سفينة تغرق

لماذا يهاجر المواطن العربي؟

خالص جلبي

[email protected]

قال لي (عزيز) من (أحفير) أن أخاه شحن في قلب باص حتى يصل باريس، فخر مغشيا ووصل نصف ميت! فلما أفاق قال الحمد لله على مدينة النور والحريات!

أما سيدي محمد من (مركز أحد أولاد أزباير) فقد ركب قوارب الموت إلى بلد الفونسو السادس عشر، وبقي مختفيا عدة سنوات، حتى منّ الله عليه بالأوراق (كذا؟) فأصبح مقيما في الاتحاد الأوربي، يحمد الله على الأمن والرزق والكرامة.

إن قصص النزيف والهروب الكبير من ديار الإسلام إلى الكفر (كذا؟) تراجيديا كاملة، وأنا شخصيا قلدت إبراهيم أبو المهاجرين فقلت؛ إني مهاجر إلى ربي، وهكذا غادرت بلاد البعث إلى يوم البعث.

وأذكر ذلك اليوم المجيد حين دخلت قاعة القسم لأخذ الجنسية!!

كانت القاضية الكندية تنطق بكلمات واضحة بطيئة تكررها باللغتين الفرنسية والانكليزية:

أيها السيدات والسادة نحن نعلم الرحلة الصعبة التي قطعتم، والأوطان الغالية التي فارقتم، طمعاً بمصير أفضل لتستقروا في هذا البلد الرائع.

أيها الناس نحن فخورون بهذا الاستقطاب لثمانين إنسان ينتمون الى ما يزيد عن ثلاثين جنسية؟

تابعت: دخلتم هذه القاعة مهاجرين، وتخرجون منها مواطنين مثلي لا أتميز عنكم بشيء.

الحق أقول لكم ادخلوا هذا البلد بسلام آمنين، واعتنقوا الدين الذي به تؤمنون، وتنقلوا واعملوا في أي مكان تحبون، وادخلوه وغادروه في اللحظة التي ترغبون، تعلموا قول الحق والعمل به، وفي ذلك لومة لائم لاتخشون.

علموا أولادكم ذلك، وعلى محاربة كل ألوان التمييز العنصري والجنسي كونوا حريصين.

في النهاية ختمت القاضية خطبتها:

والآن قوموا فليسلم بعضكم على بعض؛ فقد أصبحتم بنعمة الله إخوانا. عندها لم يتمالك معظم من في القاعة عن إمساك دموعهم، مبللة بذكريات مؤلمة من دول الخوف والبطالة والحبوس والفلق.

وقل أعوذ برب الفلق.  

كان أكثر الباكين شهيق عائلة فلسطينية، ملأت مآقيها الدموع! واحمرت منها الأحداق.

 كانت الخطبة تذكر ببيعة الصحابة لرسول الله ص ؟! ...

هذا الكلام ليس دعاية للهجرة إليها، فكندا في غنى عنها، والناس يهرعون إليها من مشارق الأرض والمغارب، بأشد من جذب المغناطيس لبرادة الحديد بين قطبين جذب وطرد: يأس من وطن لم يبق فيه مكان للمواطنة، وأمل بوضع القدم في أرض الميعاد، يسبحون في تيار أطلنطي على ظهر مركب من ذهب، لينعموا ببلد يجمع بين سحر الطبيعة والنظام وكل الضمانات، تحتل فيه كندا الرقم واحد في العالم حسب إحصائيات الأمم المتحدة، على الرغم من برده الزمهرير، في درجة حرارة قد تصل شتاء الى 63 تحت الصفر في يوكوتان ومانيتوبا، وهكذا الحضارة كما نرى لا تعرف الجغرافيا! والتخلف يضرب حيث كان الأجداد يفخرون بلسان الضاد الذي لا يجمعنا.

