أنا قسام يا بابا
أنا قسام يا بابا!
صلاح حميدة
أنا قسام يا بابا ... بهذه الجملة رد طفل القائد الفتحاوي قدورة فارس على والده، عندما سأله عن ماهية بعض الحركات العسكرية التي كان يقوم بها، وهو لم يتعدّ السبع سنوات، جاء هذا الحديث على لسان القائد الفتحاوي قدورة فارس من قرية سلواد شمال شرق مدينة رام الله، مسقط رأس خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خلال مقابلة صحفية مع صحيفة الغد الأردنية، وذكر خلالها أن أمه الثمانينية كانت تزجره لكونه قائداً في حركة فتح وحركة فتح لا تفعل شيئاً لنصرة أهل غزة، ولكن ما لفت النظر أكثر، أن قدورة فارس ذكر أن ولده الثاني الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، سمع المحادثة بين والده وأخيه الصغير ذي السبعة أعوام، وعندما رد والده على ولده القسامي الصغير، بأن فتح عملت وناضلت، رد عليه ولده ذو الثلاثة عشر عاما، بالقول: ( كان زمان يا بابا)، ويعقب قدورة فارس على موقف عائته من أمه الثمانينية التي ولدت قبل أن تظهر حركة فتح، والتي عانت أثناء تجوالها خلف ولدها قدورة في سجون الاحتلال، مروراً بولديه الطفل والصبي، يقول قدورة: ( الحركة الفلسطينية التي لا تقاتل، تمحى من ذاكرة الشعب الفلسطيني).
قبل التطرق للتحليل لواقع حركة فتح الحالي على لسان قادتها، وما آل إليه وضعها حتى في بيوتات فتح العريقة، لا بد من عرض مشاهد أخرى متتابعة منذ زمن، وتحليلها للوصول إلى ما آلت إليه الأمور حالياً.
قبل فترة كتب القائد الفتحاوي زياد أبو زياد مقالاً بدأه بالقول إن زوجته قالت له: ( إذا نظمت انتخابات غداً، سوف أنتخب حماس)؟! وكان بذلك يدق الجرس لقيادة فتح حول الدور الذي تقوم به الأجهزة الأمنية الفتحاوية ضد عناصر حماس، أمام الكاميرا الإسرائيلية، وأثر ذلك على أكثر الناس تأييداً لحركة فتح.
لم تكن هذه المواقف وحيدة على الصعيد الفتحاوي، فقد قام مسؤول التعبئة والتنظيم أحمد قريع بمهاجمة فياض وحكومته، بشكل لاذع، ووصفهم بأوصاف قاسية، وقام في الفترة الأخيرة بالدعوة صراحة إلى إعادة تشكيل منظمة التحرير وإدخال كل الفصائل فيها، في تناقض واضح مع التيار الذي يرفض إدخال حماس للمنظمة بأي ثمن، ولكن المطلوب منها(حماس) الاعتراف بالمنظمة (كما هي) حسب هذا التيار؟!. كما شن عيسى قراقع، وهو قيادي في فتح هجوماً لاذعاً على الأجهزة الأمنية وحكومة فياض، ووصفهم ب( الأرانب)، وهو توصيف لحيوان يفر مذعوراً إلى جحوره عندما يحس بالخطر، وثارت حينها عاصفة ضده، وكتب أحد ضباط فتح وقتها مقالاً بعنوان( هل أنا أرنب؟).
لم يتوقف هذا السيل من المواقف والتصريحات والتلميحات، من جبريل الرجوب، وناهض الريس وحسام خضر( أعضاء مجلس ثوري في فتح) وسميح خلف ومنير شفيق والقدومي وهم قادة في فتح أيضاً، وهاني الحسن عضو اللجنة المركزية الذي كان أول من أطلق على تيار في حركة فتح في بداية التسعينات وصف: (التيار الصهيوني )،وظل في عداء شديد مع هذا التيار حتى وقف موقفاً مسانداً لحماس في غزة بعد محاولة الانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية من هذا التيار، الذي سماه بالصهيوني.
