لا بدّ للتاريخ أن يشهد

لا بدّ للتاريخ أن يشهد

عن صفحات البؤس والحزن

وعن صفحات المجد والعز

البراء كحيل

[email protected]

بينما كنت أرتب أوراقي على طاولتي وأمسك بقلمي وفي لحظة تأمل تخيلت التاريخ يقف أمامي ويحاورني ويسألني عن غزّة أرض العزّة ودار بيني وبينه الحوار الخيالي التالي :

أمسكت بقلمي وفتحت سجّل التاريخ لكي أخطّ فيه الأحداث والمجريات التي تدور هذه الأيام حتى تقرأها الأجيال القادمة ولا تنساها الأجيال الحاضرة , ولكن على غير عادتي بدأ قلمي يرتجف ويدي ترتعش وقلبي يخفق وعقلي تتخبط الأفكار فيه وبينما أنا في هذه الحيرة وفي تلك الغفلة سمعت صوتاً يناديني فنظرت فإذ بالسجل ينطق ويتكلم فدهشت وقلت من المتكلم فقال : أنا التاريخ استعجبت واستغربت من حيرتك وتلكؤك على غير عادتك ما بالك لا تكتب وما بال قلمك يرتجف ويدك ترتعش.

أخبرني ما الذي جرى لك وما غيرك ؟؟؟

فازدادت حيرتي وتلعثم لساني من جديد وقلت والأسى يعتصرني والألم يهزني والدمع ينزل مهراقاً من عيني قلت : أيها التاريخ :

ماذا أخبرك وماذا أكتب فيك وماذا أخط بين طيَّات صفحاتك ؟؟؟

الحزن قد أحاط بكل شيء والأسى اكتسى به البشر والحيوان والحجر والبؤس قد دخل كل بيت والحرمان قد حلّ في كل عائلة .

أيها التاريخ ماذا اكتب ؟؟؟

هل أكتب عن أهل فلسطين الجريحة الذين بدأت قصتهم منذ نصف قرن ونيف بدأت قصة الدم والقتل والقهر والتشريد والتنكيل والظلم والاستعباد والاستعمار .

قصة الذل والهوان والعار والبؤس

قصة الحقد والغل والبغض والكره

قصة التهجير والطرد والإبعاد واللجوء

قصة الدمار والخراب والفساد والإفساد

قصة حلمٍ ضاع ومجد زال وكرامة أُهينت

قصة أمّة سُلِبَ مجدها وضاعت هيبتها وزلت قدمها فغدت في آخر الركب

قصة قومٍ يعشقون الدم ويأكلون الأجساد ويسرقون البسمة من الشفاه لا يعرفون معنى الرحمة

قصة إخوةِ القردة والخنازير وعبدة الطاغوت وقتلة الأنبياء وسفكة دماء الأبرياء

أيها التاريخ ماذا أكتب بالله عليك أخبرني ؟؟؟؟

ما بالك أيها الفتى هذه قصةٌ عرفناها وحكاية سجلناها وروايةٌ حفظناها , فلم تعيد سردها وتعود لكي تفتح الجرح وتُحزن القلب ؟؟؟

لم تعود لأمر مضى وظلم طغى وكفر بغى فهل من جديد دفعك لسرد الماضي المحزن ؟؟؟؟

نعم أيها التاريخ إنّه الجديد بل ليس بالجديد فهل انتهت القصة هداك الله ونسيناها لكي نعيد سردها وهل غفلنا عنها لكي نتذاكرها وهل توقفت العين عن البكاء عليها لكي تعود للبكاء ؟؟؟

فلسطين أيها التاريخ قلب الأمة النابض ورأسها الشامخ وعزّها الغابر حكاية عُمرَ ونور الدين وصلاح فمن ينساها هداك الله وأصلح شأنك ؟؟؟

لم اقل يا فتى أننا نسيناها ولم أتجرأ بقول أننا غفلنا عنها لكن تعجبت منك لأنك توقفت عن كتابة الأحداث في صفحاتي وخشيت أن يضيع التاريخ وتصبح أجيال المستقبل بلا ماضٍ ولا تاريخ وهذا ما جعلني أنطق راجياً منك إكمال مهمتك ؟؟؟

