اليهود والعلم

اليهود والعلم

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

لقد كان من ديدني مؤخراً أني كلما اختلطت بالطلبة في جامعتي عرضت لموضوع فلسطين، وحاولت أن أجعل له مكاناً بين أحاديثنا الأخرى، إذ كما قال أحد أقاربي مرة وهو يناقش أستاذاً له: إن إعطاء فلسطين حيزاً من أفكار عقولنا وأحاديث ألسنتنا ليس تفضلاً على إخواننا في فلسطين (وفي العراق وأفغانستان وكل مكان)، بل هو أقل ما يمكن أن نصنعه من أجلهم بحال، وهو أقل أقل القليل. وكنت أزور صديقاً لي في غرفته منذ عدة أيام، فملنا في حديثنا إلى الفلسطينيين واليهود. كنا وقتها نتحادث وهو يريني صوراً على شاشة حاسوبه، وأتت صورة له هو وزملاء له وهم يأكلون طعامهم مع أستاذ من خيرة أستاذة جامعتنا، أستاذ باكستاني ساح في الأرض واستقر مدة في أمريكا وعمل هنالك مدرساً في إحدى الجامعات، فجعل يحدثهم عن قصة له هناك، فقال إنه كان يحاضر في فصل جامعي، وكان من بين طلبته طالب شاب صغير السن، كلما سأل الأستاذ سؤالاً رآه أول المستجيبين، وكان ممتلئاً حماسة وحباً أن يستزيد من العلم، فأعجب به أستاذنا وصار يعطيه مزيداً من الاهتمام والرعاية ويعلمه ويرشده، حتى أتاه ذات يوم أستاذ آخر من الجامعة وقد أدرك ما كان بينهما، أتاه وسأله إن كان يعلم ما شأن هذا الفتى الذي يهتم به ويعطيه وقته، وإذا به يخبره أن الفتى فتى يهودي، وأن أباه وأمه من أعيان المنطقة المعروفين. كانت تلك مفاجأة للأستاذ المسلم، وحقق أستاذنا في الأمر فعلم أن فتاه ليس حتى من طلبة هذه الجامعة، لأنه لم يتخرج بعد من المدرسة! ذلك أنه يعد نفسه منذ أيامه تلك لما هو آت حتى يكون من السابقين المتفوقين. ولما أتت عطلة الصيف بعد ذلك الفصل وذهب من ذهب إلى الشواطئ والمصايف الأخرى ليلعب ويستجم، علم أستاذنا أن الفتى اليهودي ذهب هو وزمرة من اليهود إلى إسرائيل لكي يعملوا هنالك في الخدمات العامة، كما تصنع طائفة من فتيانهم كل عطلة. وإني لواثق الآن بعدما بدأت أخبر شخصية أستاذنا (واسمه عارف) الذي تنضح تصرفاته بما في ذاكرته من تجارب أثرت فيه، إني لواثق أن هذه القصة كانت مما ترك في قلبه ونفسه أثراً عميقاً لا يمحي، وكانت هذه الصورة دائماً في ذهنه: صورة لها نصفان، يرى إخواننا المسلمين في أحد نصفيها وفي الآخر اليهود، يرى في أحد النصفين كلاماً كثيراً وعملاً قليلاً ويرى في الآخر عملاً كثيراً وكلاماً قليلاً، وفي أحدهما عشق العلم والمعرفة وسائر مفاتح القوة وفي الآخر حب الشهادات والمناصب والألقاب وغير ذلك من أشكال الفقاقيع الجوفاء. واليوم أراه وأنا أحس بالألم الذي في نفسه دائماً مما يقول لنا في محاضراته، وأراه وهو يحاول أن يعلمنا أن نرتقي من أسلوب هضم المعلومات التي تلقى علينا جملة قد أخذناها منحوتة عن الآخرين، إلى القدرة على فهم المبادئ والبناء الذي يقوم عليها، لأن هذا الرقي في الإدراك هو الطريق الصحيح لكي نشارك بُنّاء صرح العلم في بنائه، وإلا نفعله أبقانا الله دون الآخرين، لأن لهذا الكون سنناً لا تفرق بين مؤمن وكافر، واليهود ليسوا الآن أقوياء بفعل ساحر: بل هي قوة العلم والمال قد اجتمعتا.

