فقه التغيير ـ 8
فقه التغيير ـ 8
د. خالد الأحمد
( روح الجماعة )
في مرة سابقة قلت الأنانية ضرورية للطفل الرضيع ، ثم ينموالشعور بالآخرين بالتدريج حتى يصل الإنسان الراشد إلى مرحلة الموضوعية ، وهي الصفة المقابلة للأنانية ، ويبدو أن النـمو يتعثـر أحياناً فتستمر الأنانية حتى الرشـد ....
ومن تغيير الأنفس المطلوب مننا تنفيذه كي يغير الله أحوالنا ، التخلص من هذه الأنانية ، وذلك بتنمية روح الجماعة لدى الفرد .
أقصد بالجماعة كل مجموعة بشرية تعيش أو تعمل معاً بشكل منظم ، أولها الأسرة ثم المدرسة ثم الشركة أو المصنع أو النادي والجمعية الخيرية أو الحزب السياسي والتحالف ....إلخ ومن ضمنها الحركة الإسلامية ...كل هذه جماعات ينطبق عليها مصطلح جماعة الذي أقوله وأكرره ، وعندما تنمو روح الجماعة لدينا تستفيد هذه الجماعات ، ومن ثم يغير الله حال القوم إلى أحسن ....
وكل إنسان عضو في جماعة شاء أم أبى ، فقد خلق الله الإنسان ليكون اجتماعياً بالطبع أي يتعذر عليه أن يعيش بدون مجتمع ، لذلك يقول طلاب علم الاجتماع الأسرة وحدة اجتماعية أولية، بمعنى أنها توجد قبل الفرد ، وباسـتثناء آدم عليه السـلام ، كل فرد جاء من أسرة ؛ لذلك الأسرة سابقة على الفرد ، وهي الوحدة الأساسية في بناء المجتمع ، بمعنى شبيه بقولنا الخلية الحية هي الوحدة الأساسية في بناء العضو الحي .
كل إنسان عضو في جماعة ، لكن يكون عضواً نافعـاً عندما تغلب عليه روح الجماعة، يحب الآخرين ويبني في الجماعة ، ويكون عضواً ضاراً عندما تغلب عليه الأنانية، يهدم في الجماعة ويعرقل نموها ....
روح الجماعة أقصد به العمل الجماعي ، وهو الاهتمام بالشأن العام ، وتفضيله على الشأن الخاص،والسهر على مصلحة الجماعة، الوطن، الشعب، ....إلخ ، وعدم الانكفاء على ( الأنا) والانغلاق عليها، وإهمال الشـأن العام، ويتضح الإهمال بقولهم : [ اللي يأخذ أمي أسميه عمي ] ...
عندما تغلب روح الجماعة يندمج ( الأنا الفردي ) في ( الأنا الجماعي ) ، فالمدرس الناجح يعمل بجد وهمة ونشاط ليرضي ربـه أولاً ثم لتكون مدرسته ناجحـة ، فنجاح مدرسته نجاح له ، لأن ( أناه ) ذابت في ( أنا المدرسة ) ...ويشعر بالرضا والسرورعندما تفوز مدرسته وتحصل على بعض الطلاب الناجحين في الشهادة الثانوية من العشرة الأوائل على المنطقة ، أو يكون الأول على المنطقة من مدرسته ...يشعر بالرضا والغبطة سواء كان هو شخصياً مدرساً لذلك الطالب أم لم يكن ، المهم أنه مدرس في هذه المدرسة التي حصلت على الدرجة الأولى على المنطقة ....
هذه الروح الجماعية مفقودة عند كثير منا نحن السوريين ، ومن المؤلم المفجع أن بعض أبناء الحركة الإسلامية لم يستطع التخلص من هذه الأمراض السورية ... ومع الأسف نمت عندنا الأنانية وانسحبت من الطفولة إلى الرشد عند كثير منا ، بنسب متفاوتـة ، ومثل هذا يريد أن يسخر الجماعـة لمصلحته الشــخصية ، أو يريد أن تذوب ( الأنا الجماعية ) في ( أناه الفردية ) وبعبارة أوضح يريد أن يعاكس الفطرة ، ومن يريد مثل هذا يخرب ولايصل إلى ما أراد .
