مفهوم الدولة الإسلامية
محمد أفقير(صهيب)
باحث في تاريخ الإسلام
تقرر أن مفهوم الدولة الإسلامية يختلف في روحه عن مفهوم الدولة العصرية الأوربية، ويتفق معها في الأركان. فمتى نشأ هذا المفهوم في حقل السياسة الشرعية؟ وهل كان معروفا في بداية تأسيس الدولة على يد النبي بالمدينة؟ أم أنه من المفاهيم الحادثة في حقل السياسة الشرعية؟.
قال لؤي صافي: "مصطلح الدولة لم يأخذ مفهومه السياسي المحدد في الأدبيات السياسية الإسلامية، إلا بعد مرور قرون عديدة على قيام المجتمع الإسلامي الأول. فقد استخدم علماء المسلمين الأوائل مصطلح دار الإسلام أو الأمصار، للإشارة إلى الأقاليم التابعة للسلطة الإسلامية: كما استخدموا مصطلحات الخلافة أو الإمامة أو الولاية، للدلالة على الهيئات السياسية المركزية للأمة"([1]).
"دار الإسلام" هو المصطلح الشائع في كتابات المؤرخين قديما، كان يؤدي معنى الدولة بالمفهوم المعروف اليوم. و"دار الإسلام" هي :"الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام، ويأمن من فيها بأمان المسلمين، سواء كانوا مسلمين أم ذميين"([2]). وقد استعمل مصطلح دار الإسلام في مقابل مصطلح دار الحرب، و"هي الدار التي لا تجري فيها أحكام المسلمين، ولا سلطان للمسلمين عليها"([3]). وكان هذا المصطلح هو الشائع في الكتابات السياسية والتاريخية. فاستعمله على سبيل المثال: السرخسي(ت286هـ/ 899 م) في كتابه "شرح كتاب السير الكبير للمقريزي"، الطَّرَسوسي(ت758هـ/ 1357م) في "تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك"، ابن تيمية(ت728هـ/ 1328م) في "السياسة الشرعية"، الماوردي(ت450هـ/ 1058م) في "الأحكام السلطانية"، ابن حزم(ت456هـ/ 1064م) في "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، ابن الأثير(ت699هـ/ 1299م) في "الكامل في التاريخ"، المسعودي(ت346هـ/ 957م) في "مروج الذهب"، اليعقوبي(ت292هـ/ 905م) في تاريخه، بدر الدين العيني(ت855هـ/ 1451م) في "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"، الذهبي(ت748هـ/ 1348م) في "تاريخ الإسلام"، أبو شامة المقدسي(ت665هـ/ 1267م) في "الروضتان في أخبار النورية والصلاحية"، المقريزي(ت845هـ/ 1441م) في "المواعظ والاعتبار"، ياقوت الحموي(ت626هـ/ 1229م) في "معجم البلدان"، ابن الوردي(ت749هـ/ 1349م) في "خريدة العجائب وفريدة الغرائب"، والإصطخري(ت346هـ/ 957م) في "المسالك والممالك". وغيرهم كثير. ثم فيما بعد، استبدل مصطلح "دار الإسلام" ومصطلح "دار الحرب" بمصطلح الدولة. وهذا هو السبب في كون "مفهوم الدولة لم ينضبط انضباطا دقيقا حتى منتصف القرن 8هـ عندما استطاع عبد الرحمن بن خلدون(ت808هـ/ 1406م)ـ أن يطور مفهوم الدولة، من خلال دراسة القاعدة الاجتماعية التي ترتكز عليها السلطة في المجتمعات السياسية المعاصرة له، والمتقدمة عليه"([4])، وهذه القاعدة الاجتماعية، حسب ابن خلدون، هي العصبية([5]).
ثم إن تعريف الدولة لدى العرب تطور بشكل كبير في التاريخ الحديث والمعاصر. وتأثر بشكل بالغ بالتجربة الأوربية والتصور السياسي الغربي. ولما كان "يؤدي تبني هذا التعريف، المنبني على التصور والتجربة السياسيين الغربيين، إلى نتيجتين خطيرتين. الأولى، التسليم بشرعية التقسيم الحالي للمناطق الإسلامية، وبالتالي قبول الخريطة السياسية التي تكرس مركزية الغرب، وتبعية المناطق الإسلامية"([6])، فقد اجتهد المفكرون الإسلاميون في وضع تعاريف وحدود تميز الدولة الإسلامية عن غيرها من الدول. فما وجه الاختلاف والتميز؟.
نجد أبو الأعلى المودودي(ت1399هـ/ 1979م) يركز على مبدأ السيادة والحاكمية في تعريفه للدولة الإسلامية، لأن "الحاكمية بكل معنى من معانيها لله تعالى وحده، فإنه هو الحاكم الحقيقي"([7]). فالدولة الإسلامية، عنده، هي الدولة التي تتعلق الحاكمية فيها بالله تعالى. وللخروج من الإشكال التاريخي الذي طرحه مفهوم الحاكمية لدى الخوارج([8])، وليتميز عن نظريتهم. فقد ميز بين الحاكمية القانونية والحاكمية السياسية، "فالحاكمية القانونية تتعلق بحق الله في التشريع للناس، بينما تتعلق الحاكمية السياسية بتنفيذ الأحكام الإلهية. والحاكمية القانونية خارجة عن نطاق الفعل الإنساني، في حين يمارس البشر الحاكمية التنفيذية نيابة عن الله عز وجل"([9]). إن مبدأ الحاكمية القانونية حسب المودودي هو الذي يميز الدولة الإسلامية عن غيرها.
