سنة التدافع وعوامل النصر
عمر حيمري
(1) يتبع
التدافع في اللغة كما جاء في لسان العرب هو المزاحمة والإزالة بالقوة ، فتدافع القوم هو دفع بعضهم البعض .
وفي القرآن الكريم يدل التدافع على الاختلاف والصراع والنزاع والخصومة والمواجهة المسلحة بين قوى كافرة وآخرة مؤمنة ، بين الحق ، والباطل ، بين الظلم والعدل وهو سنة من سنن الحياة التي أرادها الله ليحق الحق ويبطل الباطل .
أما في علم الاجتماع ، فالتدافع هو النزاع الذي يرتبط بثنائية التناقض: الاندماج مقابل القطيعة ، والإجماع مقابل الاختلاف والشقاق ، والتغير مقابل الثبات ، وهو شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي المستمر ،الذي لا يتوقف .
وفي المتداول اليومي ، التدافع هو المزاحمة بالمناكب والأكتاف والتضييق على الغير ومحاولة زحزحته وبعاده عن موقعه بالدفع والجر ، بهدف احتلال مكانه بالقوة أو بهدف السبق أو الحصول على منفعة ما وغالبا هذا النوع من التدافع لا يصل إلى درجة الاقتتال .
أما الاقتتال فهو المجابهة والصراع العنيف والتناحر والتحارب مع الحرس والتربص بالطرف الآخر لقتله وإفنائه. والاقتتال وسفك الدماء ، هو غريزة بشرية ، جبل عليها الإنسان . وهو ما تساءلت عنه الملائكة تساؤل اندهاش وتعجب ، لا تساؤل احتجاج أو اعتراض ، إذ قالت : [ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ ] ( سورة البقرة آية ) .
ولكن الذي لا تعلمه الملائكة أن هذا الإنسان ، الذي تتعجب عن الحكمة من وراء إيجاده وخلقه ، وهو المحب للفساد والعطشان لسفك الدماء ، يكره القتال والموت ويحرص على الحياة مع علمه علم اليقين ، أنه مخلوق للموت ومشروع لها [ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ] ( سورة الرحمن آية 26-27 ) ، [ إنك ميت وإنهم ميتون ] ( سورة الزمر آية 30 ).
فالله سبحانه وتعالى قدر وكتب على الإنسان التدافع والاقتتال ، وهو يعلم أنه يكرهه [ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ] ( سورة البقرة آية 216 ) . لأن نواميس الحياة ، وضمان استمرارها وعمارتها واستقرارها واستقامتها ، يقتضي ضرورة القتال ، والاقتتال ، وإلا فسدت الأرض وهلك من عليها ، وذلك بسبب الصراع بين الحق والباطل ، وبسبب بغي أهل الأرض بعضهم على بعض ، هذا البغي والظلم والفساد يحتاج إلى ردع ، ورد ، وتدافع ، وإلا أصبحت الأرض خرابا ، غير صالحة للعمارة ، ولا للعيش ، وقد يتعرض النوع البشري والحيواني بل البيئي إلى الانقراض ، وتختفي الحياة من على وجه الأرض ، وتتعطل نواميسها ، والقوانين القائمة عليها . وهذه حقيقة يؤكدها لنا القرآن الكريم [ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على الناس ] سورة البقرة آية 251) .
إن سنة التدافع ، هي نتيجة حتمية لما تقتضيه الإرادة الإلهية ، من اختلاف البشر، وصراعهم الديني والفكري الفلسفي والسياسي الإيديولوجي والاقتصادي ...هذا الصراع، هو سنة الحياة وناموسها الذي بدونه لا تكون هناك حياة ، فهو شرط وعامل أساسي للتغيير، والتجديد، والتطور، والتقدم، والتحول، الذي بدونه لا يمكن أن تستمر الحياة ولا يتجدد ماؤها ، بل يصيبها الهرم والشيخوخة، ثم الموت والفناء بسبب الثبات وعدم الحركة . يقول ابن خلدون : ( التنازع عنصر أساسي من عناصر الطبيعة البشرية . فكل إنسان يحب الرئاسة وهو لا يتردد عن التنازع والتنافس إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك . ) ويقول جان بول سارتر فيلسوف الوجودية : ( إن التنازع هو جوهر العلاقات الإنسانية ) .
إن الخلاف والصراع أمر لا مفر منه في هذه الحياة الدنيا ، وهو ما أخبرنا عنه الحق سبحانه وتعالى في قوله : [ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ] ( سورة هود آية 118 – 119 ) .
فالتدافع والصراع إذن هو قانون ضروري ، لإصلاح ما يفسده المفسدون على مستوى العقيدة والشريعة والفكر والأخلاق ، وما يحدثونه من تغييرات سلبية تمس جوهر المجتمع وعمقه على مستوى العرف والعادة والقيم ... إن مسؤولية التدافع بهدف الإصلاح تقع على المؤمنين ، مضطرين لا مختارين ، فهم المكلفون شرعا والمعنيون بالدرجة الأولى بالدفاع والذود عن حمى الله ومحارمه ودحض أباطيل المشركين وكسر حجج الكفار والمنافقين ودفع باطل المبطلين ، مضحين بأرواحهم وأموالهم ابتغاء وجه الله وإن لم يفعلوا فما استجابوا لله وللرسول وما أطاعوا أمر ربهم [ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ] ( سورة الأنفال آية 24 ) { قال بعضهم الاستجابة هنا لدعوة الإيمان لأن الكفر موت ، وقال قتادة هو الاستجابة للقرآن . وقال مجاهد المقصود هو الاستجابة للحق . أما ابن إسحاق فيرى أن الاستجابة في هذه الآية تتعلق بالجهاد لقول : هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل } . ولولا سنة التدافع هذه ، لأهلك الله الأرض ومن عليها [ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ] ( سورة الفتح آية 25 ) وهذا ما تؤكده أيضا الآية الكريمة [ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ] ( سورة البقرة آية 253 ) .
إن الله شرع التدافع والقتال، و لم يشرعه ( يتبع )