لماذا يغادر الكندي بلده ويعود إليه في أي وقت يشاء وبدون تأشيرة؟

إن هذا يعود الى مرسوم (الحريات والحقوق) التي تسلم باليد كأول وثيقة مع تهنئته على الجنسية، تتضمن حقه أن يغادر بلده كما يحلو له؛ فالوطن بيته، ومتى يسأل الانسان وممن يأخذ إذناً بمغادرة بيته أو الإيواء إليه؟

أما الحدود العربية فقد تحولت الى أسوار شاهقة، لسجون كبيرة، تطل منها سحنة موظف عابس كاره لعمله، تحتجز مواطناً مسكيناً ويتيماً وأسيراً؟ لدول تئن تحت العجز المالي، ميزانيتها بيد عصابات من المافيات، تمد يدها الى آخر قرش من جيب مواطن مفلس!

فمن أصل 22 دولة عربية يتراجع النمو في 17 منها، في وقت يتضاعف فيه السكان مرتين، حسب كتاب (فخ العولمة) في مطلع ألفية لا مكان فيه للعرب، حسب شهادة المؤرخ الأمريكي (باول كينيدي) في كتابه (الاستعداد لدخول القرن الواحد والعشرين) ..

إنها أجراس إنذار مفزعة لأناس فقدوا حاسة السمع ؟

ما معنى تسرب الكفاءات وهرب رؤوس الأموال ونزيف الأدمغة وصدور أفضل الكتب والمجلات تطبع بالحرف العربي في مكان لا يوجد فيها ناطق واحد باللسان العربي؟!

إنها رواية بائسة عن وطن بلا دماغ! فهل يمكن لكائن ممسوخ من هذا النوع أن يعيش في وطن تحول إلى مقبرة، يعس فيها نباش قبور، وهوام تدب في جثث متعفنة؟

يقول المثل القوقازي: من يفقد وطنه يفقد كل شيء، مثل جنين بدون حبل سري ومشيمة ثقافية، يمشي  فوق أرض بدون جاذبية، مكباًً على وجهه، فقد التوازن الخلاَّق، في وطن يرجع إلى الخلف، ومواطن يمشي على رأسه بدون أن يشعر بالدوار؟

إن من يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معا!

إنها ورطة من نوع محير فلم يعد الشرق يعجبه،  ولا الغرب يسعده، فهو  يعيش نفسياً في الأرض التي لا اسم لها؟      

ما معنى تدفق المهاجرين العرب الى كل أصقاع الأرض يشكلون 10% من سكان مونتريال في كندا وهم لا يعلمون؟ يحلمون بجنة أرضية جديدة، بعد أن غادروا وطن تحول فيه بعضهم لبعض عدو، بلجوء جوع الى السويد وألمانيا، أو استعداد الفتاة للقفز مع أي رجل إلى المجهول، هرباً من بلاد الجوع والبطالة، وجمهوريات الخوف والمخابرات، أو شراء جوازات سفر من الدومينيكان والأرجنتين، بعشرات الآلاف من الدولارات بدون تواجد، في تحصيل جنسيات لعائلاتهم يأمنون بها على أنفسهم في الشرق المنكود؛ لعلها تنفع يوماً إذا زلزلت الأرض زلزالها؟

لو فتحت السفارة الكندية أبوابها لهجرة مفتوحة بدون شروط في أي عاصمة عربية لزحف إليها كل إنسان بين 16 والـ 60 عاماً، كأنهم جراد منتشر مهطعين الى الداع يقولون هذه فرصة لا تفوت؟ في فرار من سفينة تهوي في رحلة موجعة الى قاع المحيط بأسرع من غرق التيتانيك؟

المواطن العربي لا يتمتع اليوم بأي حصانة، بما فيها الحاكم على رأس الهرم الاجتماعي، فلا ضمانة لأي إنسان أو شيء في أي مكان أو زمان، بدون أمل في معرفة الاتجاهات، معرضاً لهجوم أي حيوان ضاري، في غابة تتشابك فيها الأكواع، تحكمه عائلات إقطاعية مسلحة، في وطن تفوح منه رائحة القلة والذلة والفوضى، في إحساس بالدوار، ويتنفس فيه الانسان مع جزيئات الهواء جزيئات رجال الأمن، عن اليمين والشمال قعيد،  يحصون دبيب كل نملة، وطنين كل نحلة، ولا تأخذهم سنة ولا نوم! 

