أماكنهم.

ثم يصدر الأمر من قائد المسيرة الأستاذ (محمد قاسم صقر) - رحمه الله - بالتوقف ليهتف كل من في المسيرة وراء حامل المصحف الكبير: "الله أكبر ولله الحمد"، "الله غايتنا، والقرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".

وفي نهاية الشارع الطويل، تطول وقفة المسيرة بأمر القائد لعشر دقائق، ليكون بعد الهتاف السابق نشيد ما زلت أذكر مطلعه وكلماته:

هو الحق يحشد أجنادَهُ                 ويعتَدُّ للموقفِ الفاصلِ

فصفُّوا الكتائبَ آسادَهُ          ودكوا به دولةَ الباطلِ

سبحان الله! ما شاء الله! من علم هؤلاء - الذين أراهم لأول مرة - كل هذه الآداب، الطاعة، والنظام، والإنشاد، والانضباط، وكلهم على قدم المساواة، استجابة، وتنفيذًا مع اختلاف ثقافاتهم، وأنماطهم الفكرية، ومراكزهم الاجتماعية، بل إن كثيرين منهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة؟

وأراني أربط ربطًا قويًا بين هذه الخاطرة، وحقيقة تاريخية قرأتها بعد ذلك بسنوات، وخلاصتها أن "رستم" - قائد جيوش الفرس - كان إذا سمع تكبير المسلمين للصلاة في خط المواجهة الفارسي بكى، واستبد به الحزن، وصرخ: "أكل عمر بن الخطاب كبدي"، أي: قتلني عمر، فيسأله من بحضرته: كيف أكل كبدك وأنت حي بيننا؟ فيجيب: "لأنه يعلم هؤلاء الأعراب الآداب".

وأعود لخاطرتي، وأقول: بمثل هذه "الآداب" استطاع أصحاب هذه "المسيرة الإسلامية" أن يأكلوا أكباد اليهود في فلسطين أواخر الأربعينيات، ويأكلوا أكباد الإنجليز في خط قناة السويس أوائل الخمسينيات.

وأعود إلى "المسيرة الإخوانية" في مدينتي "المنزلة" وأراني - أنا ابن العاشرة - أكاد أطير من الفرح.. إنهم يسيرون، وخطواتي الضيقة لا تتمكن من مسايرة خطواتهم الواسعة إلا بشيء من الجري بين الفينة والفينة، وكأنني أخشى أن يتخطوا مجال رؤيتي، فيقفز قلبي من بين جنبي، ويواصل المسيرة المنتظمة معهم، ويحثني أن أغَذِّ السير، حتى أدركهم، ويسكن صدري من جديد.. ومع فرحي الغامر، كان شيء من الحزن يخامرني؛ مخافة أن ينتهي العرض الحلو الجليل.

ياه!! ليته يستمر ساعات.. بل أيامًا متواصلة.. إن تيار الشعور المتدفق في نفسي لم تستطع ولن تستطيع اللغة أن تعبر عنه بكماله، إنها حقيقة أؤكدها بصدق وأمانة، وأستحضرها، وأنا أقرأ فيما بعد قول أبي تمام في حديثه عن فتح عمورية على يد المعتصم:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخُطَبِ

 فمن المواقف والمشاعر ما يكون له من الأبعاد والدلالات والإشعاعات والظلال ما تعجز اللغة - أية لغة - عن الإحاطة بكل أقطاره.

ولكن ما شأن هذا "العرض" أو هذه المسيرة؟ ولماذا خرجت ظهر هذا اليوم بالذات؟

وأسأل "عم مسعد" الخضراتي صديق والدي، فيأتيني جوابه:

- "دول رجالة الشيخ حسن البنا؛ لأنه سيحضر الليلة، ويخطب في الصوان (السرادق) الكبير.. راجل فصيح قوي.. سمعته مرة في بورسعيد و.. و..".

- حسن البنا! حسن البنا! إنه اسم لم أسمع به من قبل.

