يتامى وآباؤهم أحياء

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كان المجتمع الإسلامي يقوم على التعاون والتكافل وقد قال تعالى: (...وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).(المائدة 2) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

ومن كلماته الخالدات  صلى الله عليه وسلم  قوله: ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرأوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...).(الأحزاب 6) فايما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . ومن ترك دَينا أو ضياعًا فليأتني، فأنا مولاه.

**********

 وقد راعى الإسلام حقوق اليتيم، وحافظ عليها، وأمرنا أن نعامله معاملة طيبة رحيمة. فمن جوامع الكلم (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى).(الضحى 6) وأمر بالحفاظ على ماله وحقوقه الدنيوية، والمالية، ومن التوجيهات الحكيمة في القرآن قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).(الأنعام 152) . وتوعد بالعذاب الذين يعتدون على حرمة اليتيم وماله، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).(النساء 10) .

 وأمرنا بإصلاح شأنهم والإحسان إليهم وتقديم كل ما ينفعهم في دنياهم وآخراهم، وقد قال تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ....).(النساء 2  3)

 فالإساءة إلى المسلم  بصفة عامة  يعد في الإسلام جناية يعاقب عليها المسيء، فإذا كان الضحية يتيمًا فإن العقاب يشتد ويشتد ؛ لأنه لا ظهير له، ولا قوة تدفع عنه.

**********

 ومن أبلغ ما قيل في الأمثال العربية تعبيرًا عن الحرمان "إنهم أضيع من الأيتام على موائد اللئام"، فاليتيم: يعيش حياته محرومًا من متطلبات الحياة المادية، وضروراتها من طعامٍ وشرابٍ، وكساءٍ، ومحرومًا كذلك من متطلبات الحياة المعنوية: كالشعور بالأمان، والطمأنينة والسلام.

وإلى هاتين الضرورتين أشار القرآن الكريم بقوله (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).(قريش 3  4) . وهذه طبيعة الإنسان الضعيف أو المستضعف، نضيف إلى ذلك أن من استضافوه أو نزل بهم، أو عمل عندهم قومٌ من اللئام، أي نحن في مقام ضعيف أو مستضعف، ومقام قوي لا يعرف الله، ولا يرعى حقًّا ولا ذمة ولا ضميرا، فاليتيمٌ لم يجد حقه، حيث يبسط اللئام، قوتهم ونفوذهم، وسيطرتهم.

**********

 ويقول رجال اللغة والفقه: إن اليتم الانفراد، واليتيمُ الفرد، واليتمُ فقدان الأب. ومعروفٌ  كما ذكرنا من قبل  أنه يترتب على هذا حرمانٌ من ضرورات متعددة، زيادة على الآلام النفسية، والشعور بالضياع الذي يعيشه اليتيم.

 ونلجأ إلى المعاني المجازية في مجال السياسة ، فنقول:  والواقع يؤيدنا  إن مصر من أيام أن قامت الميمونة سنة 1952م، وهي تعيش في يتم حاد قاتم، وهي تعيش وحيدة بلا معين، وحكامها فرضوا "أبوتهم عليها" ولسان حال الواحد منهم يقول:

وأنا المليك عليهمو                      وهم العبيد إلى القيامة

والواحد منهم لا يخالف له عن أمر، فهم كما قال الشاعر:

دعَوْا باطلاً، وجلوا صارمًا               وقالوا صدقنا؟ فقلنا: نعمْ

 وكانت المجالس النيابية  والمفروض أن تقوم على رعاية الشعب وتمثيله  تقف في صف الحاكم، لا ترفض له مشيئة، ولا إرادة، بل هي تسير في صفه، وتستجيب له بالحق والباطل. حتى إن الشاعر هاشم الرفاعي خاطب أحد الحكام عن مجلس من هذه المجالس فقال:

هـا هم كما تهوى فحركهم دُمى
إنـا  لـنـعـلم أنهم قد iiجُمِّعوا
بالأمس كان الظلم فوضى مُهملاً


لا  يفتحون بغير ما ترضى iiفما
لـيـصفقوا إن شئت أن iiتتكلما
والـيوم صار على يديك iiمنظما

**********

 وجرد حكامنا المواطنين من كل قوة، ومن كل رأي، أو على حد قول أحد الساسة: فرغوا المواطنين من الداخل، فأصبحوا من الداخل خُواءً، وأصبحت قلوبهم هواءً، وأصبحت قوتهم هباءً، فهم كما قال الإمام عليَّ: أجسام بلا أرواح، أو أشباه رجالٍ ولا رجال.

 وانتشرت الأمراض الاجتماعية من نفاق، وجبن، وكذب، وسرقات، ورشاوى، وأصبح الفساد هو الأصل، والصلاح والتقوى والثبات والصراحة، هي الاستثناء.