أيها التاريخ والله إنِّي لأخجل وأستحي أن تقرأ الأجيال هذه الأحداث التي سوف أخطها وأخشى أن تلعننا الأجيال على تقصرينا وذلنا وخيبتنا وضعف شأننا وقلّة شجاعتنا ولا أدري أين سأكتب هذه الأحداث في صفحات الذل والخيبة أم في صفحات المجد والعزّة ؟؟؟؟

يا بنيّ لقد مرّت الأمّة بأزمات ومصائب كثيرة ولعلها أقسى وأشد وطأةً من هذه الأيام ومع ذلك سطّر أجدادك تلك الأحداث فما كان من خير وشجاعة وذكاء وحكمة ورفعة تعلمتم منه وما كان من خيبة وخسارة وضعف وذل تنبهتم له وابتعدتم عنه وهكذا الأجيال من بعدكم تقتدي بالخير وتبتعد وتتعلم من الخطأ والزلل أكتب وتوكل على الله مبتدأً باسم الله !!!!!

بارك الله فيك وسأكتب متوكلاً على الله :

أسمع أيها التاريخ وأبلغ صوتي للأجيال القادمة فعسى تكون هذه الأحداث لهم عبرة وعظة .

بعد حصار دام أشهراً عديدة وأياماً مديدة على أرض غزّة الحبيبة ذاق خلاله الأهل الكرام الذل والهوان جاعوا وعطشوا ماتوا ومرضوا لا طعام ولا شراب ولا كساء ولا دواء ومع ذلك كلّه صبر القوم وقالوا :

إنّما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .

انتهى الحصار لكن لا تظنن لخير وانفراج بل إلى دمار وخراب بدأ القصف والقتل والذبح والتشريد وبدأ إخوة القردة اليهود شذاذ الأفاق الشرذمة الأوغاد حرباً شعواء على شعبِِ أعزل بلا سلاح ولا عتاد .

وبدأت قصة المأساة وحكاية الآلام ورواية الأحزان فاسمع أيها التاريخ وبلّغ .

أطفالٌ أبرياء ناموا على حلمٍ جميل بغدٍ سعيد فكان الصباح على الأشلاء والحريق .

امرأة باتت بقرب زوجها واستيقظت أرملة بلا زوج

أبٌّ مكلوم ضمّ طفلة إليه وأسلم عينيه للنوم استيقظ وطفلته كأنها خرقة بالية خربتها قذائف الغدر وصواريخ الشر

عريسٌ جهزّ ثوب الزفاف ونام بالقرب منه لكنّ يد الظلم والغدر ألبسته الكفن

طفلةٌ رضيعة كالشمس ببهائها وكالبدر بنوره نامت في سريرها وفي الصباح غدا القبر سريرها

مسجدٌ جمع المصلين في صلاة العشاء وفي الصباح كان أثراً بعد عين دمرته صورايخ البربرية

مدرسةٌ للعلم والتعليم ضمَّت الطلاب والطالبات وفي الصباح غدت تراباً فوق تراب

مشفى للمرضى والجرحى وفي الصباح أصبح هو المريض والجريح بل الجثّة الهامدة

بستانٌ يانع مليءٌ بأشجار مثمرة جنّة لصاحبه وفي الصباح أصبح كرماد وغدت الأشجار حطباً للتدفئة

هذا العدو الظالم الحاقد لم يترك شيئاً إلاّ وصبّ جام غضبه عليه الحجر والبشر والشجر والدواب يقولها علناً وبكل وقاحة سأجعل غزّة أرضاً خراباً واسماً بلا مسمَّى .

هذا فصلٌ من القصة وإليك الباقي .

