الانتخاب أمانة

د. خالد احمد الشنتوت

يقول الدكتور صلاح الصاوي ( وهو أول من قرأت له في هذا الموضوع في كتاب قضية تطبيق الشريعة في العالم الإسلامي ص172 ) : لقد تمهد في فقه الشريعة أن ولاية أمور الناس من أعظم الأمانات ، وقد أمر الله جل وعلا بأداء الأمانات إلى أهلها - فقال عزوجل : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } - النساء : 58 .  

 يقول ابن كثير (1/516) : نزلت هذه الآية في عثمان بن أبي طلحة لما أخذ رسول الله r مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده إليه ، وكان قد قام إليه علي بن أبي طالب t ؛ ومفتاح الكعبة في يده ، فقال يارسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك ، فقال رسول الله r أين عثمان بن طلحة ؟ فدعي له ، فقال له : [هاك مفتاحك ياعثمان ، اليوم يوم وفاء وبر] ، والآية وإن كانت نزلت في ذلك فإن حكمها عام فتعم كل أمانة وتشمل كل أحد ، قال ابن كثير رحمه الله (وسواء نزلت في ذلك أم لا فحكمها عام ، ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر، أي هي أمر لكل أحد) . أي هي أمر لكل حاكم بأن يعطي الولاية لممن يستحقها من أهلها ؛ دون النظر إلى قرابة أو منفعة شخصية أو قبلية أو حزبية أو طائفية ، وهي كذلك أمر للناخب المسلم - وقد أعطي حق تولية المرشحين - بأن يعطي صوته لمن يستحق هذه الولاية .

وفي روح المعاني للألوسي (5/63) : ( وقد روي عن زيد بن أسلم واختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر ، أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضاً ).

وقوله تعالى { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } - الأحزاب : 72 - قال الإمام القرطبي : ( الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور ... وهي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد ) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :      ( إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لاقيام للدين إلابها )  السياسة الشرعية 184  وقال رسول الله r لأبي ذر t لما سأله الإمارة : [ إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها ] ([1]). قال الوزير ابن هبيرة : ( دل هذا الحديث على خطر الإمارة وأنها أمانة ، وأي أمانة ، وأنها على الأكثر والأغلب خزي وندامة في يوم القيامة ، إلا من أخذها بحقها ، ويعني بقوله [ إلا من أخذها ] بما فيها من حق مجمعاً على أدائه فيها . ثم قال [ وأدى الذي عليه فيها ] والمعنى أن يفي بأداء تلك الحقوق ) ([2]) .

والانتخاب تولية للمناصب ، وقد أعطيت هذه الأمانة للناخبين كي يولوا هذه المناصب مستحقيها ، ممن هم كفؤ لها ، أي قد حملوا أمانة ،....

 وكما أن الأمير أو الإمام مكلف شرعًا بأداء الأمانات إلى أهلها أي أن يولي ويوظف القوي الأمين كما أراد الشرع ، وإن هو لم يفعل ذلك فقد خان الأمانة كما سنبين ، كذلك فإن الناخب أعطي هذه الأمانة وهي تولية من يعتقد أنه الأصلح للمنصب الذي ينتخب له ، وعلى الناخب أن يؤدي الأمانة ولايضيعها .

يقول الدكتور الصاوي (ص175) : ( وإذا ثبت أن تولية أمور الناس من جنس الأمانات ، فقد أمر الله عزوجل في هذه الآية وغيرها من أدلة الشرع بأداء الأمانات إلى أهلها ، وقد جعل النبي r إضاعة الأمانة بتوسيد الأمر لغير أهله من علامات الساعة ، وجعل خيانة الأمانة خصلة من خصال النفاق فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة t : قال رسول الله r : [ آية المنافق ثلاث - زاد مسلم : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ، ثم اتفقا - إذاحدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر، وفي رواية لهما وللترمذي والنسائي مثله ، والثالثة : إذا اؤتمن خان ] ([3])، كما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو tما قال : قال رسول الله r [ أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق ، حتى يدعها، إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهدغدر، وإذا خاصم فجر] ، وبين أن من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه ؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين . كما روى ابن عباس t قال: قال رسول الله r : [ من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هوأرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين] ([4]) ، والناخب يستعمل رجلاً من عصابة (أي يوليه) عندما ينتخبه ، فعليه أن يحذر خيانة الله ورسوله والمؤمنين .