 ومن مظاهر يتم المواطن المصري أنه تجرد من قوة المعارضة، والثبات في المواقف التي تجابه الحكام وتتصدى لهم، وأصبح عنده ما يمكن أن نسميه "سرعة الاستجابة الموافِقة المسايرة": فما قاله الحكام هو الحق، وما أنكره الحكام فهو الباطل.

مما دفع صاحب هذا القلم أن يتحدث إلى قلمه قائلاً:

بـرئـتُ  منك إذا هادنتَ iiطاغية
الـسـجـنُ والقيدُ والعدْوانُ عدتُه
يـقتاتُ دمعَ الضحايا في iiزنازنهمْ
ويـدَّعـى أنـه لـلـعدل iiملجؤهُ
وأنـه  عـبـقري العصر iiوالعَلَمُ
وهْـوَ  الذي ذبحَ القانونَ منْ iiسَفَه
لـه بـطانةُ سوءٍ كم طغتْ iiوبغتْ
يـأيـهـذا الـذي ماتتْ iiبصيرتُه
لـقـد غَدْوتَ كوحشٍ ناشَ iiإخْوتَه
رأيـتُ  نـارَك في الأعداء iiباردةً
لـمـثْـل هـذا تَصَدَ اليومَ يا iiقلمُ
فـتـحتَ هذا الرماد النارُ iiساعرةٌ
حتى  إذا جاء يومُ الهولِ iiوانطلقتْ
تـولُـت  الـنكبةُ النكباء iiأمَرَكُمُو
ولنْ يكونَ لكم في الأرض iiمعتَصَمُ















دستورهُ  البغيُ والإجحافُ iiوالغَشَمُ
وشـرُّ أعـدائـه الإسـلامُ iiوالقيمُ
كـأن  أنَـاتـهـمْ في أذْنِه.. iiنَغَمُ
وأنـه لـلـجياع الخبزُ .. iiوالأدَمُ
ومـثـلَ  فـطنته لم تُنجِب iiالأممُ
وضـج  مـما جَناه الحِلُّ iiوالحرمُ
وهُـمْ على الشعب دوْمًا نكبة iiعممُ
حتى  استوتْ عنده الأنوارُ iiوالظلمْ
ولـم تَـرق لـمنْ كانتْ لهمْ iiرَحِمُ
لـكنْ علَى الأهل جمرٌ ساعرٌ حُمَمُ
وقـلْ لـهـم: أيها الباغون iiويلكمُ
وخلفَ هذا السكونِ العاصفُ العَرِمُ
فيه  البراكينُ والإعصارُ والضرَمُ:
كما  جنت عادُ، أو ما حصَّلَتْ iiإِرَمُ
ويـومها  ليس يُجدي الدمعُ iiوالندمُ

**********

 وبعد أن جُرد المواطن من آدميته، ومن حقوقه، ومن مكانته في وطنه، وأصبح رهين السجون، والبوابات السوداء، ويحاكم أمام القضاء العسكري، بعد كل ذلك، يطلب منه أن يحمل الولاء للوطن وللحاكم، وأن يكون نموذجًا للإخلاص الدائم الذي لا ينقض.

 وإن القلب لينزف دمًا وهو يرى الأطفال الصغار يتجهون إلى مقر المحكمة العسكرية، ليشهدوا آباءهم وهم يقدمون لهذه المحاكمات، وذنبهم أنهم عاشوا أطهارًا مخلصين للدين وللوطن، فلفقت لهم التهم، وجردوا من حقوقهم الطبيعية في المثول أمام القضاء العادي، وحكامنا يقولون بلسان الحال عن هؤلاء الأشراف (....أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).(النمل 56) . ويعيش هؤلاء الأطفال محرومين من متع الحياة ، بل ضروراتها ، فبينهم وبين آبائهم سدود سوداء كجدران القبور ، فحياة الأب وموته سواء . وبعض هؤلاء الأطفال بلغوا سن الرشد ، وما زال آباؤهم يعيشون في غيابة الجب . وأصبح من الأمور العادية جدا أن يحكم القاضي حكما نهائيا بالبراءة ، ومع ذلك يصدر وزير الداخلية أمرا باعتقاله تنفيذا لقانون الطوارئ ، أي أن حكم الداخلية  وهو ظلم فاحش  أصبح أقوى من حكم القضاء . ومن البديهيات الإحصائية أن عدد أسرى الحكم المباركي يفوق عدد أسرى العرب والفلسطينين في سجون إسرائيل .

 ولا عجب في ذلك فنحن في العهد المباركي ، أي العهد الذي اختلت فيه المعايير، فحولوا الحق إلى باطل، والحرام إلى حلال ، والرشوة سموها هدية وعطاء، ومعارضة الحاكم تعد خيانة عظمى لأنه رمز للوطن، وعنوان الشعب المصري ، بل الأمة العربية.

 وإن الفضيلة التي تسجل للعهد المباركي أنه اخترع  لونًا جديدًا  من ألوان اليتم هو "اليتم والآباء أحياء".

 ولك الله يا مصر ... لك الله .