ولنعود إلى جماعة المدرسة التي عشت فيها (54) سنة تلميذاً ومدرساً ، نجد أحياناً بعض التلاميذ يسرقون دفتر زميلهم المتفوق قبيل الامتحان، لا ليذاكره ويستفيد منه، وإلا طلبه من زميله وصوره وذاكره ، كما أفعل في الدروس الخصوصية ، حيث أطلب من تلميذي الخصوصي أن يصور دفتر أحد زملائه المتفوقين،وأذاكره معه لينجح ، ولكن يسرق ذلك الدفتر الذي اعتنى به صاحبه طوال العام ، وجمع فيه خلاصة المنهج ، يسرقه ويقطعه ويرميه ، لماذا ؟ كي لايتفوق هذا الطالب ، فكيف يتفوق هذا الطالب ، والطالب ( السارق ) كسول ، قد يرسب في السنة !!!؟؟؟
الطالب الكسول لايستطيع أن يجتهد ، لكنه يستطيع أن يمنع غيره من الاجتهاد ...هذه ظاهرة تتكرر في المدارس ، حتى صرت أوصي أولادي وتلاميذي المقربين بقفل حقيبتهم خاصة قبيل الامتحان .... وعدم اصطحاب دفاترهم هذه إلى المدرسة قبيل الامتحان ...
الطالب الكسول لايريد أن تفوز مدرسته بالدرجة الأولى على المنطقة ، كيف !!؟ ، وهو كسول قد يرسب في السـنة !!؟؟ فيصبح الفارق كبيراً بينه وبين المتفوقين ...
ومن المؤسف أن هذه الأنانية موجودة في بعض تجمعاتنا السورية ، تجد من لايستطيع أن يقدم خيراً، ولكنه يستطيع أن يمنع الآخرين من تقديم الخير ...
تكامـل لاتنـافـــس :
ينبغي أن يشعر أعضاء الجماعة بأنهم فريق واحد ، يكمل بعضهم بعضاً ، فما أقدمه للجماعة ، لايمكن أن يقدمه زيـد من الناس ، لكن زيـداً يقدم غيره وربما أكثر أهمية منه ، ومثال المدرسة طيب جداً هنا ، لو لم يقدم كل مدرس جهوده كاملة ، ما تفوق الطلاب وحصلوا على المراتب الأولى في المنطقة ، لو قدم مدرس الرياضيــات طاقته كلها ، وتكاسل مدرس الانجليزيــة لم تتفوق المدرسة ، لابد من ( تكامل ) الجهود ....
ومدرس الرياضيات ينبغي أن لاينظر إلى مدرس الانجليزية المتفوق في عمله بعين الحسد والمنافسة غير الشريفة ، ويتمنى بل يسعى لعرقلة جهوده ، بل ينبغي أن ينظر لتفوقه بعين التكامل ، لأن هذا التفوق عند مدرس الانجليزي سيعود بالنفع على المدرسة كلها ومنها مدرس الرياضيات ، وهكذا بقية المدرسين ....
ويبدو أن التنافس يحتاج إلى وعي قوي كي لاينقلب إلى تحاسد ، لذلك أحذر من هذا التنافس غير المنضبط الذي عانينا منه كثيراً في عملنا الجماعي ...
في الجماعة شـاعر، والشعر موهبة ، تحتاج إلى صقل بالجد والمثابرة ، وتجد في الجماعة من ينافس هذا الشاعر، ولايريد أن يتفوق في الجماعة ، لذلك يـذم شــعره بنقـد ذاتي ( غير موضوعي ) ، ويؤلمني كثير من النقاد ، وتمنيت لو أنهم مروا بدور المعلمين كي يتعلموا في دروس التربية العملية كيف يكون النقد ، وهو إظهار الإيجابيات والتحدث عنها ، ثم التحدث عن السلبيات من باب الكمال لله ولكتابه ، أما نقادنا فما رأيتهم مرة يتحدثون إلا عن السلبيات ، كما أن عندنا ظاهرة خطيرة ، وهي شاعر أو كاتب واحد ، وعشرون ناقداً ، والأصل أن يكون العكس ، عشرون شاعراً أو كاتباً وناقد واحد .... مع أن الناقد مرحلة متقدمة في الوعي والثقافة على الكاتب أو الشاعر ، حتى أنني أسـتطيع القول كل ناقد كاتب أو شاعر ، وليس العكس .
