كذا .. فليجلّ الخطبُ
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
كنت أمس أجلس إلى جانب أم حسان أتابع
دراستها لقصيدة الشاعر الفذ أبي تمام في رثاء القائد العباسي محمد الطوسي
كذا : فليجل الخطب ، وليفدَحِ
الأمرُ فليس لعين لم يفض ماؤها عذرٌ
، وكانت تستشيرني في بعض ما تكتب
شرحاً ونقداً ، إلا في هذه القصيدة لأنني لم أكن أوافقها فيما تعلمناه قبل أربعين
سنة من أستاذنا المرحوم " محمد صبري الأشتر" في شرح هذه القصيدة ونقدها ، إذ كان
يدرسنا الأدب العباسي في أواخر الستينات من القرن الماضي في كلية اللغات " فرع
اللغة العربية " في جامعة حلب .
أذكر أن أستاذنا إذ ذاك كان مندمجاً
بشرح هذه القصيدة يحرك يديه ، ويغمض عينيه وهو يعيش جوّها ، ويدعوننا لنعيش معه هذا
الحدث الحزين قائلاً : إن استشهاد القائد العربي البطل كان مصاباً جللاً ما بعده
مصاب ، وخطباً فادحاً يقتلع القلوب ، وترتجف له الصدور ، تفجّرت العيون دموعاً
غزيرة تفجّعاً عليه . وما ينبغي لأحد عرف هذا القائد العظيم ، وخَبـِرَ بطولاته
إلا أن يبكيه بدل الدموع دماً .....
لا شك أن أبا تمام شاعر مجيد قل نظيره
في عالم الشعر العربي قديمه وحديثه ، وما قصيدته في فتح عمورية إلا تحفة فنية راقية
تتسنّم ذرا الشعر أسلوباً ومعانيَ وبلاغة ، أقف أمامها مبهوراً بصورها الحيّة
الدفّاقة وألوانها المتداخلة الخلاّقة .
إلا أنه في هذا البيت ذكّرني بقول
تلميذه البحتري حين قارن بين شعره وشعر أستاذه :
" جيّده خير من جيّدي ، ورديئي خير من
رديئه " . فأبو تمام في هذا البيت يقول : إما أن تكون المصائب هكذا وإلا فلا ، وأقل
ما نرتضيه من المحبين أن يبكوا لهذه الفاجعة كثيراً !!! وأقرب ما يكون التعبير
بلغتنا العاميّة المحليّة " يا هيك مصيبة ، يابلا " !! .
قلت – وأنا أجول بذهني في عالمنا
العربي قديماً وحديثاً – لِماذا هذه المبالغة في التملق ولِمَ المزاودة في التهويل
، وعلامَ كل هذا التفخيم في أمور قد تكون على وجاهتها عادية ؟
مات إبراهيم بن محمد صلى الله عليه
وسلم ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : "
تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا
" .
والتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالرفيق الأعلى فما كان من خليله وصاحبه أبي بكررضي الله عنه إلا أن رفع الغطاء عن
وجهه الشريف فقبله وقال : طبتَ حياً وميّتاً يا رسول الله ، ودمعت عيناه ثمّ شمّر
عن ساعد الجد يُكمل بناء الدولة الإسلامية .
ويُقتل الإمام علي رضي الله عنه ،
فيذرف ابناه سيدا شباب أهل الجنة دموع الرجال ، ثم يحمل الحسن – الخليفة الراشد
الخامس - الأمانة بثبات .
إلا أننا اعتدنا التعظيم والتهويل في
كل الأمور كبيرها وصغيرها ، جليلها وحقيرها . ، وهذا دليل الفراغ في القلوب والعقول
، ولا أزال أتندر وأصحابي كلما تذكرنا نشرات الأخبار في دولة خليجية كنا نعمل فيها
حيث يستعرض المذيع الألقاب في كل خبر ، فتطول نشرات الأخبار بسبب هذا الصف الطويل
من الألقاب التي لا بد من ذكرها قبل اسم صاحب الرفعة والسموّ!
مثال ذلك الترجيع والتكرار : أمر سموّ
الـ... وليّ عهد ... نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة ، وزير الدفاع ، رئيس
بلدية ... بتعبيد الطريق بين حيّ كذا وحي كذا ..
وكان الأولى أن تُذكر صفته فقط :
رئيساً للبلدية في تعبيد الطرقات ، وصفته وزيراً للدفاع فيما يخص الجيش من تدريب
وتسليح .. وصفته ولياً للعهد فيما يخص اللقب الأميريّ . أما أن يَرصف المذيع كل هذه
الألقاب لرصف طريق وتعبيده - فإذا بالألقاب أطول من الطريق نفسه - فهذا امتهان
لذلك الشخص ، وحَطّ من صفاته وألقابه - لو كان يدري –
أما في البلاد العربية كلها فإنك ترى
الصورة نفسها في كل مكان ، ولعلك تسمع وترى شبيه القول التالي يتكرر في كل مكان من
بلادنا المغلوبة على أمرها ، كأنْ تسمع هذا الأسطوانة المشروخة : بتوجيهاتٍ من
صاحب العصمة والرفعة ( فخامة الملك أو جلالة الرئيس ) يأمر رئيس الوزراء برفع
الرواتب والأجور - رفعاً رمزياً – بعد ارتفاع الأسعار الجنوني لكل السلع الرئيسة
والفرعية . ولا ينسى المذيع أن يجعل رفع الرواتب ( مكرمة ملكية أو رئاسية أو
أميرية أو قل ما شئت ) وينسى القول : إن رفع أسعار السلع ( خوازيق وصلت إلى النخاع
) ولن يرفعها من مكانها أبرع الأطباء الجرّاحين ، فقد أخذت مكانها وتجذ ّرت فيه .
لقد اعتاد العربي منذ عهد الجاهلية
الأولى إلى عهدها الحالي أن يقول للمسؤول :
لك المرباع منا والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
فالمرباع : ربع
المغنم يأخذه رئيس القبيلة .
والصفايا : جمع صفي . وهو ما يصطفيه
الشيخ لنفسه من المغنم
،
والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في
الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه ، فكان يختص به رئيس القبيلة دون غيره.
والفضول
: ما يفضل من الغنيمة عند
القسمة
.
ولما جاء الإسلام منع هذا ، إلا أن
العربي ما يزال يعشعش في قلبه وعقله وجسمه هذا القول: "كذا فليجل الخطب وليفدح
الأمر"