سلسلة المعرفة
سلسلة المعرفة
الحلقة الثانية
مفهوم العبادة
د. محمد سعيد التركي
إن العبادة بصورتها الشمولية تعني الإتباع، أي أن إتباع أوامر الله وإجتناب نواهيه كاملة، والإقرار بصلاحيتها دون غيرها من الأوامر والنواهي، هي عبادته وحده سبحانه وتعالى، ومن وجّه طاعته وإتباعه لأحد في الأرض، كطاعة الحكام من الملوك والرؤساء وغيرهم وإتباعهم من دون الله (طاعتهم واتباعهم في الأحكام السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية أو القضائية التي هي من عند غير الله، كما هو حاصل الآن في كل بلدان المسلمين)، أو طاعة أوامر أمريكا أو أوروبا أو الأمم المتحدة والمنظمات العالمية الأخرى وقراراتها، والقبول بتقسيم بلدان المسلمين، والقبول بالجنسيات على أساس وطني أو قومي، أو القبول بالخضوع للدول التي تقيمها الدول الإستعمارية وتفرضها على المسلمين، يكون الإنسان (إن فعل ذلك أو أقره بلسانه أو بقلبه) قد وجّه عبادته، أي إتباعه، لغير الله، حتى ولو صلى وصام .
مفهوم العبادة كما هو في الأصول، لا يمكن أن يُدرّس في المدارس على الإطلاق اليوم، وحتى لو كانت المدارس تستخدم جملاً توافق المفهوم الحقيقي للعبادة، فهي إما أن تُدرِّس مفهوم العبادة للدارسين لفظاً لا معنىً، أي يتم تحفيظه خالياً من مفهومه، أو يًدرس اللفظ محرّفا عن مفهومه الأصلي، أو أن يُدرس اللفظ ويدرس مفهومه بشكله الصحيح، ولكن كون أن ليس له واقع في التطبيق فهو يفقد أهميته وقيمته لدى الدارس، فتجد الدارس ينظر إلى هذا اللفظ غير مكترث له ولما يحمل من مفهوم، ولا يحس أنه يؤثر به .
وإن إضطر المدرس أو أحدهم أن يصف للدارسين واقعاً للعبادة أي الإتباع وصفاً صحيحاً، قام مفترياً على الله ورسوله، قائلاً للدارسين أن دولتنا هي التي تطبق شرع الله، وأن الحاكم فلان هو ولي الأمر الشرعي الذي يجب أن يُطاع ويُتبع، لأن طاعته من طاعة الله (حتى ولو حكم بالكفر)، فيجعل الجميع يوجهون عبادتهم وبالتالي طاعتهم إلى غير الله، أي لهذا الحاكم أو ذاك.
إن المدارس بكافة مستوياتها في كل بلدان المسلمين، الإبتدائية أو المتقدمة أو في الجامعات، لا تقوم بتدريس هذا الأصل من الأصول على الإطلاق بمفهومه الصحيح، بالرغم من أهمية هذا الأصل القصوى في تحديد عقيدة المسلم، وفي صبغ هويته، وفي تمييزها عن غيره.
لأنه لو دُرّس المفهوم الصحيح للعبادة، لأدرك الناس الوُجهة التي يجب عليهم توجيه عبادتهم أي طاعتهم أي إتباعهم لها، وهي الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسوله وما أمرا به، وطاعتهم لمن قام على تطبيق أوامرهما وإجتناب نواهيههما، ولأدركوا أنه يتوجب عليهم الكفر بالحكام الحاليين، ولأدركوا أنه يتوجب عليهم مخالفتهم وعدم إتباعهم، ولرأوا أنه يتوجب عليهم الخروج عليهم وإيجاد حاكم حقيقي مكانهم.
ولذلك فإن مفهوم العبادة يقصره المدرسون على مفهوم واحد فقط، وهو الصلاة والصيام والذكر وبعض الأخلاق الحسنة والصدقات وعدم عبادة الأوثان، وما شابه هذه الأحكام، وهذا بالطبع يخالف مفهوم العبادة أصلاً وفرعاً، فيظن المسلم أو طالب العلم أنه يتصف بصفات المسلم الصحيح الحق، وأنه بذلك يعبد الله حق عبادته، ويظن الوالدان أنهما قد أحسنا وأبليا في تربية أبنائهما أحسن البلاء، ويظن المدرس الجاهل أنه يقوم بتدريس العبادة للدارسين على أكمل وأحسن وجه، وهو لا يدري أنه يضلهم ويزيدهم ضلالاً، فيباتون يعبدون غير الله وهم يحسبون أنهم يعبدونه، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : سورة البقرة 177
)ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (