العشبة المظلومة

العشبة المظلومة

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

لا يظن أحد منكم أن الناس وحدهم يُظلمون، فمن الجنود المجهولين ما هو جماد لا ينطق ولا يحسن أن يدافع عن نفسه إن هو غُبن قدره، ألا ترى أن منها ما يقدم لنا أحسن النفع فلا نحسن من تقديره حتى أن نمتن له في أعماق نفوسنا ونعطيه قليلاً من حيز أفكارنا، فضلاً عن نثني عليه بالكلام في مجالسنا؟ ولقد رأيت واحدة من هذه الجمادات النافعة يُنال منها في الأشهر الأخيرة من حياتي وهي ساكتة لا تنطق ولا ترد، وما كان لها ذلك وإن أرادته، فأشفقت نفسي عليها وقررت أن أنصب اليوم نفسي محامياً لأدفع عنها ما أصابها الناس فيه من البخس والغبن على الرغم من كثرة ما فيها من الفضائل، تلكم هي عشبة الزعتر!

لقد اعتدت أن آكل في اليوم الواحد أربع وجبات، نصفها أو ثلاثة أرباعها هي الزيت والزعتر! وكثيراً ما سألني ناس ماذا كنت آكل وأنا أعيش في ماليزيا، حتى إذا أخبرتهم أني آكل الزيت والزعتر رأيتهم ينظرون إلي مشفقين، وكأني قد صرت بأكلي إياه من المحرومين المساكين. هذا هو جزاء الزعتر لأنه رخيص الثمن سهل المنال، وأحسب أنه لو كان أغلى قليلاً إذن لرأيت الأغنياء يفاخرون بكنزه ولكان صاحبنا تربع على موائد المناسبات العظام، ورأيتهم يجلونه ولعلهم أنشؤوا من أجله المتاحف والمعارض والمسابقات، وكنت رأيته على قائمة كل طباخ. ودع عنك هذه الخيالات إن كنت لا تصدقني وتعال ننظر إلى ما يقدمه الزعتر إلينا من معروف كريم، لعلي أفلح في أن أحملك على تقديره كما قدرته أنا.

يقولون إن الزعتر هو طعام الفقراء، فحتى البسطاء من الناس يستطيعون شراءه وهذا يعينهم على توفير مالهم القليل لشراء غيره، وهو -مع هذا- طعام مشبع وغني بالغذاء المفيد، إذ للزعتر صاحبان يلازمانه فهم قلما يفترقون، هما الخبز وزيت الزيتون، وهؤلاء الثلاثة فيهن الشبع وفيهن الغذاء. والزعتر سهل التخزين مديد الحياة، تحفظه في كيس مغلق من غير تبريد ولا ثلاجة وتتركه سنين ثم تعود إليه فتراه لم يتغير إلا قليلاً، ثم تراه مباركاً قد كفى القليل منه الكثير، ذلك أنه عشبة جافة قوية الطعم والريح، فلا تحتاج غير قليل منه مع خبزك وزيتك حتى يعطيهما ما تريد من مذاق. أولست توافقني أن عشبة الزعتر طيبة الطعم والريح؟ ثم لم ترض نفس الزعتر بأن تكون له هذه الفضائل كلها حتى أضاف إليها أنه صديق المشغولين الكادحين، إذ ترى الناس قد اسغرقهم طبخهم ونفخهم في مطابخهم ساعات أكلت من أوقاتهم وأعمارهم، وأما الزعتر فكل ما عليك أن تتناوله وقارورة الزيت ورغيفاً من الخبز، فتغمس الخبز بالزيت ثم تضعه على الزعتر، ولا تمر عليك غير دقائق حتى تجد نفسك قد أنهيت وجبتك وسددت جوعك، وقد وفرت طبخاً ونفخاً، ووفرت أواني الطبخ وتنظيفاً لها وترتيباً.

هذا ما حضرني من فضائل الزعتر كما استقيته من قريحتي في سهولة ويسر ومن دون أن أكلف نفسي العناء، فما بالكم لو أني كنت أطلت في البحث والتمحيص؟

ما أتعسك أيها الزعتر! تعطي الناس ولا يشكرونك، وحتى حينما جدت على الفقراء المساكين بنفسك، كان جزاؤك منهم أنهم سموك "طعام المساكين"، لا ليشكروا لك أنك تبهج نفوسهم وهم محرومون، ولكن ليذموك!

 فلك مني كل العزاء والتقدير!