مواطن بلا وطن، ليس عنده قوت يومه، غير آمنٍ على عياله، لا يعرف ماذا يحمل له المستقبل الأسود من هموم، خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا، يعيش ثقافة ميتة ودعت نبض الحياة، يعيش كي لا يعيش، لا يمر يوم إلا والذي بعده شر منه، في رحلة تردي لا تعرف التوقف، في حجم مشاكل أكبر من التطويق فوق مستوى من بيده القرار والحل، يتخرج فيه الطالب الجامعي بدون أمل في مرتب يوفر له سقفاً يظله، أو يمنحه إمكانية بناء عائلة ينجب فيها أطفالاً سعداء يثقون بأنفسهم وبالحياة، في مجتمع يمشي باتجاه كارثة محققة!!

لقد أصبح وضعنا مهزلةً للعالمين، في حجم النكتة بدون أن يضحك أحد. أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون؟

لقد عاش جيلنا كلاً من الوهم القومي الثوري وحمى الحركات الإسلامية وانتهى الى إفلاس الاثنين، في مؤشرات حادة أن حالة المريض تزداد سوءاً واختلاطاً، بدون دلائل انفراج في الأزمة، لينشأ جيل (الصدمة) أخطر ما فيه شعوره أن العلم لا قيمة له، ولا يدفع مسغبة الجوع، في وقت تدفع فيه أرحام الجامعات شباباً عاطلين الى شوارع مكتظة بالفقراء.

ليس غريباً أن ينشأ تيار أشد من المكنسة الكهربية، يشفط كل العقول والأموال، في تيار أطلسي أقوى من ظاهرة النينو، باتجاه ديمقراطيات تضخ أكسجين الحياة، وتوديع ثقافة استبداد، تعيش عصر بيعة الخليفة العباسي، الواثق بالله، أن يركب رقبة شعب ولد أخرساً يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً؟

من يستطيع الهرب من الأوضاع يبحث عن الخلاص الفردي، بين ركاب سفينة يتخاطفون أطواق النجاة، يلقي أحدهم بنفسه في اليم وهو مليم، فإن لم يهلك هو ماتت ذراريه في بطن الحوت الرأسمالي ما لم يكن من قوم يونس، أو غرق في لجج ثقافة غربية تضرب سفينتنا الغارقة بموج كالجبال.

يبدو أنه ليس أمامنا للنجاة في طوفان الحداثة إلا الانطلاق بمشروع بناء سفينة نوح من الفكر جديدة؟ ولكن المشكلة ببساطة أن نوح لا يعيش بين ظهرانينا؟ ونواجه مشاكلنا بخطب وأدعية من العصر المملوكي ودول الطوائف والموحدين، وعقولنا مبرمجة في متاهات فئران التجربة في قبضة مسلمات لا فكاك منها، نحتاج الى ولادة جديدة من رحم امرأة عجوز عقيم في انتظار استنساخ أسطوري.

لقد تحول الوطن في أحسن أحواله في عين المهاجر الى وقت قصير للاستجمام، للتمتع بطقس جميل لا فضل فيه للجهد البشري، واستعادة ذكريات الطفولة، يعيش الفرد أجمل لحظاته في الطائرة الى الوطن وعند الخروج منه، عندما يكتشف بمرارة أنه لا يستحق أكثر من إجازة فلقد كان فيما سبق وطناً، قد يتمنى أن يدفن فيه ولكن لا أن يعيش فيه بحال؟

هذا لمن استطاع الفرار، أما من كتب عليه البلاء والشقاء؛ فحكمه حكم الطاعون إذا دخل بلد؛ فلا يخرج منه إلا جثة للآخرة!!

اجتمعت بعائلة مهاجرة كندية أنفقت عليهما حكومتهما بسخاء، ورجعا بأعظم شهادة جامعية من باريس، فلما رجعا الى الوطن كانت المفاجأة  أكبر من الصاعقة؛ فغادرا البلد بعد عدة سنوات في حالة ذهول، قد تبخرت من رؤوسهم الأحلام الوردية، وتركا خلفهما الشهادات الكبيرة للوطن؛ فهما يتكسبان عيشهما اليوم في مدينة مونتريال في محل لبيع ملابس الأطفال، في شهادة صاعقة عن مصير العلم في الوطن العربي الكبير.