في التجديد الفكري..
مؤسسات وشخصيات
عبد العزيز كحيل
لقد بات مؤكدا عند جمهور المفكرين الإسلاميين أن أزمتنا بعيدة الأغوار متشبعة المسالك متعددة الأوجه، لكنها أزمة فكرية بالدرجة الأولى بمعنى أنها أزمة فكر ومنهج ووسيلة حيث مازلنا عاجزين عن تحويل قيمنا وعقائدنا ومضامين الوحي إلى سلوك وممارسة اجتماعية بسبب العجز في الفهم والتصور الناتج عن أمور كثيرة من أهمها الموقف من الوحي والعقل ومن الأصالة والمعاصرة والخلط بين النص الشرعي من جهة ووقائع تاريخنا وبعد الزمان والمكان من جهة أخرى، فالقيم موجودة لم تتغير ولكن مصيبتنا في العجز عن التعامل معها لإحداث الوثبة الحضارية، والمشكلة فكرية إذاً يتطلب حلها ليس التأكيد العاطفي على وجوب الرجوع إلى القرآن والسنة وإنّما إعادة ترتيب العقل المسلم المعاصر وتحريكه بقوة ليحسن التعامل مع الوحي من ناحية ومع الواقع من ناحية أخرى مهتديا بأصول الإسلام مستلهما مقاصده منقبا عن السنن الإلهية في الأنفس والآفاق أي لا بد من جهاد فكري طويل عميق شامل، وهي مهمة انبرى لها جمع مبارك من العلماء والدعاة والمفكرين بعد أن خرجت معاقل الإسلام الثقافية العتيقة (الأزهر، الزيتونة، القرويون) من ساحة الصراع الفكري والتجديد والعطاء وقنعت بالمعارك القديمة المنتهية، وقد شاءت العناية الإلهية ألاّ تفرغ أرض المسلمين من مثل هذه المنارات الهادية فاستبدل بها معاقل جديدة ترفع راية المعركة الفكرية والتجديد ولمّ الشمل، وهكذا برز إلى الوجود "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" بواشنطن والذي يديره كوكبة من المفكرين الراسخين "ومركز دراسات المستقبل الإسلامي
ط" بلندن، و" مركز الدراسات الحضارية " بالإضافة إلى مركز الدراسات السياسية بإسلام آباد والمؤسسة المتحدة للدراسات والأبحاث ومركز دراسات الإسلام والعالم وكلاهما بواشنطن، وكذا مركز دراسات مستقبل العالم الإسلامي بمالطا، إلى جانب مؤسّسات علمية أخرى قد تصبح أكثر بروزاً مع الأيام.
والحقيقة أن هذه المعاهد والمراكز والمؤسسات استقطبت زبدة العلماء والمفكرين المسلمين المستنيرين وأنتجت في مدة وجيزة من المادة العلمية القيّمة ما يؤكّد جدّيتها وصواب توجّهها، وقد خاضت ميدان المراجعة الفكرية وإصلاح الفكر الإسلامي واستشراف مستقبل المسلمين بكل قوة وعزيمة وصراحة، ولا ينبغي أن يستغني داعية أو طالب علم إسلامي عن إنتاجها وإنتاج العلماء المجدّدين الذين يعالجون أزمتنا بعمق وذكاء وصرامة.
وإذا اتّفقنا على أولوية الأزمة الفكرية فمن الطبيعي أن نعمد إلى الكتب والأبحاث التي تعالجها فننوّه بما يصدر عن المؤسّسات المذكورة من أبحاث قيّمة، كما نذكر أنّ هناك مفكّرين مبرزين وعلماء عاملين أكبوا بالبحث والتحليل على الأزمة فشرحوا وبيّنوا وناقشوا واقترحوا الحلول _ ومازالوا يؤلّفون ويحاضرون _ بعضهم يعمل بالتنسيق المباشر مع تلك المعاهد والمراكز وبعضهم مستقلّ لكن يجمع بينهم تقاسم الهم وأسبابه والمنهج المتوخّى لبلوغ الحلّ، ولعلّه من المفيد أن نذكر بعض هؤلاء خدمةً للحركة الواعية وأبنائها ولفتاً للانتباه إلى الانتاج الجيد المرجو انتشاره بين المثقفين الغيورين على أمتهم، فبالإضافة إلى الدكتور القرضاوي والشيخ محمد الغزالي الّذين لا يحتاجان إلى تعريف ولا يزهد في كتبهما مسلم صادق نذكر مجوعة من المفكرين ومِلفاتهم:
فهناك المفكّر الإسلامي العملاق وثالث ثلاثة أقطاب شبه القارّة الهندية (مع المودودي وأبي الحسن الندويرحمهما الله) الأستاذ وحيد الدين خان، وهو عالم تقي له مصنّفات رائدة في التّجديد إذ أبلى البلاء الحسن في نقد الحركة الإسلامية عموماً واقتراح العلاج في ضوء الشّرع والواقع.،ومن المفيد دراسته كل كتبه وخاصة منها:
- واقعنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام.
