فقه التغيير 14
د. خالد الأحمد
الشعب السوري في الأربعينات
ولدت في ربيع (1946م) ، وأذكر العلاقات الاجتماعية في محيط القبيلة يومذاك منذ ( 1950م ) ، وأستفيد من العلاقات الاجتماعية التي عشتها في عقد الخمسينات بأنها كانت بل كان أفضل منها في الأربعينات ، ومن هذا المنطلق أتحدث عن سوريا في الأربعينات :
1- كانت الروح الوطنية - والروح الوطنية روح جماعية ضد الفردية والأنانية، وهي الاهتمام بالشأن العام وعدم الانكفاء على (الأنا) – موجودة بوفرة لدى الشعب العربي السوري، وكتب لنا المؤرخون يصفون الثورات السورية ضد الانتداب الفرنسي، فنتعرف على مدى تغلغل هذه الروح الوطنية لدى الشعب ومن ذلك ما كتبه الأستاذ أكرم الحوراني في مذكراته عن ثورة أهالي حماة عام (1945م) ضد الفرنسيين يقول في ( ص 418) :
(( منذ بدء الحوادث صارت تفد إلى حماة وفود المسلحين من بلدة السلمية وقضائها ( أحد الوفود كان يضم ثمانين مسلحاً ) ، وتنضم إلى صفوف المجاهدين، كما صارت حماة تستقبل بحماسة كبيرة الوفود العديدة الأخرى من عشائر النعيم وبني عـز والعقيدات والمشارفة والغازي والبوحسن وبني خالد والموالي والتركي، ووفود مسلحة من المعرة وخان شيخون وسراقب والغاب والرستن، وكلها تنضم إلى صفوف المجاهدين ...في الوقت الذي كان عملاء فرنسا يغذون الفتنة الطائفية بإشاعاتهم ، ( والطائفية شعور أناني )، ولكن وعي القيادة الشعبية أحبط كل مساعيهم ، وانضم إلى المجاهدين فريق من الشراكسة، وقام المسيحيون في حماة والقرى المجاورة بدور بارز في صفوف الثورة ... إن الوحدة الوطنية القائمة على أهداف تحررية تصنع المعجزات ، تمحق الطائفية، وتكسر قيود التخلف الاجتماعي، وتحقق النصر العسكري على العدو الأجنبي مهما كانت جيوشه أكثر ومدافعه أكبر ومعداته أحدث ، وهذا ماجرى في ثورة حماة 1945م .... )) .
(( وحاصر الثوار الجيش الفرنسي في ( الشرفة ) حتى وصل الجيش البريطاني الذي خلصهم من الثوار يقول الجنرال باجيت القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط : لقد أنقذنا الأهالي في سوريا من الجيش الفرنسي ، إلا في مدينة حماة فقد أنقذنا الجيش الفرنسي من الأهالي )) ... انتهى النقل من أكرم الحوراني .
ومن المتوارث في قبيلتنا أن فلاناً يرحمه الله ( من أفراد القبيلة ) هجم على الدبابة الفرنسية بالعصا والحجارة فقط .
كل هذا الشاهد كي أستخلص مدى عمق الروح الوطنية ( فرع من الروح الجماعية ) لدى الشعب السوري يومذاك ....