أيها التاريخ وفي ظلّ هذا الظلم المحيط بأهل غزّة العزّة ينكشف المنافق الخائن ويُعرَفُ المؤمن الصادق , هبّت الشعوب واشتعلت الشوارع واحترقت القلوب ودمعت الأعين وثارت الأنفس مطالبة رفع هذا الظلم عن هذا الشعب المسكين

لكن وللأسف ؟؟!!

حكام المسلمين إمّا مستنكر بلسانه أو شاجبٌ ببيانه أو ساكتٌ بهوانه أو منافق بكلامه أو متآمر بخذلانه فلم تجد صادحاً بالحق ولا داعماً بالفعل ولا مهتماً بالدعم إلاّ من رحم ربّي وهم لعمري قليل .

بل إن ّ بعضهم أيها التاريخ أغلق في وجه أهل غزّة الأبواب والنوافذ وهو على نصرهم قادر وقطع عنهم الماء والطعام , والهواء لو استطاع

ومن فرط وقاحته ساوى بين الضحية والجلاّد واصطف في صف الأعداء

أيها التاريخ .......... يقاطعني التاريخ قائلاً :

أمّا هذا فاعلم يا بنيّ أنّ الأجيال ستلعنه جيلاً بعد جيل وسأكتب اسمه بالدم في صفحات الخذلان وسيلقى عند الله عذاباً أليماً وحساباً عسيراً ولو استطعت أخبره أنّ في صفحاتي الكثير من أمثاله ظنّوا أنّهم خالدون فبغوا وطغوا وظلموا وأفسدوا حتى جاءتهم كأس المنون وهاهم اليوم يلعنهم اللاعنون في كل زمان ومكان وأخبره أنّ فرعون مصر ليس مثله عنه ببعيد .

نعم أيها التاريخ صدقت فهؤلاء لا يملكون من الرجولة غير اسمها ومن الشهامة إلاّ الإدعاء .

لقد خططتُ فيك صفحات البؤس والحزن ودعني أخطّ الآن بعضاً من صفحات المجد والعز والسؤدد .

أيها التاريخ : في غزّة العزّة رجالٌ ليسوا كالرجال بل دعني أبدأ بالنساء ,

نساءُ غزة علمنّ رجال العالم معنى الصبر والكفاح والجهاد يُقْتَلُ للواحدة منهنّ ولدها وزوجها وكل عائلتها ويهدم بيتها وتُفجع في كل شيء ثمّ ترفع رأسها للسماء قائلة يا ربّي اقبل هديتي أنت أعطيت وأنت أخذت لك الحمد في الأولى والآخرة لك الحمد حتى ترضى وخذ من دمنا كما تشاء وكل ما نملك هو فداء لدينك وزودٌ عن حياض شرعك وفي سبيل رفع لواءك .

هنّ بحق خنساوات هذا العصر فأوصل بأمانة لنساء المستقبل هذه الصور المشرقة لنساء غزّة

أمّا الأطفال فهم رجالٌ بحق يرى أمامه جرحه ينزف ووالده مقتول وأمّه ثكلى وأخته تحتضر ويرفع سبابته يعلنها للعالم أجمع توحيدي لربّي في كل وقت وقبل كل شيء ولعمري سبابة التوحيد هذه اشدّ على العدو من ضرب الصواريخ وقذف المدافع

أمّا الشيوخ العجائز فلسان حال الواحد منهم يا ليتني كنت جزعاً فأزود عن حمى هذا الدين وأحمي العرض والوطن وهو يُقدم الولد تلو الولد للشهادة في سبيل الله رافعاً الرأس مفتخراً بولده ويقول والله للذي مات أحبّ إليّ ممن بقي

أمّا الرجال والشباب فهذا حديث أخر ذو شجون ووالله ترتجف يدي ولا أدري ما أكتب فكيف لي ولأمثالي أن يخط في صفحاتك أيها التاريخ سِيَرَ هؤلاء الأفذاذ الأبطال لكن حتى لا تنساهم الأجيال أتكلم وأكتب في حقهم ما قدر الله لنا وعليك أيها التاريخ أن تخبر كل جيلٍ بجيله أننا ما كتبنا إلاّ جزءً يسيراً من بطولاتهم وشجاعتهم .

