البراغماتية
مصطلحات سياسية:
البراغماتية
د. خالد احمد الشنتوت
يستخدم هذا المصطلح في السياسة ، فيقال : فلان براغماتي ، والحركة الفلانية حركة براغماتية ، وفي أغلب الأحوال يقصد بها النفعية أو من يغلب الجانب العملي على النظري والجانب النفعي على المبادئ ...
فماهي البراغماتية !!!؟
الأصل اللغوي للمصطلح يرجع إلى الكلمة اليونانية Progma وتعني (عمل) أو (مسألة عملية) ، ولقد استعار الرومان المصطلح واستخدموا عبارة Progmaticus فقصدوا بها "المتمرس" وخاصة في المسائل القانونية .
أما من ناحية تاريخ الفكر فالمصطلح يشير إلى تلك الحركة الفلسفية التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وارتبطت بأسماء الفلاسفة الأمريكيين بيرس ووليام جيمس وجون ديوي والتي تتمركز فلسفتها حول مقولة مؤداها :
لا يمكن التوصل إلى معاني الأفكار ، ومن ثم لا يجب تفسيرها ، إلا بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها ، كما أنه لا يمكن تحديد المعتقدات أو تبرير التمسك بها إلا بالأخذ في الاعتبار النتائج العملية المترتبة على الإيمان بهذه المعتقدات .
فالحقيقة إذن ثانوية إذا ما قورنت بالممارسة العملية ، ذلك أن الحقيقة وفقاً للنظرية البراغماتية ما هي إلا الحل العملي والممكن لمشكلة ما ، كما أن المبرر الوحيد للإيمان بأي شيء هو أن التمسك به والعمل وفقاً له يجعل الفرد في وضع أفضل مما لو كان إذا لم يتمسك به .
أما بصورة أوسع فالمصطلح يستخدم للإشارة إلى أي مدخل يركز بالأساس على ما يمكن عمله في الواقع لا على ما يجب عمله بالنظر إلى عالم المثاليات .....
فالبراغماتية بدلاً من أن تركز على مقدمات الأفكار فإنها تركز على النتائج المترتبة على تلك الأفكار ، فهي تـُوجه نحو الاهتمام بالأشياء النهائية وبالنتائج ومن ثم ، هي لا تعنى بالسؤال عن ماهية الشيء أو أصله بل عن نتائجه ، فتوجه الفكر نحو الحركة ونحو المستقبل.
ورغم أن البعض يؤمن أن البراغماتية ما هي إلا أحد أشكال الأمبيريقية ، إلا أن البراغماتية تجد جذورها في أفكار ومذاهب متعددة مثل فكرة العقل العملي لكانط ، وفي تمجيد شوبنهور للإرادة ، وفي فكرة داروين أن البقاء للأصلح ، وفي النظرية النفعية التي تقيس الخير بالنظر إلى مدى نفعيته ، وبالتأكيد في المفاهيم الأمبيريقية للفلاسفة الإنجليز ، وكذا في طبيعة المجتمع الأمريكي الجديد .. فالبراغماتية تُعَد بحق رد الفعل الدفاعي للمفكرين الأمريكيين تجاه الفكر الأوروبي ، خاصة الفكر الألماني المغرق في الميتافيزيقا.
ولعل هذا التنوع في الأصول الفكرية لمذهب البراغماتية هو الذي جعل وضع تعريف شامل جامع لمفهوم البراغماتية مهمة صعبة للغاية ، وليس أدل على ذلك من أن آرثر لوفجوي قد نجح في عام 1908 في تجميع ثلاثة عشر معنى مختلفاً للبراغماتية بل ودلل على أن بعضها يضاد البعض الآخر .
