الحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية في العصر الجاهلي
الحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية
في العصر الجاهلي
محمد أفقير(صهيب)
باحث في تاريخ الإسلام
تباينت أنماط الحيـاة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية، بين المناطق الحضرية التي تحكمها
سلطة سياسية، والمناطق البدوية التي تخضع لحكم زعماء القبيلة، فأفرزت فئات اجتماعية متفاوتة في الإمكانيات والمواقع والمكانة. فما هي أبرز تلك الفئات؟.
نجد المناطق الحضريـة التي تتمتع بحيـاة سياسية مستقرة في ظل نظام سيـاسي، كاليمن وغسان والحيرة ومملكة الحبشة([1])، يُقسم المواطنون فيها إلى ثلاث فئات متفاوتة في الإمكانيات وفي ظروف العيش على الشكل التالي:
ـ فئة الأغنياء: تضم الملوك ومسؤولي الدولة، وهم يمثـلون قمـة الهرم الاجتماعي، وينعمون بحياة الترف والغنى، ويسيطرون على السلطة والحكم والثروة، ومنهم فئة التجـار والأثريـاء وموظفي الدولة، من قادة الجنود وغيرهم.
ـ فئة المساكين والفقراء: تضم الأجراء والجنود والمستخدمين، وهي الفئة العريضة.
ـ فئة العبيد: في قاعدة الهرم الاجتماعي، وتضم العبيد والخدم وفاقدي الحرية.
أما المجتمع البدوي، فلا يمكن الحديث فيه عن نظام سياسي، لغياب الدولة والقيادة السياسية الحاكمة، لهذا فالنظام الاقتصادي والاجتماعي القبلي قد أفرز ثلاث فئات اجتماعية بارزة هي: الأغنياء، والفقراء والمساكين، ثم العبيد([2]). وهي مختلفة عن المجتمع الحضري من حيث عناصرها.
ـ فئة الأغنياء: وهم الأحرار الأشراف، ومنهم ينتخب زعماء القبيلة؛ فئة من الأثرياء والسادة وأصحاب رؤوس الأموال، أمثال أبي سفيان(ت60هـ/ 680م)، وأبي لهب(2هـ)، والوليد بن المغيرة(ت1هـ/ 622م)، وغيرهم. سماهم القرآن الكريم الأغنياء والملأ([3])، وكانوا يمثلون الطبقة الغنية المترفة الربوية، المحتكرة للتجارة والمال والسلطة. فبسيطرتها على مكة وعلى البيت الحرام، أضحت تملك نفوذاً واسعاً بين قبائل العرب. وتربط علاقات تجارية مع التجار بالشام واليمن وباقي المناطق، وعلاقات صداقة مع الملوك وذوي الشأن([4]).
ـ وفئة الفقراء والمساكين: فئة سماها القرآن الكريم في سورة التوبة([5]) الفقراء والمساكين والغارمين، وفرض على الأغنياء تقديم جزء من المال لهؤلاء. قال تعالى: Cإِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌB([6])، تشمل الفقراء الأحرار والموالي، الأحرار يتمتعون بحريتهم ويعتزون بنسبهم وتربطهم بقبيلتهم روابط متينة، منهم المساكين والمعدمين والخدم والأجراء. فالفقر لم يكن يحد من حرية الرجل والمرأة العربيين، فمهما يكونا فقيرين فهما مالكين لحريتهما وشرفهما. أما الموالي فهم صنفان: العتقاء والحلفاء. يقال عن الصنف الأول: فلان مولى عتاقة، ومولى عتيق، ومولاة عتيقة، وموالٍ عتقاء، ونساء عتائق، وذلك إذا أعتقن([7]). أما الحلفاء فهم السكان الغير أصليين، الوافدين على القبيلة من الخارج، المحالفين لهم على أساس عقد عرفي يقضي بالنصر والدفاع المشترك، في حالة الحرب. قال الدقيقي(ت613هـ) "الْمولى الحليف وَمن انْضَمَّ إِلَيْك فمنعته وَعز بعزك"([8])، فهؤلاء في غالبهم الأعم في مرتبة ثانية في المجتمع العربي القائم على أساس العصبية. وطبعا لا يمكننا التعميم، إذ من الممكن أن يوجد من بين الموالي من ينتمي إلى الفئة الأولى، كما هو حال صهيب بن سنان الرومي(ت38هـ)، المكنى بأبي يحيى مولى عَبْد الله بْن جُدْعان، الذي اشتغل بالتجارة وجمع مالا كثيرا، وهو الذي افتدى نفسه بالمال حين هاجر إلى المدينة([9]).