إن للعلم قوة عظيمة، من يجادل في ذلك؟ ولقد ذكرت من قبل أننا لا نجتهد في شيء إلا إن أردناه حقاً، وعدم اجتهادنا في طلب العلم يدل على أننا غير جادين في رغبتنا فيه، وإلا كنا بذلنا من أجله كثيراً، إننا إذن لا نُصلح أنفسنا حقاً إلا إن نجحنا في أن نبين للناس (ولأنفسنا) جمال ما يحصلون عليه حين يحوزون العلم والقوة التي يعطَونها، فعندها يعملون له وقد أدركوا ما يكسبون، وإني لأقسم لكم -رغم أني لست إلا طالب علم وما أنا من العلماء- أن لذة ما أشعر به كلما استزدت من العلم والفلسفة والأدب لم أعرف حتى اليوم لذة تعدلها من لذائذ الدنيا. ولنذكر أبداً أن اليهود ليسوا لمال العالم كمصاصي الدماء للآدميين فقط، وليس هذا وحده هو ما جعلهم أقوياء، وإنما هم قوم مجتهدون حقاً في طلب القوة، والعلم قوة، وقد آن لنا الأوان لا أن نلحق بهم ونحن مقلدون لاهثون، بل أن نسلك طريقاً صحيحاً نجتهد فيه حتى يصبحوا هم وراءنا ونحن المتقدمين.[1]

              

[1] ليست هذه القصة التي ذكرتها إلا مثالاً واحداً مما عرفته عن قوم يهود والعلم، إذ كان أول ما جعلني أفتح عيني على هذه المسألة وأنتبه لها كتاباً عن رحلات البحث العلمية اشتريته منذ عدة سنوات، ثم لما عدت إلى البيت وفتحته لأقرأه إذا بي أرى صورة ممول رحلة البحث كلها وهو يرتدي ملابس اليهود وعن يمينه ويساره رجلان يهوديان من أصحابه العلماء! حتى الرحلة العلمية لم تسم باسم السفينة التي خرجت في رحلة البحث، وإنما سموها باسم ممولها اليهودي، خلافاً لكافة رحلات البحث السابقة التي جرى العرف بأنها تسمى باسم السفينة التي حملت الباحثين في رحلتهم العلمية (وكانت هذه المرة السفينة المصرية "مباحث". حتى اسم السفينة العربي أبوا عليه أن يذكر في الوثائق وعملوا على أن ينساه التاريخ! ولكن أقول الحق، إن هذه السفينة لم يصنعها المصريون، بل بناها مهندسون كفار في أوروبا! وكانت السفينة تتقادم وتشيخ وهي قابعة في الميناء منذ سلمت إلى مصر ولم تخرج -وما أحسب أنها كانت لتخرج- لولا أن نفراً من العلماء الكفار فاوضوا الحكومة المصرية على استخدامها في رحلتهم وخرج معهم فيها "تلاميذ" لهم من العرب المسلمين، ثم رست "مباحث" بعد هذا في مينائها فلم تخرج إلا في رحلات أصغر من أن تذكر، وهي الآن جاثمة في قاع البحر قرب ساحل الميناء، لم يكف أصحابها أنهم لم يكرموها في حياتها فتركوها تموت حتف أنفها ويأكلها الدود وهي تحت أسماعهم وأبصارهم لا يفصلهم عنها غير عدة مئات من الأمتار أو دون ذلك، لولا أن نفراً من الناس أكرموها وهي حية وطيبوا خاطرها فجعلوها تعمل بما خلقت له، نفراً من "الأوروبيين الكفار"!). ومنذ ذلك الحين بدأت أنتبه للأسماء اليهودية التي تراها مع أسماء المشاركين في شتى العلوم، حيث تختفي أسماء المسلمين تقريباً! وبدلاً من نخجل من أنفسنا أنّا لا نقدم شيئاً ترانا لا نقف عن ترديد القول بأنهم إنما بنوا علومهم على علومنا، نرددها وكلنا حياة وحماسة، ونلبث هكذا حتى يكون الصياح قد ذهب بقوتنا كلها، فنعود إلى النوم من أجل نحصل على طاقة لصياح الغد! أليس هذا مما يؤسف له؟