ورأيت المرشد الجليل

وبعد صلاة العشاء كنت أنا ووالدي نأخذ مكانينا في السرادق الكبير، أما "جوالة" الظهيرة، فقد انتشروا داخل السرادق، وخارجه لإقرار النظام. وبعد نصف ساعة ارتج المكان بالهتاف: "الله أكبر ولله الحمد". الله أكبر ولله الحمد. لقد حضر المرشد. رأيته وعلى فمه ابتسامة عريضة، وهو يشق طريقه إلى المنصة بين صفين من الجوالة على هيئة "كردون" وهم متشابكو الأيدي، واستطاعوا بصعوبة بالغة أن يمنعوا - بظهورهم - تدفق الجمهور المتدافع من الجانبين لمصافحة المرشد العظيم.

وعلى مدى ثلاث ساعات، كان الناس يستمعون إليه كأن على رءوسهم الطير، لقد سمعته يقدم لونًا جديدًا من الكلام.. كلامًا يختلف تمامًا عما نسمعه في خطب الجمعة، واحتفالات المولد النبوي، ومن المشهور عن بلدي (المنزلة) أنها بلد الصيد والبِحارة (نقل الركاب والبضائع بالسفن الشراعية في بحيرة المنزلة) انطلق حسن البنا في حديثه فشبه الأمة بسفينة: جسمها الشعْب وشراعها الإيمان ودفتها الحكومة، وقد تعوزني الدقة في هذا التجزيء التشبيهي.. ولكن الذي أذكره - وقد مضى أكثر من ستين عامًا على ما سمعت - أن السفينة كانت مشبهًا به، وأنه - رحمه الله - دخل نفوس الناس من الدقائق الأولى، وهو يشرح مقولته مكثرًا من الاستشهاد بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، ووقائع من السيرة النبوية وحياة السلف الصالح.

كنت - على صغر سني - أفهم، بل أعيش، كل كلمة يقولها الرجل العظيم، ولكن الأهم من ذلك، هو إحساسي القوي - وأنا مأخوذ بما يقول - بأنه يوجه نظراته وكلماته إليَّ دون غيري. وأخفيت هذا الخاطر عن والدي إلى أن سمعته يقول لأحد جيراننا في اليوم التالي: "لقد شدني الشيخ - الله يكرمه - كنت أشعر أنه يخصني بنظراته وبهذا الكلام الجميل ...". وسمعت الكلام نفسه يقوله الرجل لأبي: بل كان ينظر إلي أنا.. لا لأحد آخر.

فآمنت بأن الرجل قد بلغ مقامًا من "البلاغة الإيمانية" لا يرقى إلى مثله إلا أقل الأقلين على مدار التاريخ الإنساني كله.

والبلاغة اللغوية تتمثل في "الأسلوب الراقي، فيقال: "رجل بليغ" أي: حقق مقتضيات البلاغة، وقد عرفها بعضهم بأنها "صياغة المعاني الجليلة بعبارات صحيحة، فصيحة الألفاظ، تمتاز بقوة التأثير في النفس، مراعية حال المخاطبين والمناسبة التي قيلت فيها". وقد تستعمل "الفصاحة" كمرادف لها. وإن عرفها بعضهم "بأن تكون كل لفظة في الكلام مبينة المعنى، مفهومة، عذبة، سلسة، متماشية مع القواعد الصرفية.

وهناك آليات لتحقيق هذه  البلاغة، منها الصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية.. إلخ. وهذه الآليات حسية، ومعاييرها محددة معروفة.

أما البلاغة الإيمانية، فصفة نفسية روحية تعني القدرة الفائقة للمتكلم على التأثير.

ومن الصعب جدًّا تعريفها تعريفًا محددًا. وإن أمكن التعرف إليها وعليها بصورة مقاربة للواقع: فهي صفة نفسية روحية تعني القدرة الفائقة للمتكلم على التأثير فى المستمعين. وتوجيه هذا التأثير الوجهة التي يحرص عليها المتكلم، كأن بينه وبين السامعين "وَصْلات" لاسلكية غير مرئية. وهذه البلاغة تحقق أهدافها تلقائيًا في صورة بريئة من الافتعال والتعسف.

وللحديث صلة .