- قضية البعث الإسلامي: المنهج والشروط.
وهناك المفكر العراقي الكبير الدكتور محسن عند الحميد صاحب النظر الثاقب، وأهم كتبه:
- تجديد الفكر الإسلامي.
- أزمة المثقّفين تجاه الإسلام.
- المذهبية الإسلامية والتّغيير الحضاري.
كما نذكر المفكر السوري الرّاسخ في علم الاجتماع الأستاذ جودت سعيد الذي يحق اعتباره وارث علم مالك بن نبي رحمه الله، ونقترح من كتبه الكثير:
- حتى يغيروا ما بأنفسهم.
- اقرأ وربك الأكرم.
ونذكر كذلك المفكر السوري القدير الأستاذ عمر عبيد حسنة الذي يمتلك باعاً كثيراً في فقه الدعوة، ومن أهم ما كتب:
- نظرات في مسيرة العمل الإسلامي.
- مراجعات في الفكر والدعوة والحركة.
وللدكتور المعروف محمد عمارة إنتاج قيم وفير لا يستغني عنه داعية خاصّة بعد أن تحرّر من انتماءاته العروبية الاعتزالية السابقة (وإن كان ما كتبه آنذاك لا يخلو من القيمة العلمية)، وأبحاثه منتشرة في المجلات العربية الكبيرة، وقد ملأت كتبه ومحاضراته الأرجاء.
إلى جانب هؤلاء الأقطاب يوجد عشرات الأفذاذ الّذين يحسن الإكباب على إنتاجهم الفكري، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الدّكتور حسن التّرابي صاحب النظرات الأصولية الموفّقة (انظر كتابه الهام تجديد أصول الفقه)، والكاتب الصحفي الذّكي فهمي هويدي، والدّاعية الصّابر المرابط راشد الغنوشي والعالم الجليل والفقيه الحركي الدّكتور فيصل مولوي.
إنّ هؤلاء وغيرهم يخوضون _ كما ذكرنا _ المعركة الفكريّة لمواجهة أزمتنا الشّاملة بدءً بإعادة بناء العقل القادر على استلهام الأصالة وهضم المعاصرة وإقامة منظومة فكرية إسلامية بديلة بالرّجوع إلى القرآن والسنّة لا للتّبرّك وإنما لتحويل قيمها إلى واقع وبرامج تنظّم الحياة، ولذلك نجد هؤلاء العلماء لا يشتغلون بحرفية النص وإنما بمقاصده، فانتقلوا من الاكتفاء بالبحث في آيات الأحكام إلى فقه السنن والآفاق لاكتشاف القوانين التي تحكم الحياة الأحياء، وهذا التحول العلمي هو الذي يجدر بأبناء الحركة الإسلامية أن يواكبوه ويأخذوا منه ويتفقهوا عليه ويتعلّموا منه المقاييس الثقافية للتعامل مع الأفكار السائدة ويقلعوا عن الطواف العاطفي أو التّقليدي البارد حول الأصول والمبادئ والقيم التي وضعها القرآن ليحولوها إلى برامج وخطط وآليات تخدم المشروع الإسلامي وبذلك يحدثون المعجزة الإنسانية التي تكمن في قدرة الرسالة الإسلامية على إيجاد نماذج معاصرة تبني الكيان الإسلامي الحديث من خلال الفعل البشري الواعي المدرس، وفي هذا الإطار نجد أنصار التجديد هؤلاء ينقلوننا من الفكر التعبوي إلى التفصيل على أيدي المتخصّصين وهو ما نألفه من قبل ضمن دائرة الانتماء الساذج للدين الحنيف.
وإن كلّ من يحس بأزمة الأمة ويعيشها في روحه ولحمه يدرك أهمية الانطلاقة التصحيحة نحو العلاج بعيدا عن الارتجال والحلول الجزئية والنظرة الذرّية وإهدار الطاقات في الاغتراب الزّماني والمكاني أو محاولات التّلفيق الفاشلة بين الإسلام والأنظمة المختلفة، ومرّة أخرى تبدو جدارة تيار التجديد الإسلامي الذي يشيع جو الحرية في التّفكير ولا يمنع العقل من العمل الحر بل يهيب بكل المسلمين كي يساهموا بكفاءاتهم في إنقاذ الأمة ونصرة الإسلام ، وأدب هذا التيار هو أدب الوسطية والصّراحة والعمق والنّفس الطّويل والعلم الغزير والبناء المتواصل، فهلاّ التفّ حوله الدعاة والشّباب الواعي المعطاء من أجل الإسلام وأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