ـ وفئة المعدمين: العبيد والخدم والجواري،
ولقد كانوا يعدون جزءا من
ممتلكات الأغنياء، يتاجرون فيهم، يباعون ويشترون، وعلى أكتاف هذه الفئة قامت كل
الأعمال الاقتصادية الفلاحية والتجارية والخدماتية. فئة المعدمين والمستخدمين
والأجراء والعبيد، الذين كانوا يعيشون حياة الفقر والبؤس والاضطهاد الاجتماعي.
وهذه الجماعة لم تكن تعيش حالة
الفقر والبؤس وحسب،
وإنما كانت تعامل معاملة الحيوانات
والوحيش، ويتواصل معها بلغة تواصل وحيدة هي "السياط
والأقدام".
أما الفقر والبؤس والاضطهاد والجهل والتجاهل والمرض فمن خصائص هذه الفئة. ومنهم:
"بِلَالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَأُمُّ عُبَيْسٍ، وَزِنِّيرَةُ الَّتِي
أُصِيبَ بَصَرُهَا ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا، وَالنَّهْدِيَّةُ
وَابْنَتُهَا، وجَارِيَة بَنِي مُؤَمَّلٍ"([10]).
وهؤلاء أشهر من تعرض للتعذيب من قبل المعارضة المكية.
لقد اتسمت
الحياة في المجتمع البدوي بعادات
بعضها حسن محمود، حافظ عليه
الإسلام وشجَّع عليه، كالكرم والنجدة
وإغاثة الملهوف. وبعضها الآخر قبيح
نهى عنه الشرع وحاربه، كوأد البنات خوفًا من العار. وهذه العادة كانت في
قبائل معينة فقط ولم تكن عامة. تلك
هي الحياة الاجتماعية المزرية، التي صوّرها لنا القرآن الكريم
عندما تحدث عن انعكاسات الفقر على
السكان،
الفقر الذي دفع بعضهم إلى قتل أولادهم
والتخلص منهم، مخافة اشتداد الأزمة المادية. لقد صور القرآن الكريم هذه المشكلة
الاجتماعية
في قوله تعالى: (وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ([11])
نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)([12]).
عكست الآية أبعاد المأساة الاقتصادية والوضع الاجتماعي القبلي الجاهلي المتردي.
فالفقر والقتل مظهر من مظاهر غياب
النظام والقانون والاستقرار السياسيين بالمنطقة. ويذكّر القرآن الناس بمناقب الدعوة
التي وفرت للقريشيين بمكة، خاصة، النظام والأمن في الوقت الذي ازداد فيه العنف في
باقي الأقاليم بسبب الحروب المتزايدة، قال تعالى:
(أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون)([13]).
قال ابن كثير(ت774هـ/ 1373م) في "تفسير القرآن العظيم" مُبيِّناً معنى هذه الآية: "يقول تعالى ممتنا على قريش فيما أحلهم من حرمه، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والبادي، ومن دخله كان آمنا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حولهم ينهب بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا"([14]). وقال ابن زيد(ت173هـ) في قوله: "آمنا" "من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له"([15]). ويضيف القرآن مذكرا سكان شبه الجزيرة بفضل الدعوة عليهم, وبفضل المنحة الإستراتيجية المتمثلة في الموقع الجغرافي، الذي خولها الإشراف على الطريق التجارية (الدولية)، والكعبة المشرفة التي كانت السبب الرئيسي منذ تأسيسها/ بنائها في ازدهار قرية مكة، ونشوء حركة عمرانية وتجارية نشيطة بها، والتي شكلت عامل استقرار للسكان بها، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)([16]).
