غزة وانتصار المساجد

غزة وانتصار المساجد

عبد العزيز كحيل

[email protected]

لا يقر دعاة التطبيع مع اليهود بأن معركة غزّة كانت نصراً للمقاومة بأي وجه أو شكل ويسخرون من مخالفيهم في ذلك ويردون جميع حججهم  ويسفهونها، ويعود هذا الموقف إلى الهزيمة النفسية التي يعانيها هؤلاء المطبعون فلا أمل عندهم في الانتصار على العدو الصهيوني إطلاقاً، وزاد من حالتهم النفسية ما يرون من استهجان الجماهير العربية والإسلامية لنهجهم وحكمها عليهم بالخيانة والعمالة، لكن هناك عامل آخر يفسر موقفهم من أحداث غزّة ومن جميع قضايانا المصيرية وهو اتّجاههم المادي الّذي لا يعير أيّ اهتمام لمعاني الإيمان والقوة الروحية والثقة بالله والعزة ونحوها فيعتبرون كل هذا بلاغة وكلاماً فارغاً وأحلاماً، لكن ضغطهم السياسي والإعلامي يصطدم بالمرجعية الإسلامية لدى الأمة والتي تعبأ بلغة الأرقام والإحصائيات والوقائع على الأرض وتمزجها بمفردات الأخلاق وموازين السماء، وعلى هذا الأساس المزدوج فهمت الجماهير أن المقاومة انتصرت في غزّة... وأنا أضيف أن هذا الانتصار إنما صنعته مساجد القطاع، فمنها انطلقت حركة المقاومة الإسلامية قبل 22 عاماً بعد أن أتم الشيخ أحمد ياسين رحمه الله تكوين قاعدتها الصلبة وبدأت الانتفاضة الأولى التي أطلقوا عليها "انتفاضة أطفال الحجارة" وهؤلاء الأطفال تخرّجوا من مختلف مساجد غزّة بتكوين متكامل يجمع بين الفهم العميق للدين وللصراع مع اليهود ومعاني الجهاد والمقاومة وبين الالتزام الإسلامي في العمل والسلوك، هؤلاء الأطفال أصبحوا شباباً وانخرطوا بدورهم في العمل الدعوي والوطني متخذين من المساجد محاضن هادئة للتربية من جهة ومخازن لتخريج المجاهدين من جهة أخرى لإنقاذ القضية الفلسطينية من السقوط في الرتابة بفعل جهاد الفنادق الّذي ركنت إليه منظّمة التحرير، وأقبل الناس في القطاع على حفظ القرآن الكريم وتلقي العلوم الشرعية إلى جانب الدراسة النظامية وتولي الوظائف المدنية المختلفة فانعتقت غزة من الصبغة العلمانية الّتي قامت عليها منظّمة التحرير ثم السلطة واكتست بكسوة الانتماء الإسلامي في استراتيجياتها وأنشطتها السياسية والعسكرية والدبلوماسية، ولما تولت حماس رئاسة الحكومة شجعت حياة الطهر على كل المستويات فغلب على أهل القطاع الالتزام بالدين وكان لهم من التربية الإسلامية نصيب كبير وتشبعوا بمعاني التضحية والصبر والرضا والإيثار والتكافل، وهي المعاني الّتي تجسدت منذ بدأ الحصار ثم أثناء الحرب، لذلك واجه أهل القطاع الجوع والمرض والبرد والموت والجراح بأخلاق عالية كان الناس يقرؤونها في الكتب فوجدوها ماثلة أمام أعين العالم، إنها تربية المساجد... أرأيتم ذلك الثبات الأسطوري؟ هل هرب أحد من غزة عند فتح المعابر؟ سخط أحد على الحكومة الشرعية؟ هل ظهر الانكسار على الناس أثناء الحرب وبعدها؟ لقد تجولت مختلف وسائل الإعلام   في طول القطاع وعرضه وتحدثت مع الصغار والكبار والنساء والرجال وعائلات الشهداء ومع المشردين الذين فقدوا كل شيء فأذهلها استمساك الجميع بالصمود والبقاء في أرضهم وقد قاموا جميعا لاستئناف الحياة، واندهشت الصحافة أثناء العدوان من جماعة من الفلسطينيين كانوا على الجانب المصري من معبر رفح ينتظرون فتحه ليعودوا إلى غزة وهي تحت القصف ! إن هؤلاء استقووا بالتربية المسجدية وحولوا آيات القرآن الكريم إلى حياة يعيشونها وواقع تصنعه أيديهم، وهكذا أحسنت حماس الإعداد فمساجدها ومحاضنها لا تكتفي بتخريج حفظة للقرآن منقطعين عن شؤون الدنيا كما يحدث في كثير من البلاد الإسلامية التي تتباها بأعداد كبيرة  من الحفظة لكنهم إلى الجمود والعزلة أقرب ولا يعدو تدينهم أن يكون فرديا فحسب، وإنما خرجت غزّة رجالاً ونساء ينطلقون في مجالات العلوم والعمل السياسي والمقاومة بقيم القرآن الكريم يصلحون بها واقعهم ويبنون مستقبل بلدهم المحتل ويواجهون بها عدوهم، هذه القيم ظهرت جلية طيلة شهور الحصار الظالم والعدوان الغاشم فرسمت لوحات خالدة من رباطة الجأش وتحمل شظف العيش والصمود في ميدان القتال وهو ما أعاد إلى الأذهان أحقاباً من السيرة النبوية مثل الحصار في شعب أبي طالب وغزوة الأحزاب، وهذا ما يبين الفرق الكبير من مواقف حماس السياسية الثابتة رغم كل الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية ومواقف السلطة الفلسطينية المتباهية بالعلمانية التي تعتبر _تماماً مثل نظيراتها العربية_ الاشتغال بالقرآن دروشة وإقحام الدين في الصراع مع الصهاينة دجلاً فألفت الهزيمة النفسية لأن أفئدة رموزها خاوية من المقومات الروحية وهم خريجو الفنادق الفخمة والصالونات المكيفة وحتى من كان منهم في أول الأمر فدائيا ألقى سلاحه والتحق بموكب التخاذل والاستجداء والإستسلام