كان لي صديق عزيز من قادة العمل الطلابي في حركة فتح ( الشهيد حسن القاضي)، وقف هذا الرجل الذي كانت طاقته لا تنضب أبداً، وقف يوما معي أمام مقر لحركة فتح(عام1996)، بالقرب من مقبرة البلدة، وكان ينظر إلى مجموعة من الداخلين إلى المقر الذي كان مبنى مهجوراً قبل ذلك، وقال لي: (هل ترى هؤلاء، نحن في فتح نسميهم: فتح أوسلو)! أتمنى أن تعود الانتفاضة ويعود هذا المقر قبراً بين القبور)؟! طبعاً جاءت انتفاضة الأقصى، وقدر الله لهذا الرجل أن يقوم بعملية نوعية، ويستشهد فيما بعد في انفجار غامض، ولكن الله حقق أمنيته بعودة الانتفاضة، ولا زال هذا المبنى مهجوراً حتى اليوم، وحتى الذين أسماهم بفتح أوسلو لم يطأوه إلى اليوم؟! طبعاً كان واضحاً من كلامه أن هذا الفريق لا يؤمن بالعمل والتضحية، وأقبل على حركته لجني المكاسب، وأن أول محك لهؤلاء سيكون بانطلاق ثورة جديدة، ستجعلهم يهجرون حركة فتح ومقراتها، لأن هناك ثمناً هم لا يريدون دفعه.
في أيام الصبا، وبداية أيام الشباب لم نكن نعرف إلا حركة فتح وياسر عرفات، وكان الأطفال يفعلون مثلما يفعل طفل قدورة فارس، نصنع بنادقنا من أي شيء، ونسمي أنفسنا بالفدائيين، وسيء الحظ كان من يكون في الطرف المقابل عندما نلعب لعبة ( عرب ويهود). كلام قدورة فارس وقبله القيادي في حماس حسن يوسف، بأن الحركة الفلسطينية التي لا تقاتل تمحى من ذاكرة الشعب، أكده الكاتب الفتحاوي زكريا محمد في صحيفة الأيام الفلسطينية، واعتبر هذا المقال صرخة في حركة فتح ( إما الاشتباك.. وإما الانتهاء والذوبان)، هذه التراكمات في الدعوات منذ بدايات أوسلو وحتى اليوم لم تكن وليدة الصدفة، وكانت ولا زالت نتاجاً لصراع محتدم بين أجنحة متنافرة داخل حركة فتح، فحركة فتح معروفة بأنها حركة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكان الرئيس الراحل ياسر عرفات يمسك كل هذه الأجنحة ويحركها، وأحياناً يضربها ببعضها، عقاباً لهذا أو رغبة في تقوية ذاك. وكان عرفات كما قيل من أكثر من قائد فتحاوي، يدافع عن ( استخدامه لمن يطلق عليهم التيار المتصهين، أو فتح أوسلو… الخ) بأنه يستخدمهم كأحذية حتى يصل إلى ما يريد، ووصل الصراع أوجه بين هذه الأطراف خلال انتفاضة الأقصى وكان يصل حد الصراع المسلح، وكان هؤلاء يتهمون بأنهم كرازايات وأدوات أمريكية وإسرائيلية، حتى وصل الأمر أن أرسل ياسر عرفات نفسه لبعضهم من يطلق عليه النار.
