الديكتاتورية... داء لا دواء له
بلال داود
[email protected]
أبحرت يمينا
ويسارا ، وسألت من غاص في أعماق التاريخ ، ومن حلق فوق غابات الحاضر وجباله
وشواطئه قريبها و بعيدها ، بحثا عن نموذج واحد فقط لديكتاتور طاغية مستبد ،
تحول تلقائيا أو استجابة لدعوات شعبه بشكل سلمي هاديء ، ليصبح ديموقراطيا عادلا ،
يحقق لشعبه العدل والحرية ، وينهض بأمته من التخلف والفقر والجهل والضعف ، إلى
الازدهار والرخاء و العلم والقوة ...... فلم أجد .
في الجهة
المقابلة ، دونما إبحار أو غوص أو سؤال ، تجد أمامك عشرات الأمثلة إن لم نقل المئات
، عن نموذج قدم نفسه منقذا ومخلصا للشعب من ديكتاتورية من سبقه ، عن طريق انقلاب
عسكري ، أو على ظهر دبابة أمريكية ، بعد أن ولى زمان الدبابة الروسية ، أو ليصحح
مسيرة رفاق الدرب الذين حادوا عن أهدف الثورة ، يتغول شيئا فشيئا ليمسخ ديكتاتورا
كاملا ، ويقضي بقية حياته على تلكم الهيئة حتى الممات أو القتل .
في الماضي
البعيد كان الله يرسل الرسل والأنبياء إلى الطواغيت ، ولم نعرف أن أحدا منهم تغير
حاله ، وانقلب إلى حاكم عادل ، فقد أرسل ابراهيم عليه السلام إلى النمرود ، وأرسل
موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون ، وأيدهما بتسع آيات معجزات ، فلم يرتدع عن
طغيانه وظلمه ، وظل فرعون فرعونا طاغية متكبرا متجبرا ظالما ، حتى أغرقه الله ،
وأنجاه ببدنه ليكون عبرة لمن بعده ، حتى صار رمزا ( ماركة مسجلة ) لكل طاغية .
لما أراد
الملك هيرودوس الزواج من ابنة أخيه ، اعترض النبي يحيى ( يوحنا المعمدان) عليه
السلام ، فما كان من الملك إلا أن قطع رأس النبي يحيى وقدمه على طبق من فضة أو ذهب
مهرا لتلك البغي ، وبقي ديكتاتورا حتى مات .
طاغية الفرس
كسرى ظل على طغيانه حتى قتله ابنه ، الذي صار أسوأ من أبيه وأكثر طغيانا ،وفي العصر
الحديث ظل هتلر على ديكتاتوريته حتى انتحر بعد هزيمته النكراء ، و لحق به حليفه
موسوليني شنقا مع صاحبته على يد الشعب الإيطالي ، و كذلك نيكولاي شاوشيسكو حكم
رومانيا 25 عاما بالحديد والنار ، ورغم التغيرات العالمية من حوله لم يتغير واستمر
على ديكتاتوريته ، إلى يوم إعدامه مع زوجته إلينا ، وقد تطوع في ذلك اليوم 300
روماني لتنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص بالرئيس وزوجته ، مع أن واحدا كان يكفي .
سيادة
العقيد انقلب على الملك ليخلص الشعب منه ، فجلس مكانه أكثر من عمر الملك و أبيه ،
وبعد طول بقاء سيورث الرئاسة العظمى لإبنه ، ولم يخالفه سيادة الفريق كثيرا إلا
بقصر عمره ، إذ لم يحكم إلا ثلاثين عاما فقط ، ليرثه إبنه الشاب بعد أن أعيد
تفصيل الدستور على مقاسه ، والله أعلم بطول عمره الذي سيقضيه جاثما فوق صدورنا .
المهيب
الركن الجديد أطاح بالمهيب الركن السابق ، ليخلعه بعد أحد عشر عاما ، نائبه
المهيب الركن آخر نسخة ، ويجلس بعده 24 عاما على أنفاس الشعب ، لتفعس تلك الهيبة
و تمحى من على وجه الأرض ، ومعها هيبة العرب إلى ماشاء الله ، تحت جنازير دبابات
القيصر الثالث والأربعين .
و الأمثلة
أكثر من أن تحصى ، وجميعها لا يخرج عن القاعدة ، فالديكتاتور يبقى ديكتاتورا حتى
نهاية العمر موتا أو قتلا .
ولكننا
لانقرأ التاريخ ، وإن قرأناه لانستوعبه ، و إن استوعبناه شدنا سراب الأمل ثانية
إلى القاع ، لعل طغاتنا يختلفون عن غيرهم ، فيتغيرون بالنصح و اللين والمعارضة
السلمية ، وننسى أن أنبياءا و رسلا لم يستطيعوا إصلاح طاغية واحد .
والحقيقة أن
في داخل كل منا ديكتاتور صغير ، لا يلبث أن ينتفش ليصبح فرعونا عتيدا ، ما لم تمنعه
القوانين والدساتير غير القابلة لإعادة التفصيل في خمس دقائق ، والغريب في أمر
دساتيرنا أنها تبقى عشرات السنين محفوظة من كل تعديل، إلا ما يتعلق بتفصيل القياس
المناسب للوريث الجديد ، أو تعديل عدد دورات الرئاسة من اثنتين إلى ما لانهاية ، أو
صلاحيات الرئيس التي تختزل كل الدولة في شخص سيادته .
تلك حقيقة
مرة ، ولكن الحقيقة الأكثر مرارة ، هي أن التغيير الذي تأتي به ثورة حمراء أو دبابة
صفراء أو انقلاب عسكري ، لا يفعل أكثر من استبدال طاغية بطاغية جديد أكثر خبرة و
أشد طغيانا ، فهل من سبيل لتتفتق فيه عبقريات الناس في القرن الحادي والعشرين ، عن
طريقة جديدة لإصلاح الطغاة ، أم ستبقى الوصفة الرومانية( من روما أو رومانيا ) أفضل
ما وصل إليه العلاج لهذا الداء ؟؟؟