ويجب الاعتراف بذكاء العدو الصهيوني الّذي استهدف المساجد في غزّة فدمّر العشرات منها بذريعة تكديس الصواريخ بها، فهو يعرف خطورة المسجد الّذي قد لا يوجد به سلاح ناري لكن به مئات الحاملين لهذا السلاح والحالمين بحمله في وجهه، فبيوت الله من أخطر المرافق على اليهود وحتى على الأنظمة العربية الّتي إن لم تهدمها فهي تمنعها أن يذكر فيها اسم الله وتسعى في خرابها بتقنين فتحها وإغلاقها ومتابعة ما يقال فيها وما يفعل خشية أن تخرج "أصوليين" يؤمنون بالانتصار على إسرائيل وإعادة الخلافة وهو ما ترفضه الأنظمة غير الشرعية والنخب التغريبية المؤيدة لها لأنه يعني ببساطة زوالها.

انتصرت المساجد في غزّة، انتصرت بقرآنها الحي وأخلاقها الرفيعة الّتي برحت أعماق النفوس لتعمل في أرض الواقع، وانتصرت بعمارها الذاكرين الله كثيراً الّذين ربوا أبناءهم على التمسك بالإسلام وغرسوا فيهم خصال الصحابة والتابعين وحوّلوا تمني الموت في سبيل الله من شعار إلى واقع فكان بالفعل أسمى أمانيهم.

والناس كلهم يعلمون أن المساجد هي الّتي انتصرت في العدوان اليهودي على غزة لذلك جاءت ردود الأفعال منسجمة مع رؤية كل طرف فاستبشر أصحاب المبادئ وظهر الفرح على الجماهير المسلمة _وفي تركيا بصفة خاصة_ واغتاظ الرافضون للإسلام وصوّروا النصر هزيمة ولاموا الكيان الصهيوني على عدم القضاء على حماس ورفضوا هذه السابقة الخطيرة المتمثلة في انتصار المساجد الّتي قد ستهوي المسلمين في كل مكان فيتنامى ما يسمونه "الإرهاب الإسلامي" ويقصدون به الجهاد والمقاومة... وهذا بالضبط ما سيحدث من غير شك، فقد رأى الناس ما تفعله المساجد إذا كانت حرّة وحيّة وتحرّك علماء كانوا ساكتين وتكلّموا وتحرّروا من خوفهم ودعوا الأمّة إلى العودة إلى دينها واستئناف مسيرتها من بيوت الله ليكتمل النصر الّذي بدأته غزّة.