أيها التاريخ هؤلاء قوم باعوا الله الروح والجسد وقدموا لله أغلى ما عندهم ولسان حالهم يقول وعجلت إليك ربّي لترضى يعشق الفتى منهم الموت كما نعشق الحياة ويرى بين عينيه الجنّة ونعيمها ويعلم أنّ مهرها النفوس الزكية فيطهر النفس من الغل والحقد والحسد ويقدمها لربّه رخيصة طمعاً في رضوانه وخوفاً من غضبه ونيرانه .

شبابٌ كالزهور لم تُغرهم الدنيا الزائلة ولم تخدعهم المغريات الفانية ولم يهبطوا إلى مدارك الشيطان وترفعوا عن الهوى وفحش الكلام , لا تراهم إلاّ ركعاً سجداً صائمين قائمين جُنديهم كأميرهم لا تميزه عنهم هتافهم الله أكبر وشعارهم لا اله إلاّ الله كلامهم ذكر الله حديثهم القرآن لبساهم تقوى الرحمن .

العين الساهرة والأذن الواعية والقلب الخاشع والفؤاد الخاضع والنفس الكريمة رفضوا الذلّ لغير الله وهم يهتفون نحن قومٌ عِزُّّنا في ديننا والذل لسواه , رفضوا الخنوع والسجود لغير الله فرفعهم الله ورضي عنهم .

الواحد منهم بمئة بل بألف يُقبل على العدو ببسالة ولا يخشى نِزَاله صوته يرعبه وضرب سيفه يُزَلزله ترى الفارس منهم يرمي بنفسه إلى دبابة فأي شجاعة هذه وأي بسالة !!؟؟

قدوتهم أبو بكر وعمر وسلمان وخالد وصهيبٌ وعثمان والبراء ومالكٌ وحذيفة بن يمان , وهم والله أيها التاريخ جددوا عصر الصحابة ورفعوا رأس الأمة في عالمٍ أشبه بالغابة .

هذه أيها التاريخ بعضاً من صورهم المشرقة وقصصهم المفرحة وحياتهم المبهجة فضعها لو تكرمت في سجل العظماء وسطرها بماء الذهب الخالص لتكون للأجيال قدوة وعبرة ومجداً وعزاً

جزاك الله كلّ خير يا بنيّ لقد أثلجت صدري وأسعدت روحي بكلامك عن أهل غزّة الشجعان فهم بحق فرسان الميدان وحماة الدين والإنسان .

أخيراً يا بنيّ قبل أن تغلق سجلي وتضعني على رفّ المكتبة اعلم وأخبر قومك أنّه :

مرّ معي وفي صفحاتي الكثير من القصص والعبر والحكم ومما رأيت وشاهدت وعلمت وأيقنت أنّه مهما طال الظلم واشتدّ سواد الليل لا بدّ لشمس العدل أن تشرق من جديد لتنير كل ظلام وتمحو كلّ خذلان واعلم أنّه مهما تطاول الباطل وعلا وارتفع فإنّ الحق سيظهر يوماً وسينكسر الباطل وإن كان للباطل جولة فللحق جولات والأيام دول فيوم لك ويوم عليك .

جزاك الله خيراً أيها التاريخ وبوركت من رسول صادق للأمانة وفي النهاية أطلب منك نصيحةً أختم بها كلامي .

وبارك الله فيك يا بنيّ وبأمثالك ممن يحبون دينهم ويحرصون على نشره في الأرض ,

النصيحة يا بني لكم أمّة الإسلام أن تكونوا مع الله في السرّ والعلن وأن تُصلحوا ما فسد بينكم وبين ربّكم وتعتزلوا الذنوب والمعاصي فإن استويتم مع عدوكم بالذنوب ترككم الله لأنفسكم فتكون الغلبة للأكثر عدّة وعتاداً وعليه إن تنصروا الله ينصركم وما النصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم .

جزاك الله كل خير ودمت ناقلاً أميناً للحقيقة والسلام عليك .