وهناك ظاهرة اجتماعية سلبية أخرى، ذكرها القرآن الكريم، هي ظاهرة انتهاك الحقوق الطبيعية للأنثى. الأنثى كانت تعاني من الحيف المجتمعي، وتواجه البؤس والفقر والاستغلال بشتى أنواعه، فهي لا تتمتع بحقوقها ولا توفر لها شروط التمتع بالكرامة، وهي في عرف المجتمع العربي الجاهلي ملك للرجل، وتورث كما تورث الأموال، فقد كان الأبناء يرثون زوجات الآباء ويتزوجونهن؛ صورة غير حضارية توضح التخلف المعمق في المجتمع، فالواقع والتاريخ وسنة الله في الكون تثبت أن المرأة تشارك الرجل في صناعة الحياة، وتحقيق التقدم والتطور، وهو الشأن الذي أدركه إمام الدولة ، فأناط بالمرأة مسؤولياتها التربوية والتعليمية والسياسية والاجتماعية، ومسؤولياتها البيتية والوطنية.
ندد القرآن الكريم بتزوج نساء الآباء، ومقتها مقتا شديدا في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا)([17]). هذا ولم تسلم الطفلة الصغيرة من الذهنية المتخلفة للعربي المتشبع بالثقافة الجاهلية، كان المواليد الجدد معرضين للقتل، إما بسبب الظروف الاقتصادية إذا كان الأمر يتعلق بالذكور كما ذكر من قبل، أو بسبب الجنس. فالإناث يواجهن القتل لأنهن إناث، يذكُر القرآن الكريم ذلك المشهد المأساوي ويجرم فاعله في قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ, يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(([18])، وفي قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ, بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)([19]). والأنثى في الصورة النمطية للمجتمع مجلبة للعار، بحجة أن المنطقة تعرف ظروفا أمنية استثنائية بسبب الحروب المتواصلة، وأن النساء معرضن للسبي، والسبي يعني الفضيحة والشماتة والعار للقبيلة التي ينتمين إليها. أمام هذا الوضع كان الرجل العربي ـ في بعض المرات وليس دائما بدليل قوله تعالى في الآية السالفة: (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ) ـ إذا ولدت له أنثى، شعر بالقلق الكبير وسيطر عليه الهمّ والحزن لما يمكن أن يلحق بالقبيلة من العار بسبب السبي، ويكون هو المسؤول المباشر عن ذلك إذا كانت الأسيرة ابنته، فهو يرى أن الحل العاجل هو اللجوء إلى قتلها أو دفنها حيّة، أو في أحسن الأحوال يتقبّلها على مضض وكراهية، فكانت الأنثى ضحية هذه العقلية الظلامية والعادات الآبائية المتخلفة.