وعن يزيد بن أبي سفيان قال : قال لي أبو بكر الصديق t حين بعثني إلى الشام يايزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة ، ذلك أكثر ما أخاف عليك ، فقد قال رسول الله r : [ من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله ، لايقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم ] ([5]) . وأخرج الشيخان عن معقل قال : سمعت رسول الله r يقول : [ مامن عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ] ([6])  .

يقول ابن تيمية رحمه الله : ( فليس عليه أن يستعمل إلا الأصلح الموجود ، وقد لايكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية ، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه ، فإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام ، وأخذ للولاية بحقها ، فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا ) ( السياسة الشرعية 25 ) .

ويشرح ابن تيمية رحمه الله ذلك فيقول : ( إن الرجل لحبه لولده ... قد يؤثره في بعض الولايات ، أو يعطيه ما لايستحقه ، فيكون قد خان أمانته .. أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته) ( السياسة الشرعية 21 ) .

المستشار مؤتمن :

والناخب المسلم مستشار من قبل الأمة في تولية من يصلح لعضوية مجلس الأمة ، أو لانتخاب من يصلح لرئاسة الدولة ، والمستشار مؤتمن ، أي يجب عليه أن يؤدي الأمانة التي استشارته الأمة فيها ، فلا يغش أمته لأن رسول الله r قال : [ من غشنا ليس  منا ] ، ويغش أمته عندما يولي ( ينتخب ) قريباً أو صديقاً وهو يعلم أن المرشح الآخر أرضى منه لله ورسوله، فقد روت أم سلمة وأبو هريرة tما قالا : قال رسول الله r : [ المستشار مؤتمن ]([7]) .

وعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال : [ من أُفتيَ بغير علم، كان إثمه على من أفتاه] ، وزاد في رواية [ ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره ، فقد خانه ] ([8]).

وهكذا وضح معنى هام جداً ، خلاصته أن الناخب مؤتمن على صوته الانتخابي ، وأُمر أن يؤدي الأمانة إلى أهلها ، ولايجوز له بيع صوته ، أو حجبه عمن يستحقه ، فالصوت أمانة عند الناخب ؛ ويجب على الناخب المسلم أن يؤدي الأمانة إلى أهلها ....

              

([1]) مسلم 3/1457، رقم الحديث 1826 ، في الإمارة .

([2]) الإفصاح عن المعاني الصحاح 2/197، رقم الحديث 385 في فؤاد عبد المنعم أحمد ، شيخ الإسلام ابن تيمية والولاية السياسية الكبرى في الإسلام . ص 214 .

([3]) رواه البخاري (1/83)في الإيمان وغيره ، ومسلم رقم 59 في الإيمان ، والترمذي رقم 2633في الإيمان ، والنسائي 8/117في الإيمان .

([4]) ) أخرجه الحاكم في المستدرك ك الأحكام ب الإمارة أمانة عن ابن عباس بألفاظ متقاربة (4/95). وقال صحيح الإسنادولم بخرجاه ووافقه الذهبي .

([5]) أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي بكر وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وأخرجه مسددبإسنادحسن (2/233)، المطالب العالية وأخرجه أحمد بطريق فيه مجهول(1/6).

(span>[6]) الحديث لفظ مسلم أخرجه في موضعين ك الإيمان ب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار (1/350) والثاني ك الإمارة ب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر (4/492) . وأخرجه البخاري في ك الأحكام ب من استرعى رعية فلم ينصح (9/80) .

([7]) ) أخرجه الترمذي رقم 2823 ، وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة رقم 5128.وهو حديث حسن .

([8]) أبوداود رقم 3657، والدارمي 1/57، والحاكم في المستدرك .