التدين والإلحاد

عدنان عون

[email protected]

التدين فطرة :-

 الإنسان مدني بطبعه متدين بفطرته ، وهو كما يقول علماء الاجتماع و علم الانسان "الانثروبولوجيا " حيوان ديني، لا غنى له عن التدين ؛ لان التدين فطرة مركوزة بالنفس مغروسة بالشعور، يولد بولادة الانسان و ينمو بنمو فطرته يؤكد ذلك الميثاق الالهي  " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ " وفي صحيح الحديث القدسي: " اني خلقت عبادي حنفاء كلهم....".

والتدين ايضا ضرورة اجتماعية. وقد أكدت الدراسات الاجتماعية و حقائق التاريخ ذلك يقول (برغستون ) : " لقد وجدت جماعات انسانية من غير علوم و فنون و فلسفات ، ولكن لم توجد - قط- جماعات بدون ديانة " ، ويقول العقاد : " إن تجارب التاريخ تقرر لنا أصالة التدين في جميع حركات التاريخ الكبرى ، ولا تسمح لأحد أن يزعم أن العقيدة شيء تستطيع الجماعة أن تلغيه ، ويستطيع الفرد أن يستغني عنه في علاقته بتلك الجماعة، أو فيما بينه وبين سريرته المطوية عمن حوله، ولو كانوا أقرب الناس إلـيـه " .

وإن التدين ليس ليس فطرة متأصلة في النفس فحسب، بل هو ظاهرة اجتماعية عامة وإن الدراسات لتؤكد أن الدين و التدين واكب الإنسان في كل مراحله، وفي كل عصوره ، كما واكب المجتمعات في كل أطوارها  . يقول أحد المفكرين : " وليس هناك دليل واحد على أن العقيدة كظاهرة اجتماعية تأخرت عن نشأة الإنسان " . وكيف يتخيل غير ذلك، وفي أعماق الإنسان إحساس بأن هناك قوة قادرة تتصرف فيه وفي كل الكون. وأنه لا غنى له، عنها يلجأ الى ركنها ويعتصم بحماها ،وما العقول بناكرة ذلك بل إنها لتلتمس آثار هذه القوة في أسرار النفس و خفايا الكون ، لأن العقول مهما ارتقت لا تستطيع أن تستقل بمعرفة ربها ، وأن تهتدي إليه من ذاتها ، ولذا أرسل الله الرسل ، وهم كما يقول الشيخ محمد عبده : " بمنزلة العقول من الأشخاص ..."

ومن ثم فإن من المستحيل أن ينمحي التدين ، يقول ارنست رينان :" من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه ، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم و الصناعة ولكن يستحيل أن ينمحي التدين ، بل سيبقى حجة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الفكر الانساني في المضايق الدنيئة من الحياة الارضية ..." . وأنه ما من نظام اجتماعي أو سياسي إلا وهو ينبثق من التصور الإعتقادي للأمة وإلا فماذا يعني وجود الآثار الدينية المثورة في جنبات البلاد والمدن ؟

إن للتدين - حقا كان أو باطلا - آثاراً تحكي تاريخه ، وما هذه الصوامع و المعابد و الترانيم و الشعائر إلا صوة من صور التدين الذي تحكيه أعماق النفس البشرية . ومما يجب التأكيد عليه أن العلم والدين قرينان لا يتناقضان ، وإنما يتناقض الدين مع الخرافات ، يقول هربرت سبنسر : " العلم يناقض الخرافات ولكن لا يناقض الدين نفسه ، والعلم الطبيعي لا ينافي الدين ، ولكن الذي ينافي الدين هو ترك هذا العلم .. "

ومع ذلك فإن الفطرة ـ تحت ظروف كثيرة ـ قد تتوارى وقد تضعف ، ولكن مستحيل أن تموت . بل سرعان ما تعلن عن وجودها ، و تعبر عن ذاتها، كلما مسّ الإنسان ضر ، أو نزل به كرب . حتى عند أشد الناس كفراً ،وأكثرهم إلحاداً . فهذا الطاغوت الأكبر  "فرعون" حين تضعه الأقدار أمام مصيره المحتوم ، يتعرى من كبريائه ، ويعود إلى فطرته ،ويصرخ بملء فيه بكلمة الإيمان . يقول جلّ وعلا : "وجاوزنا ببني اسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " ولم يكن فرعون بدعاً بين الطغاة والظالمين ، وإنما هي طبيعة الإنسان حين تطمس الفطرة ، ويغيب الإيمان. وهذا ما يقرره القرآن إذ يقول الله تعالى " وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ  " .