ولقد تسبب المجتمع في الحط من مستوى المرأة أكثر فأكثر، فحولها إلى أداة لإشباع الرغبات الجنسية، بالطرق الشرعية وغير الشرعية. ويذكر أنه وجدت بشبه جزيرة العرب وبقرية مكة، خاصة، بيوت خاصة بالبغايا. قال الطبري(ت310هـ/ 923م): "كانت البغايا تتخذ حانوتًا عليه راية، إعلامًا بأنها بغي"([20]). يضع هؤلاء النساء المحترفات لهاته المهنة أعلاما حمراء([21]) لإعلام الزبناء من الرجال الوافدين على القرية. ويبدو أن هاته الحرفة كانت مدرة للأرباح بحيث كان يمتهنها بعض الأغنياء المتاجرين في الجواري، يشتري الجواري ويسخرهن للعمل بالجنس لكسب المال من هذه الممارسة([22]). فيما يشبه الفنادق المتخصصة في عرض بنات الجنس في عصرنا الحاضر. انتشر البغاء بشكل جعل المرأة تمارس الجنس، الزنا بالمصطلح القرآني، مع عدد من الرجال وتختار من بينهم رجلاً، فتنسب إليه ابنها وتعتبره أباً له، وكان يسمى نكاح البغايا([23]). والزنا هو وطء المرأة في الفرج من غير عقد شرعي([24])، ويسمى قاذورة([25])، كَمَا سَمَّاهُ الله عز وجلّ مقتا، فَقَالَ: (إِنَّه كَانَ فَاحِشَة ومقتاً)([26]). كانت تمقته المرأة الحرة فكانت لا تزني([27]). روي أن رسول الله لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا فتلا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)([28])، فلما قرأ قوله عز من قائل: Cوَلا يَزْنِينَB قالت (امرأة حرة): يا رسول الله وهل تزني الحرة؟([29]).
أما الزنا عند الرجال فهو من أمارات الرجولة عند الجاهليين. كانوا يذهبون إلى ذوات الرايات ويتصلون بهن في مقابل أجر، وكن من الإماء، كانوا يمارسونه فلا يرونه عيبًا، وكان عندهم عادة مألوفة، وَمِنْه المَثَلُ الشائع بينهم: المَرْءُ! يَسْعَى لغارَية أَي: يكْسب لبطنه وفرجه([30]). ولقد اعتبر عبد الكريم خليل(ت2002م) أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة كانت طقسا يوميا يشغل مساحة واسعة من حياة العرب، وأعزى الانشغال بالجنس إلى عوامل منها غياب الأنشطة الثقافية والفنية التي تثري الوجدان وتصقله ويفرغ فيها الفرد مكبوتاته، بالإضافة إلى حرارة الطقس وطلاقته وامتيازه بقدر من الجفاف مما يثير الشهوة([31]). ولقد تسمت البغي الرمازة وقد نهي عن كسبها([32])، وعرفت بنعوت منها البغي، والعاهر، والفاجرة، والخَبِيثَةُ، والقحبة([33])، قَالَ الأَزهري: "قِيلَ للبَغِيِّ قَحْبة، لأَنها كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُؤْذِن طُلَّابَها بقُحابها، وَهُوَ سُعالها"([34]). وقد كانت البغي، أيضا، تتنحنح لتصيد زبناءها([35]). ويذكر "أن القحبة هي التي تخرج إلى الفاحشة، وهي أفحش من الزانية، لأن الزانية تفعل سرا والقحبة تفعل الزنا علانية بالأجرة"([36]).
وللإشارة، فإن هذه الظاهرة الاجتماعية اشتهرت في بلاد الروم، وقد رعتها الدولة وقننتها. ومن يدري، فلعلها انتقلت من تلك البلاد إلى البلاد العربية!؟، قال القاضِي عبد الجبار(ت415هـ): "وللقحاب في بلدانهم (أي الروم) أسواق كثيرة، ولهن دكاكين، تفتح حانوتها وتتزين وتجلس على بابه بارزة مكشوفة. وليس عندهم في كشف السوءة والعورة من الرجال والنساء تحريم ولا خطر"([37]).
ندد القرآن الكريم بهذه الظاهرة الإباحية، وحرّمها في العديد من آياته، وأوجب عليها العقوبة الدنيوية والأخروية. هي الجريمة الأخلاقية، نفسها، التي تقود الإنسانية اليوم إلى أسوأ مشكلة تهدد الوجود الإنساني بأسره، وهي هدم الأسرة، وتمزيق روابط الحياة الاجتماعية المستقرة، وانتشار الأمراض الجنسية، كمرض السفلس والإيدز، الذي بات يعد خطرا أعظم من خطر الحروب على البشرية.
لقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الظاهرة اللاأخلاقية مشددا على الإقلاع عنها، في قوله تعالى: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)([38]). (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)([39]) وقد شرحت كتب السيرة والتفاسير الوضعية الاجتماعية المنهارة آنذاك، ودرجة الانحطاط والمعاملة السيئة للمرأة. بالإضافة إلى ما ذكر عن الزنا فقد تعددت أشكال الزواج الذي تستغل فيه الزوجة، ويفسد به المجتمع منها: نكاح الضيزن([40])، والمتعة، والبدل، والشغار([41])، والاستبضاع([42]). وهكذا تتجسد أمامنا طبيعة ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف، تلك الطبيعة التي وصفها جعفر بن أبي طالب(ت8هـ) للنجاشي(ت10هـ) ملك الحبشة بقوله: "أيها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وأن لا نُشرك به شيئاً، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام"([43]).
هذا، وللموضوعية العلمية وللإنصاف، فإن هذه الوضعية النسائية المنحطة لم تكن تعيشها كل النساء العربيات، كما يريد أن يثبت ذلك بعض الوعاظ ممن يظن أن تصوير المجتمع الجاهلي كنقطة مظلمة لا بياض فيها هو انتصار للإسلام، ودليل على قوة الدعوة. وينسى أن آمنة بنت وهب(ت34ق.هـ) وهي سيدة شريفة عفيفة تنتمي إلى تلك البيئة، وأن التاجرة الشهيرة خديجة بنت خويلد(ت3ق.هـ/ 620م) كذلك نتاج ذلك المجتمع، وحتى هند بنت عتبة(ت14هـ) ـ وغيرها ـ كثير ـ ممن كن يتمتعن بكل الحقوق المدنية، وساهمن في الحياة السياسية والاقتصادية بفعالية، هن خريجات هذا المجتمع. كانت أم المؤمنين خديجة(ت3ق.هـ/ 620م) امرأة تمارس النشاط التجاري بكل كفاءة ومهنية. قال ابن إسحاق(ت151هـ/ 768م): "وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة"([44]). وضارب فلَان لفُلَان فِي مَاله إِذا تجر فِيهِ([45]). فلا شك أن وضعا اجتماعيا يتيح للمرأة أن تمارس التجارة في عالم رجولي، وتنجح في استثمار أموالها، وتوقع عقودا تجارية مع الرجال، لهو مؤشر على أمرين على الأقل؛ الأول: هو كفاياتها التجارية، والثاني: قبول المجتمع الرجولي لانخراط المرأة في الحياة الاقتصادية. وهذا دليل على أن المرأة في هذا المجتمع لم تكن تعامل بقاعدة واحدة. إن وضعية المرأة تغيرت من قبيلة إلى أخرى، ومن أسرة إلى أسرة. وهذه هند بنت عتبة(ت14هـ) المرأة القيادية التي يذكر التاريخ موقفها التحريضي في غزوة أحد(3هـ). جاء في بعض كتب السيرة: "قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم، فقالت هند فيما تقول:
ويها بني عبد الدار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتار
إن تقبلوا نعانق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونفرش النمـارق
أو تدبروا نفارق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فراق غيرِ وامِق([46])"([47]).
المرأة التي تكون في مثل موقع هند من قومها لا يمكن القول عنها إنها محرومة من حقوقها. إذن، صحيح، إن المرأة، بصفة عامة، عاشت وضعا صعبا من جراء النظام القبلي والواقع الثقافي والأمني في المنطقة آنذاك، وهذا لا ينكره باحث، إلا أن عددا كثيرا من النساء، خاصة الحرات(جمع حرة)، عشن حياة كاملة الحقوق.