ويرى حسن بسيوني، هو الآخر، "أن الدولة الإسلامية دولة قانونية، تقوم على التشريع الإسلامي وتهتدي به في أمور الدين والدنيا"([10]). ويرى في هذه القانونية السمة المميزة لها. قال: "تتسم الدولة الإسلامية بأنها دولة قانونية، إذ تسود فيها أحكام الشرع الإسلامي، والذي يستمد مصادره، من القرآن الكريم باعتباره الدستور الأعلى، الذي يبين الحقوق ويحدد الواجبات، ويرسم للدولة القواعد الكلية والمبادئ العامة، التي تنظم شؤون الأفراد، وتأتي السنة كمصدر تال له"([11]). هذه الدولة الإسلامية القانونية "يخضع الجميع فيها حكاما ومحكومين لأحكام التشريع الإسلامي"، وبهذا فهي "أسبق الدول قاطبة في التمتع بهذه السمة وتلك الخاصية"([12]). ومن مبدأ القانونية، هذا، تستمد الدولة مشروعيتها السياسية وشرعيتها الإسلامية. "والشرعية الإسلامية تعني أن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون الدين كله لله بلا تجزئة"([13]). ومن سمات هذه الشرعية:" أنها ربانية، شاملة، عادلة، متوازنة، فعالة"([14]). أما لؤي صافي فقد وجد في المفهوم الذي أعطاه ابن خلدون (ت808هـ/ 1406م) للدولة، المدخل الصحيح لتعريف الدولة الإسلامية. وانتهى إلى التعريف الآتي: "الدولة الإسلامية – هي – البنية السلطوية للأمة، التي توجه الفعل السياسي وتحدده وفق منظومة المبادئ السياسية الإسلامية"([15]).
وإن التركيز على مبدأ القانونية والشرعية ومنظومة المبادئ الإسلامية في تعريف الدولة الإسلامية لا يلغي بحال من الأحوال أركان الدولة: الإقليم، الشعب، والسلطة التي ينص عليها القانون الدستوري الوضعي. فالدولة الإسلامية تضمنتها منذ نشأتها الأولى. وعلى هذا يؤكد محمد موسى حين يقول: "إنه باستقرار الرسول وأصحابه في المدينة، واتخاذها وطنا لهم ومقاما دائما، تم للعرب والمسلمين إقامة دولة لها أركانها ومقوماتها، دولة يشير القرآن والسنة إلى وجوب قيامها وينطبق عليها التعريف القانوني للدولة، دولة لها إمامها/ رئيسها الذي يخضع له المسلمون جميعا، على اختلافهم في الأصول، والأجناس، والألوان"([16]). وهذا المعطى التاريخي يوجد من لا يسلم به ممن يعتبر فقط "أن الجماعة المسلمة، في حياة الرسول ، بالمدينة كادت تكون دولة بمعناها القانوني الصحيح"([17]). أي أنها لم تكن كذلك. أو ممن يذهب إلى أبعد من ذلك، ويرى أن رسول الله لم يؤسس دولة، وهو يدعو إلى فصل الدين عن الدولة. وشيخ هذه الطائفة علي عبد الرازق(ت1386ه/ 1966م) وهو شيخ أزهري دعا إلى الفصل بين الدين والسياسة الشرعية في كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" الذي أصدره سنة 1926م([18]).
بكلمة، لقد تبنى فكرة فصل الدين عن الدولة غير قليل من القوميين والعلمانيين واللائكيين العرب، ومن هنا فإن الحاجة ملحة إلى بيان العلاقة بين الدعوة والدولة في الإسلام ونشر الأفكار التقدمية الحضارية للفقه السياسي الإسلامي.
(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.
([1]) ـ لؤي صافي، العقيدة والسياسة. مصدر سابق، ص.117./ انظر: عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مجلدان، ط.1، دار الشروق، القاهرة ـ مصر 2002م، 2: 72.
([2]) ـ عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية. ط.1، دار الفكر، دمشق ـ سورية 2002م، ص. 71.
([3]) ـ عبد الكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين. ط.2، مؤسسة الرسالة، بيروت ـ لبنان 1982م، ص.19. (بتصرف).
([4]) ـ لؤي صافي، العقيدة والسياسة. مرجع سابق، ص. 118.
([5]) ـ ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. ط.2، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت ـ لبنان 1988م، ص. 164.
([6]) ـ نفسه، ص. 121.
([7]) ـ أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور. ط.1، مؤسسة الرسالة، بيروت ـ لبنان 2004م، ص. 211.
([8]) ـ انظر: أبو يوسف الفسوي، المعرفة والتاريخ. مصدر سابق، 1: 522 ـ 523./ ابن أَعْثَم، الفتوح. مصدر سابق، 7: 63./ المقدسي، البدء والتاريخ. مصدر سابق، 5: 223./ ابن العبري، تاريخ مختصر الدول. مصدر سابق، ص. 107.
([9]) ـ ابن العبري، تاريخ مختصر الدول. مصدر سابق، ص. 211. (بتصرف).
([10]) ـ حسن السيد بسيوني، الدولة ونظام الحكم في الإسلام. ط.1، عالم الكتب، القاهرة ـ مصر 1985م، ص. 100.
([11]) ـ نفسه، ص. 39.
([12]) ـ المكان نفسه. (بتصرف).
([13]) ـ نفسه، ص. 41 ـ 42.
([14]) ـ المكان نفسه. (بتصرف).
([15]) ـ لؤي صافي، العقيدة والسياسة. مرجع سابق، ص. 121.
([16]) ـ محمد يوسف موسى، نظام الحكم في الإسلام. مرجع سابق، ص. 18.
([17]) ـ نفسه، ص. 15.
([18]) ـ انظر: أنور الجندي، المعارك الأدبية. مكتبة الأنجلو المصرية، مصر 1983م، ص. 334.