بقي عرفات ممسكاً بالعصا من وسطها بين التيار المقاتل والتيار الذي يطلق عليه الفتحاويون(المتصهين)، أو يطلق عليه بعض المحللين التيار الذي يحارب كل أشكال المقاومة ومن ضمنها رجم الاحتلال بالحجارة؟!.بعد قتل عرفات مسموماً بطريقة غامضة، وإقفال ملف التحقيق في قتله، بدأ تيار الحركة المقاتل يتفكك ويتراجع، في حين كان التيار المعادي له في الحركة يتعاظم بدعم سياسي ومالي كبير من الإقليم والخارج، واستمر هذا التراجع حتى الانتخابات الفلسطينية وفوز حركة حماس، مروراً بأحداث الصراع الداخلي، والذي للغرابة كانت أطراف في فتح تدعو حماس للقضاء على ما يسمونه الفريق المتصهين، وألا تتعامل معه بأسلوب إدارة الأزمة، على رأس هذا التيار كان هاني الحسن الذي خرج مباشرة بعد أحداث غزة لتأييد حماس في فعلها، ولكن كانت التحولات في حركة فتح قد بلغت درجة لم يعد بالإمكان إصلاحها، فقد استطاعت القوى المعادية للبندقية، السيطرة تماماً على حركة فتح وجندت في سبيل ذلك الإعلام والمال كسلاح في هذه المعركة، وكان أغلب كوادر فتح من الموظفين في السلطة، وأصبح موعد الصلح مع حماس يعتبر موعداً مع الجوع، وعملت الماكينة الإعلامية على التأجيج الإعلامي واقتناص أي خطأ من حماس، أو حتى اختلاقه، والترويج والتشهير، وشحن عناصر فتح ضد حماس، وأسوأ ما في الموضوع أن جمهور فتح أصبح يعتقد أن حماس هي عدوه وليس الاحتلال، وعندما تسمع ما يعبئون به عناصرهم وخاصة صغار السن، بكل شيء يشيطن حماس أمامهم، لدرجة أن الكثيرين منهم أصبحوا يعتبرون الاحتلال حليفاً لهم ضد حماس، وهو ما تثبته الممارسة على الأرض، ويعتقد الكثير من المحللين، أن الإعلان من حكومة فياض عن أزمة مالية في كل وقت يتم فيه التقارب، أو ضغط شعبي للتقارب والمصالحة، ما هو إلا تذكير لجمهور فتح بلازمة:( الصلح مع حماس يعني الجوع لكم)؟!.وأصبح استحضار المناسبات الفتحاوية لشتم وسب حماس، فعلاً معتاداً، والبطل هو من يشتم حماس أكثر، فقد حدثني أحدهم قائلاً أن لقريب له ولداً يتردد على مؤسسة شبابية تابعة لحركة فتح، وأن ولده يأتيه كل يوم ويقول له حماس فعلت وحماس قتلت و… الخ، وأن قريبه هذا أصبح يخاف على ولده، خاصة أنه أصبح يعتبر أن عدوه هو حماس وحليفه هو الاحتلال، فقرر في يوم من الأيام أن يجلس مع ولده ويتناقشا، فقال لولده: ( نحن لاجئون أليس كذلك) ، فقال له ولده: (نعم) ، فقال الوالد: ( من احتل بلدنا وطردنا منها وقتلنا وشردنا ويمنعنا من العودة إليها؟ حماس أم اليهود؟)، فصمت ولده قليلاً وقال: ( اليهود)، فقال له والده: ( هؤلاء هم أعداؤنا وليس حماس).
التيار المقاتل في فتح خسر الصراع مع التيار( الأوسلوي)، وكل محاولات استعادة مواقعه السابقة فشلت حتى الآن، ولم تزد كل التصريحات والانتقادات من قادة التيار الممانع والداعي للتقارب والتصالح مع حماس، عن كونها صراخاً بلا طائل، ولا أثر لها عملياً بين صفوف الحركة وقواعدها، فهذا التيار لا يملك المال ولا الدعم السياسي، إضافة إلى أن الاحتلال لن يسمح له أن يستعيد مواقعه السابقة، فالمطروح الآن على الساحة هو الإقصاء والإنهاء لهذا التيار ولغيره وعلى رأس المطلوب رأسهم حركة حماس. وأعتقد جازماً أن هذا التيار بدأ يدرك أبعاد الإقصاء الذي جرى له ويجري لغيره، وهو يعلم علم اليقين أن قوة حماس هي قوة له، وضعفها ضعف له، وكل مراقب يلحظ تصاعد وخفوت خطاب التيار الممانع حسب صعود وصمود حماس، كما أنني أعتقد أن قدورة فارس على الأقل لم يكن فقط يقرع الجرس لخطر داهم على مصير حركة فتح، حول خسرانها لكافة البيوت العريقة التي دعمتها تاريخياً، بل إنه أحب أن يقول أن عائلتي اختارت أن تكون مع المقاتلين، ولن تكون أبداً بين من يحرف بوصلة البندقية الفلسطينية، وأن من لا يرى إلا حماس عدواً سيخسر الشارع، والغريب أن ذلك التصريح كان متزامناً مع موجة شتائم ضد حماس وخالد مشعل، والتي أظهر الحشد الإعلامي الكبير لمشروع الشتائم هذا، أنه لم يتمخض عن حشد جماهيري مماثل، وكان الحضور هزيلاً، فهل هناك من سيأخذ هذه العلامات على محمل الجد، أم أن قراراً اتخذ بالسير في هذا الطريق (حتى النهاية) كما قال أحدهم.