غزة درّة المدن

غزة درّة المدن

سوسن البرغوتي

لأن المقاومة هي القانون الذي تؤمن به الشعوب لتحقيق تحررها وحريتها، التف الشعب الفلسطيني حولها، فبعد مسيرة نضال طويلة، أثبتت أنها وحدها القادرة على تجسيد حقهم بالدفاع عن أرضهم، وحقهم بالحياة..

كل ذلك، مع تنامي الإصرار على التمسك ببرنامج المقاومة، رغم الاعتقال الجماعي للشعب بأسره، ومحاصرته في بقعة جغرافية لا تزيد عن 360 كم مربعًا.

إن قوة المقاومين على الأرض وثباتهم، وردع القوات المعتدية، تؤكد نظرية إيمان الشعوب بقضاياها، طريقًا لتحقيق الانتصار، والبوصلة التي توجّه المسيرة، والإمامة النضالية. فالكل، شعب ومقاومة من نسيج واحد، والأبطال لم يأتوا من كوكب آخر.

شباب غزّة وشيّابها، أطفالها وحرائرها، علماء وطلاب، عمال وفلاحين، شعلة لن تنطفئ، وسيعيدون بناء الصرح على أسس وأعمدة قوية، وستعود كأن الرياح المجنونة لم تعبث بها، وهذا التصميم دفع الشعوب العربية وأحرار العالم لمساندتهم ودعمهم بكل الطرق والوسائل، وبالتالي فرضوا على العدو التراجع.

كثيرة المشاهد في غزّة، وأكثر منها اللوحات الحيّة المتكاملة، أطفأوا أنوارها وأحرقوها، إلا أنها أضاءت العالم بأسره بنور الحقيقة، وأن بالإرادة والعلم والعمل، لا بد للظلام أن ينجلي.

خلية جماهيرية تعمل لإزالة آثار دمار الأبنية والمساجد وكل ما طالته آلة التوحش، والعلماء في غزة يسارعون لابتداع ما يمكنهم، والتعويض عن الحصار بطرق ووسائل علمية. النساء شقائق الرجال، ومعهم يعيدون ما دُمر بالصبر والحلم والحكمة.

الطفولة بدورها، لم تقهرها الدبابات ولا الركام والكم الهائل من التدمير، وإصرارها على حقها باللهو واللعب، لم تستطع الغارات أن تدفن أحلام براعم تتوق للحياة المتفتحة..العبقة.

أحمد  الصغير، طالب ثائرًا بحقه في اللعب والتسلية والتعلم، كبقية أطفال العالم، إلا أنه أطلق نظرية في نهاية حديثه، دون أن يدري، وبلغة بريئة قال: هذا أكبر حصار لـ "إسرائيل"!، وهو يقصد، حصار العدو للقطاع، إلا أن التأويل لهذا الذكاء الجريء، أن حصار غزة، هو حصار على "إسرائيل"، الأصح والأدق. فغزة اليوم، تحاصر العدو سياسيًا وعسكريًا، والتهدئة حاجة ملحة لقادتهم السياسيين، للملمة الإحباط بين جنودهم، حيث لا هم بهمجيتهم المجنونة أعادوا الأسير، ولا أعادوا احتلال غزة.

كما أن الرأي العالمي مجتمعًا، لم يعد متعاطفًا مع الكيان الصهيوني بعد استخدام أسلحة محرمة دوليًا، وتلك المجازر الهمجية، وكان تحرك شعوب العالم يمثل رد فعل غاضب على الاعتداء لشعب محاصر من كل الجهات، وكان من المتوقع "إسرائيليًا" وعربيًا رسميًا معتدلاً وعالميًا، أن يركع شعب غزة ويستسلم، لكنه أبدًا لم ولن يفعل. فهل وصلت كلمة الطفل الذكي بالفطرة إلى مسامع الساسة الكبار؟!.

هابيل اليوم عاد ليظهر في غزة.. عاصمة المقاومة بقلب طفل، لم يعد قتيلاً، بل متمسكًا بالحياة مدافعًا عنها.. رافضًا الموت، لم يعد يطيق صمت العالم عن جريمة قابيل، الذي  جهّز مقبرة لآلاف المعتقلين أحياء وشهداء، فانقلبت جريمته عليه، وانكشف أمام العالم بأسره.
قابيل محاصر أيضًا، لقد سقط القناع عن وجهه القميء، فحتى العدو يحتقر الذليل، ويحترم كل مطالب عنيد لحق أكيد، فليبحث عن مدن الجريمة والفساد والرذيلة.. مكانه هناك، حيث ينتهي إلى ما يستحقه في القاع، سقوطًا في هاوية ليس لها قرار.

لله درك يا غزة، فأنت درّة المدن، وأنت عاصمة الحق والنور، وخير وأصدق من يمثل عنقاء فلسطين، من الرماد تعود محلقة بعنفوان من جديد، وأبعد من الحدود.