نعم  إن الإنسان لكفور جحود ،ماإن ينجيه الله حتى يرجع إلى طغيانه ونسيان ربه " فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ " . وأنت واجد في واقع الحياة كثيراً من المواقف التي ظهرت فيها الفطرة معبرة عن ذاتها أبلغ تعبير وأصدقه بعد أن توارت في أعماق النفس سنوات طويلة .فقد ذكرت مجلة المختار الإسلامي قصة ذاك الشاب الأوروبي المظلي الذي لم يكن بينه وبين الموت إلا أن صرخ بصدق "يا الله"  ففتحت المظلة ومضى ناجياً يكتب قصة إيمانه والتي لخصها عنوان مقالته "عجبت من أين جاءني الإيمان" ..ولم العجب ؟ أليست هي الفطرة المركوزة فى النفس إن توارت تحت ظروف لاتلبث أن تنبعث قوية صادقة في الكرب والأزمات ؟ والشيئ بالشيئ يذكر، فهذه "  سونيلانا" ابنة "ستالين" تذكر في مذكراتها أن أباها في سكرات الموت كان شديد التعلق بالسماء..وأبت إلا أن تعلن عن الحقيقة التى طالما تنكر لها أبوها فتقول : " ما إن بلغت سن الرشد حتى وجدت في نفسي إحساساً قوياً بأن الحياة من غير الإيمان بالله ليست حياة ".. 

الإلحاد شذوذ :-

فإذا كان التدين فطرة، فإن الإلحاد شذوذ يناقض الفطرة .يقول هنري لامنس :"ويبقى الكفر عاهة من عاهات الفكر البشري ،والإلحاد شذوذ يناقض الفطرة " ويذهب برنادشو إلى أبعد من ذلك فيقول : "كنت أعرف دائماً أن الحضارة تحتاج إلى دين ،وأن حياتها وموتها متوقفان على ذلك " .

فلا عجب أن كان الكفر والإلحاد وتغيب الإيمان سبباً من أسباب انهيار الحضارات ،بل سبباً في شقاء البشرية ، تصديقاً لقول الله جل وعلا (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) ، وتأكيداً لما ذهب إليه عقلاء المفكرين والمصلحين الغربيين من أن الحضارة المادية فشلت في تحقيق السعادة للإنسان ،وأنها زادت في همومه وأمراضه ،وأورثته من الأمراض النفسية ما سبب له قلقاً دائماً اعتبره الأطباء العدو الأول للإنسان في الغرب .

 ولا أدل على ذلك من هذه العيادات النفسية التى لا تكاد تخطئها العين في أي شارع من شوارع أوروبا وأمريكا .ومن أعرف بهذه الحضارة من أبنائها ؟  يقول د. الكسيس كاريل : " إن الحضارة العصرية لا تلائمنا ؛لأنها أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية " ويقول أيضاً : "إننا قوم تعساء ؛لأننا ننحط أخلاقياً وعقلياً ...إن الأمم والجماعات التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم ،هي على وجه الدقة آخذة في الضعف والانهيار وستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها ".  ويقول المفكر الفرنسي "إن الجنس البشري بكامله يمشي بخطى حثيثة إلى الهلاك وإنه في النزع الأخير " ، ويقول:" إن كثرة الأخطاء في حضارتنا تجرها إلى الغرق " .

 وهذا  (لوبون) يعلل انحطاط الشرق فيقول :"إن السبب في انحطاط الشرق هو تركه روح الدين وتشبثه بالعقائد الفاسدة الباطلة " ، ورحم الله سيد قطب ، فقد جعل إفساد الفطرة من أكبر جرائم  الإنسانية فقال : " وليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل والذي يحطم فضائل النفس البشرية ويحلل مقوماتها،ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد :استخذاء تحت سوط الجلاد ،وتمرداً حين يرفع عنها السوط ، وتبطراً حين يتاح لها شئ من النعمة و القوة"