غزة في عيون نيسانية
محمد عبد المجيد الصاوي
غزة ـ فلسطين
عزيزي القارئ ... هل تتوقع أن أصفها لك بأنها غزة العزة والنصر .. غزة قاهرة الغزاة ومحطمة آلات الحروب .. غزة ذات الإباء والشموخ ؟
لك ذلك إن أردت ، ومني زيادة على ما تبغي إن كنت راغبا بدغدغة بواطن العاطفة الجياشة في أعماقك العربية .
لكن ... لن أتغنى لك بحب وهيام لترابها وبحرها.
غزة يا عزيزي .. أتراك زرتها أم هل تجولت في أرجائها المجدبة ؟
أترك الحديث الآن لأحد أبنائها الذي لا بد لك أن تصدقه حين يخبرك بأنه قد عرفها وجهلها في آن واحد ، كما يعرف الحاذق فينا دقائق وخفايا واقعه التعس ، ويجهل ما كُتب له في صحائف الغد.
غزة يا عزيزي .. هي تلك الدنيا التي جادت علينا بزمن من الحب، فسرنا ذلك الزمان ، لتسوء بعد ذلك وجوهنا أزمان التقدم نحو هدف سرابي.
غزة ... مدينة كنعانية باهتة .. مثقلة بعراقة الحزن العربي القذر.
غزة .. صورة صارخة للوحة خالدة أبدعها "الرفاعي" :
وُلدت كي ترى إذلال أمـــة
غفلت فعاشت في دياجير الملمة
مسرح عملاق يحقق أعلى الإيرادات لا زالت تؤدى فوق خشبته ملهاة " التخاذل الشعبي والقمع النظامي "
مثال حي لقول " الرفاعي " * :
وتخاذلوا والظالمون نعالهم فوق الجباه
كشياه جزار وهل تستنكر الذبحَ الشياه
عزيزي القارئ .. إنك " غر ساذج " إذ أنت صدقت بأن غزة استثناء من منظومة " الطبل العربي البلدي" ، خدعك ذياك البريق الذي أوحاه لك ساحر يقتات الإعجاب واللقيمات الفاخرة بألاعيبَ وعروضٍ تأخذ أبصاراً عمياً وقلوبا غلفاً.
عزيزي ... أنا الذي لا يكره غزة ، ولا يشعر بالشفقة على مساكينها البلهاء ، لا يبحث عن مهرب من عفنها الذي طالما أحبه قلبه؛ ذلك القلب الذي ما عاد قادرا على رد السهام التي تنطلق يأسا أحمقَ وهزائمَ تعزفها " جوقة المهندسين لثقافتنا العارية " لحنا قوميا وبعد فترات تحليله ترانيم جنائزية ، ليغدوَ في آخر الأمر أدعية تبارك لحظات الهروب إلى الواقع الراغب بأن ينتشي بأمجاد فتح مبين.
غزة يا أيها العزيز ... لا أحاول ولو لكَرة واحدة أن ألملم ذرات كبريائها الذي بعثرته أوهام ثورية تورث الغثيان .
فقد أقسمت ألا أعيد لصورتها المتهشمة رونقا كان ينطق إلى حين بالبهاء.
ببساطة مهذبة ؛ أنا الآن مشغول عنها غير مكترث بما يستعر في أحشائها ... فعندي الأهم من كل تلك المحاولات العبثية.
لن أتعلل بعدم قدرتي على امتلاك ناصيته ، كي أهرب من ذكره .
لأن " أهميَ " سر أدركت أنه من الأجدر ألا تبوح به جنبات القلب المسكين وألا تحتويه فضاءات العقل الرمادية .
فهو وليديَ الأول بعد سني الشقاء المخملية . فهل توافقني الرأي يا عزيزي بضرورة ألا ترى شمس نيسان ؛ ذلك الذي يبدأ أولى عروضه الربيعية بأكذوبة خالدة وينهي موسمه الممجوج بواحدة من عنترياتنا اللعينة.
* من قصيدة " أرملة الشهيد " للشاعر المصري الراحل ـ هاشم الرفاعي ـ رحل عنا سنة1959 وهو في الرابعة والعشرين من عمره ، تاركا روائعه الخالدة.