وهذا التعدد في التعريفات وكذلك تنوعها يرجع إلى أن البراغماتية كفلسفة وجدت أنصاراً وتطبيقات لها في ميادين متنوعة للمعرفة منها العلوم الطبيعية والقانون والأدب والاجتماع والسياسة و كل ميدان يطبقها ويفسرها من منطلق خبراته الخاصة ، ولقد اعترف يابيني في كتاب قدم به المذهب إلى الفلاسفة الإيطاليين بأن البراغماتية لا يمكن تعريفها وأن أي فرد يحاول حصرها في عبارات قليلة بغرض تعريفها يكون مرتكباً لأفظع الأشياء غير البراغماتية . ولقد حاول ثاير في كتاب يستعرض التطور التاريخي للمذهب رسم الخطوط العريضة لأهداف ومكونات البراغماتية فقرر أنها :
ــ قاعدة إجرائية لتفسير معاني بعض المفاهيم الفلسفية والعلمية . ونظرية في المعرفة والخبرة والواقع تؤمن بأن :
أ - الفكر والمعرفة نماذج مطردة التطور اجتماعياً وبيولوجياً وأن ذلك – يتم عن طريق التوافق والتأقلم .
ب- الحقيقة متغيرة والفكر ما هو إلا – مرشد لكيفية تحقيق المصالح والوصول إلى الأهداف .
جـ- المعرفة بكل أنواعها ما هي إلا عملية سلوكية تقييمة للأوضاع المستقبلية وأن التفكير يهدف – عن طريق التجربة – إلى تنظيم وتخطيط والتحكم في الخبرات المستقبلية .
ـــ توجه فلسفي واسع تجاه إدراكنا لماهية الخبرة وأهميتها للمعرفة .
ولكن حتى هذا التعريف العام جداً تم نقده على أساس أنه لا يبرز بدرجة كافية النظريات المتعارضة المتعلقة بالوسائل وبالواقع وبطبيعة المعرفة والتي يتبناها البراغماتيون ذوو الخلفيات الثقافية المتنوعة ، والمنتمون إلى مدارس مختلفة في حقول فكر متعددة . ولكن إذا كان هذا التنوع يؤدي إلى صعوبة وضع تعريف شامل جامع لمذهب البراغماتية إلا أنه لا يعني انعدام وجود مجموعة متجانسة ومتماسكة من الأفكار التي يتميز بها المذهب .
فبمراجعة المشكلات التي حاول المفكرون المنتمون لهذا المذهب مواجهتها وبالرجوع إلى الأفكار الأساسية التي رفضوها نستطيع أن نحدد المفاهيم الأساسية والمشتركة التي تتميز بها البراغماتية على تنوع تطبيقاتها ، وأهم هذه المفاهيم هو الاعتراض على الفصل المطلق بين الفكر من جانب والحركة من جانب آخر ، وبين العلم البحت والعلم التطبيقي ، وبين الحدس والتجربة .
وكذلك عدم الإيمان بوجود أشياء خارقة للطبيعة تتحكم في مقدرات العالم وكذا رفض المعايير المطلقة والأزلية للمعتقدات والقيم وإحلال معايير أكبر مرونة وأكثر محدودية محلها .
ولقد كان للبراغماتية بأفكارها المميزة أثر كبير في تطور الفكر السياسي في الولايات المتحدة بصفة خاصة .
فالمفكرون السياسيون المتأثرون بالبراغماتية يرفضون على سبيل المثال الفصل بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة ويؤمنون بالمذهب الفردي ويرفضون التسلطية والشمولية وكلها معتقدات تتسق مع تمجيد البراغماتية لإرادة الإنسان ولحريته والنابعة من قدرته على التحكم في مصيره دون ما تدخل من قوى أخرى ، كما أن اهتمام البراغماتية بالنتائج وبمدى اتساقها مع مصلحة الفاعل أدى إلى تبني المفكرين السياسيين البراغماتيين للنظرية النفعية .
خـاتـمـــة :
المعروف لدينا أن الفلسفة السائدة في المجتمع الأمريكي هي البراغماتية ،وأن السياسة الأمريكية سياسة براغماتية ، وهذا يعطي هذه الفلسفة مكانة عالية ، لأن المجتمع الأمريكي يقود العالم كله اليوم ـ شاء أم أبى ـ بقوته العسكرية ، وبقوته الاقتصادية ، وبقوته السياسية ...