بكلمة، كلما تجسدت أمامنا حياة النساء والحياة الجاهلية بجوانبها الإيجابية وبكل أبعادها، ومظاهر انحطاطها العقائدي، والأخلاقي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي. كلما فهمنا الدعوة وعظمتها وعظمة نبي الإسلام الهادي محمد الذي استطاع، بتأييد رباني، أن ينقذ البشرية، ويضعها على طريق الحضارة والمدنية والاستقامة السلوكية، مبتدئاً بمن حوله من العرب، ومن بعدِه الدعاة واصلين بها إلى الآفاق. وتعد الدعوة اليوم قوة حضارية، ومشروعا تنمويا مستديما، ورسالة الإنسان المتحضر، صاحب العقل العلمي المتحرر من سيطرة المادية والشهوانية المنحرفة. وصدق الله الذي وصف رسالة نبيه بقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ, يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)([48])، وأمر عباده بالاتباع بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)([49]).
(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.
([1]) ـ الحبشة هي إثيوبيا حاليا، وهي ليست ضمن شبه الجزيرة العربية جغرافيا، إنما من المناطق المجاورة لها في إفريقيا.
([2]) ـ الأغنياء والفقراء والمساكين مصطلحات قرآنية تختلف عن المصطلحات الاشتراكية والرأسمالية كالبورجوازية والبرولتاريا والطبقة العاملة، وهي تعبر عن المجتمع القرآني (أو الأمة) الذي يتعايش فيه الغني والفقير وفق قانون التكامل والتكافل والتحاب في الله، لا على أساس الاستغلال والصراع والثورة. ومصطلح العبيد وإن لم يرد في القرآن الكريم فهو مستنبط من السنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون)./ البُخاري، الجامع المسند الصحيح المختصر. مصدر سابق، 3: 149.
([3]) ـ انظر: الآية 6 من سورة "ص".
([4]) ـ ابن سعد، الطبقات الكبرى. 8أجزاء، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت ــ لبنان 1990م، 2: 9./ الطبري، تاريخ الرسل والملوك. مصدر سابق، 2: 646.
([5]) ـ انظر: سورة التوبة: الآية 60.
([6]) ـ سورة التوبة: الآية 60.
([7]) ـ ابن فارس، معجم مقاييس اللغة. مصدر سابق، 4: 219.
([8]) ـ انظر: الدقيقي، اتفاق المباني وافتراق المعاني. تحقيق: يحيى عبد الرؤوف جبر، دار عمار ـ الأردن 1985م، ص. 140.
([9]) ـ ابن سعد، الطبقات الكبرى. مصدر سابق، 3: 169.
([10]) ـ ابن كثير، البداية والنهاية. 21جزءا، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط. 1، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، 1418هـ/ 1997م، 4: 145. (بتصرف).
([11]) ـ إملاق: إقتار وفقر./ انظر: الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن. مصدر سابق، 17: 436.
([12]) ـ سورة الإسراء: الآية 31.
([13]) ـ سورة العنكبوت: الآية 67.
([14]) ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم. مصدر سابق، 295:6.
([15]) ـ الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن. مصدر سابق، 29:2.
([16]) ـ سورة قريش: الآيتان 3 ـ 4.
([17]) ـ سورة النساء: الآية 22.
([18]) ـ سورة النحل: الآية 59.
([19]) ـ سورة التكوير: الآية 9.
([20]) ـ الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن. مصدر سابق، 12: 219.
([21]) ـ انظر: جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. مرجع سابق، 9: 139.
([22]) ـ انظر: الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن. مصدر سابق، 21: 313./ وابن كثير، السيرة النبوية. مصدر سابق، 6: 331.
([23]) ـ رِفَاعَة الطَّهْطَاوِي، نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز. ط.1، دار الذخائر، القاهرة ـ مصر 1419هـ، ص. 30.
([24]) ـ أبو هلال العسكري، معجم الفروق اللغوية. مصدر سابق، ص. 268.
([25]) ـ ابن سيده، المحكم والمحيط الأعظم. مصدر سابق، 6: 346.