روح الفريــق :
في الأساليب التربوية الحديثة التي مارستها في سنواتي الأخيرة من التعليم ، تنظم مقاعد التلاميذ بشكل ( فرق ) ، طاولة مستديرة غالباً حولها بضعة كراسي ، يشكلون فريقاً واحداً ، يتشاورون قبل تقديم الإجابة ، كما أن المدرس يتعامل ( ظاهرياً ) مع الفريق ككل ، لا مع الأفراد ، ويتعاون الفريق في حل التمارين وتقديم الواجبات، وهي طريقة مفيدة ولعلها تزرع روح الفريق لدى أبنائنا فيكونوا أقل أنانيــة منا في عملهم الجماعــي ...بعد أن يتشـربوا روح الفريـق ، وبعـد أن تــذوب ( الأنا) الفردية في ( الأنا الجماعية ) للفريق ...
ديننا دين جماعـي :
وفي كتاب الله عزوجل نجد ربنا سبحانه وتعالى يخاطبنا كجماعة في معظم آيات القرآن الكريم ومنها على سبيل المثال قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } فالضمير المستتر في نعبد ونستعين هو ( نحن ) ، ومثلها{ إهدنا الصراط المستقيم } ، وقوله تعالى الذي تكرر كثيراً{ يا أيها الذين آمنوا ....} فيخاطبنا ربنا عزوجل كجماعة { آمنوا } هذه واو الجماعة وكذلك { الذين } اسم موصول للجماعة ...ويقول العلماء ثلاثة أرباع أحكام الإسلام تخص المجتمع ، أما الأحاديث التي يتضح فيها روح الجماعة والحث عليها فكثيرة جداً منها :
روي عن رسول اللـه rأنه قال : [ إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ] ([1]) كما أخرج مسلم يرحمه اللـه أن رسول اللـه rقال : [ ... ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ] ([2]) وقال الإمام النووي يرحمه اللـه :
( أي مات على صفة من صفات الجاهلية ، وهي أنهم فوضى لاإمام لهم ) . وتعطى البيعة للحاكم المسلم الذي يتولى سياسة المجتمع المسلم وتدبير شئونه وأموره، أما بالنسبة للحديث الأول فإنه إذا كان الأمر باتخاذ أمير في السفر ، فإنه في الحضر أولى ؛ لأن شئون الحياة في الحضر أكثر وأوسع ، والحاجة إلى الأمير أشد مما هي في السفر .
وعن ابن عمر رضي اللـه عنهما قال خطبنا عمر بالجابية فقال : يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول اللـه r فينا ، قال : [ أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب ، حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ، ويشهد الشاهد ولا يستشهد ، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ، عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، من سرته حسنته وساءته سيئته ؛ فذلكم المؤمن ] ([3]).
وخلاصة القول :
أتمنى من كل منا ــ نحن أبناء الحركة الإسلامية ــ القاعدة الصلبة ، والطليعة في تغيير الأنفس ، كي يغير الله أحوال قومنا إلى الأفضل ، أتمنى أن ندرب أنفسنا على روح الفريق ، والعمل المؤسساتي ، ونتدرب على كبح ذواتنا الفردية ، والرقي بشعورنا من ( الأنا) الفردية إلى ( الأنا ) الجماعية ، وأن ننظر إلى مايقدمه أخواننا بعين التكامل ، لابعين التنافس والتحاسـد ... وأن يسرنا ماقدمه أخونا للجماعة ، لأننا أفراد من هذه الجماعة ، يلحقنا خيرها، ويبدو أن التنافس ينقلب في حالات كثيرة إلى تحاسد وتباغض ، يهدم الجماعة ويشرذمها ... وهذا التنافس الذي يصير حسداً وبغضاء تغيير سلبي لما في الأنفس ؛ يغير الله حالنا بعده إلى أسوأ ...وأخشى أن نكون في مثل ما أقول ، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم ...
أسأل الله عزوجل أن يعيينا على تغيير أنفسنا تغييراً ايجابياً ، نغيرها نحو الأفضل ، كي يغير الله أحوال قومنا إلى الأفضل ، والله على كل شيء قدير .