وقد وصل المجتمع الأمريكي هذه المكانة من القوة لأنه لاتهمه ـ النظريات والمثل ـ التي تخـدر الشعوب في العالم الثالث ، وإنما يهمه النتائج العملية ، والسلوك الناتج عن هذه الفلسفة ... وهكذا في الظاهر اليوم أن أمريكا أقوى أمة في العالم ....
ولكن هناك فلاسفة ومفكرون يرون أن أمريكا على حافة الانهيار ـ أخلاقياً واجتماعياً ، واقتصادياً ــ ، وقد بشـر سيد قطب يرحمه الله بانهيار أمريكا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ، ثم يفلس العالم من النظم والفلسفات التي تفسر الحياة وتضع لها شريعة يرضى عنها الناس ، ويتطلع البشــر كلهم عندئــذ إلى الإســـــلام
وهذا ماجاء في كتابه [ المستقبل لهذا الدين ] ...
... واليوم أفلس الاتحاد السوفياتي بل انهار وولى ، وانهارت الماركسية ، ونحن الذين عشنا شبابنا طلاباً في الجامعة أيام هيمنة الماركسية على الفكر العالمي ورأينا بل عشنا كيف كانت الماركسية مهيمنة على الفكر العالمي ، ولذلك أضعنا أشهراً بل سنوات في دراستها وتدريسها ( نحن طلاب الفلسفة )...ندرك أن هيمنة أمريكا ـ مادياً ـ ليست أقوى من هيمنة الماركسية ـ فكرياً ـ على العالم ، وقد انهارت الماركسية ـ غير مأسوف عليها ـ وسوف تنهار براغماتية أمريكا أيضاً .. ولعل مانشهده اليوم من أزمة مالية خانقة قد تكون بداية النهاية لانهيار أمريكا ...
ويشارك سيد قطب مفكرون آخرون ، يعتقدون أن قوة أمريكا المادية لاتتنناسب مع قوتها الروحية والأخلاقية ... وهذا الاضطراب والاختلال في التوازن سيقضي على الحضارة الأمريكية آجلاً أم عاجلاً ... ونرى ذلك واضحاً من ممارسات الأمريكيين في ( أبو غريب ) وفي أفغانستان ، وفي غوانتمالو ، وفي القضية الفلسطينية ، حتى أنها تعلن على الملأ بلغة أو بإشارة أن الدم الفلسطيني لا قيمة له حتى لو كان دم الأطفال الأبرياء ، الذين تقتلهم الصواريخ الصهيونية وهم في نـزهـة على الشاطئ .... أو تقتلهم طائرات ( ف 16) بالمئات في بيوتهم ، وفي أحضان أمهاتهم خلال حرب الفرقان الأخيرة في غـزة مطلع العام الحالي (2009) ، أما العمليات الاستشهادية التي ينفذها الشباب المسلم دفاعاً عن وطنه ودينه وعرضه ودمـه ، فهذه عمليات إرهابية تجمع قادة العالم كلهم إلى ( شرم الشيخ ) كي تحارب هذه العمليات ( الإرهابية ) كما تقول أمريكا ...هذا الخواء ، والتناقض ... والكيل بمكيالين ... سوف ينتبـه لـه الأمريكيون أنفسهم ...وسوف يحطمون عندئذ أسطورة الحضارة الأمريكية ( البراغماتية ) ...
والعالم بحاجة إلى أمـة تقوده إلى الخير ، وتـدلـه عليه ، تشهد عليه ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وهذه بالتأكيد ليست هي الأمة الأمريكية ، وليست هي الفلسفة البراغماتية .....
العالم كله ينتظر أمـة تعيش على الأرض ، ولا تعيش في بطون الكتب والمجلدات ، أمة تطبق المكيال الواحد مع الجميع ، أمة تطبق ( الناس سواسية كأسنان المشط)، أمة تطبق ( لافرق بين عربي وأعجمي ، ولا أبيض وأسود إلا بالتقوى )، أمـة تحافظ على الإنســـان أي إنســان من الضياع والتشرد والجوع والظلم ، أمـة تخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد .... وهذا سيكون لامحالة ( والله غالب على أمره ) ، وعسى أن يكون قريباً ....