([26]) ـ سورة النساء: من الآية 22.
([27]) ـ ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، ط.1، محمد دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان 1422هـ، 2: 34.
([28]) ـ سورة الممتحنة: الآية 12.
([29]) ـ رِفَاعَة الطَّهْطَاوِي، نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز. مصدر سابق، ص. 365.
([30]) ـ مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس. مصدر سابق، 38: 279.
([31]) ـ خليل عبد الكريم، مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة بين العهدين المحمدي والخليفي. سينا للنشر، القاهرة ـ مصر ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت ـ لبنان (بدون تاريخ)، ص. 6. (بتصرف).
([32]) ـ الزمخشري، أساس البلاغة. مصدر سابق، 1: 385. (بتصرف).
([33]) ـ البعلي، المطلع على ألفاظ المقنع. مصدر سابق، ص. 455. (بتصرف).
([34]) ـ ابن منظور، لسان العرب. مصدر سابق، 1: 662.
([35]) ـ مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس. مصدر سابق، مادة: قحب، 3: 519.
([36]) ـ الأحمد نكري، دستور العلماء: جامع العلوم في اصطلاحات الفنون. مرجع سابق، 3: 42. (بتصرف).
([37]) ـ انظر: القاضي عبد الجبار، تثبيت دلائل النبوة. جزآن، دار المصطفى، شبرا، القاهرة ـ مصر (دون تاريخ)، 1: 167.
([38]) ـ سورة النور: الآية 3.
([39]) ـ سورة النور: الآية 33.
([40]) ـ الضَّيْزَنُ: النَّخَاسُ. ويقال للرجل إذا زاحَمَ أباه في امرأته. وجاريةٌ ضَيْزَنٌ، قال أوس بن حجر:
والفارسيَّةُ فيكُمْ غيرُ مُنْكَرةٍ ... فكُلُّكُمْ لأبيه ضَيْزَنٌ سَلِفُ. شَبَّهَهُم بالمَجوسِ يتزوّج الرجل منهم امرأة أبيه، وامرأةَ ابنه./ الخليل بن أحمد، العين. مصدر سابق، 7: 20.
([41]) ـ الشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ لِرَجُلٍ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ./ مالك بن أنس، المدونة. 4أجزاء، ط.1، دار الكتب العلمية، 1415هـ/ 1994م، 2: 99.
([42]) ـ الِاسْتِبْضَاعُ هُوَ: أَنْ يُعْجِبَ الرَّجُلَ نَجَابَةُ الرَّجُلِ وَسَلْبُهُ فَيَأْمُرُ مَنْ تَكُونُ لَهُ مِنْ أَمَةٍ أَوْ حُرَّةٍ أَنْ تُبِيحَ لَهُ نَفْسَهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ مِنْهُ رَجَعَ هُوَ إلَى وَطْئِهَا حِرْصًا عَلَى نَجَابَةِ الْوَلَدِ./ الحطاب الرُّعيني، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل. 6أجزاء، ط. 3، دار الفكر، 1412هـ/ 1992م، 5: 240.
([43]) ـ أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد السهيلي، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام. 7أجزاء، تحقيق: عمر عبد السلام السلامي، ط.1، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان 2000م، 3: 150./ ابن هشام، السيرة النبوية. مصدر سابق، 1: 335.
([44]) ـ ابن كثير، السيرة النبوية. مصدر سابق، 262:1.
([45]) ـ ابن دريد، جمهرة اللغة. مصدر سابق، 1: 315.
([46]) ـ الوِماق: محبة لغير رِيبةٍ./ ابن منظور، لسان العرب. مصدر سابق، 10: 385.
([47]) ـ ابن هشام، السيرة النبوية. مصدر سابق، 67:2.
([48]) ـ سورة المائدة: الآيتان 15 ـ 16.
([49]) ـ سورة الأنفال: الآية 24.