2- ومن الأمثلة على عمق الروح الوطنية ( الروح الجماعية ) توافد المجاهدين على فلسطين في عام (1948م ) ، وأفضل الكتب التي تشرح ذلك كتاب الإخوان المسلمون في حرب فلسطين للأستاذ كامل الشريف يرحمه الله ، ويقدمه مركز الشرق العربي على حلقات حالياً جزاه الله خيراً، ومنها ماكتبه الشيخ مصطفى السباعي يرحمه الله يقول : (( وأعلنوا – الإخوان – فتح باب التطوع في مراكزهم في جميع أنحاء البلاد ، ....وأقبل الشعب إقبالاً منقطع النظير على تسجيل أسمائهم كمتطوعين ....وكان المتطوعون من الإخوان يشترون سلاحهم من مالهم ، وأذكر بعضهم كان على أهبة الزواج باع إحدى السجادتين اللتين اشتراهما لزوجته ليشتري البندقية، ورأيت من باع بعض ثيابه، ومن استدان ....وبعد أن وفرنا السلاح انتقينا من المتطوعين من هم أهل للقتال، واضطررنا للاقتراع بينهم، فغضب من لم نقبله معنا، حتى أن بعضهم استقال من الإخوان لأننا حلنا بينه وبين الجهاد في سبيل الله .... )) . انتهى النقل من السباعي .
وإني لأعجب من التغيير السلبي الكبير عند العرب خلال ستين سنة مضت ، عندما أقارن حالهم اليوم (2008/2009في معركة غـزة ) مع حالهم عام (1948م) ... كيف توافدوا يومذاك لنصرة إخوانهم في فلسطين ، وكيف تراهم اليوم يتفرجون على ذبح إخوانهم في غزة بيد الصهاينة ، فأي تشرذم هذا الذي وصل إليه العرب والمسلمون !!؟ وأين الروح الوطنية التي كانت قبل ستين سنة !!! لقد محقتها الأنانية والشعور بالإقليمية الذي غذاه أعداء المسلمين بدعوات كثيرة، حتى مزقوا العرب وسلبوا منهم الروح الجماعية ...
إذن كانت الروح الجمـاعيـــة عميقة، وبتعبيرآخـركانت الـروح الفـرديــة (الأنانية ) ضعيفة لدى الشعب العربي السوري خلال الأربعينات ....
3- ومما أذكره قبل وبعيد دخولي المدرسة التضامن والتكافل الاجتماعي بين الجيران يومذاك ، كيف كنا نتعاون ثلاث أســر أو أربع في الحصاد ، أو حفر القطن، أو جني المحصول، وغيره من الأعمال الزراعية، دون النظر إلى عدد العمال، فقد تكون أسـرتنا مكونة من عاملين فقط ، وأسرة جيراننا تتكون من ثلاثة عمال ,وأسرة ثالثة تتكون من خمسة عمال ، وهكذا ...تعمل هذه الأســر معاً في الحقل، حتى لو فرضنا إحدى الأسـر أصابتها مشكلة مرض أو ســجن فإن الأســـر الباقية تعمل لها في حقلها ولا تتركه مقصراً بين الحقول .. لأن الروح الجماعية كانت مسيطرة على الشعور الفردي يومذاك.
4- وكيف كنا نأكـل كل يــوم من طعــام جيراننا كما يأكلــون من طعامنا، وكانت ( الطعمة ) وهي صحن مملوء بالطعام يذهب من بيتنا إلى بيوت الجيران، كما يأتي لنا طعمة منهم أيضاً ... ومما أذكره أن وليمة العرس لم تكن تكلف العريس إلا القليل جداً، لأن الخراف والسمن والبرغل أو الأرز يقدم من أقاربه وجيرانه ...وكذلك إعداد هذا الطعام ، من ذبح الخرفان وسلخها وتقطيعها، حيث يقوم به شباب القبيلة والجيران ، أما الطبخ فتقوم بـه النســوة المتقدمات في الســن نوعاً مـا ...
كل ذلك أستدل به على عمق الروح الجماعية لدى الشعب السوري يومذاك ، وضعف الروح الأنانية ....
وهكذا غيروا أنفسهم في الأربعينات، فغير الله حالهم، وحقق لهم طرد المستعمر الفرنسي، فقد ساق الله عزوجل الجيش البريطاني ليخرج الجيش الفرنسي من سوريا، ومن ثم ينال الشعب السوري الاستقلال، ويعيش عقد الخمسينات الذي أذكره بكل خير ..,كما سنرى ...