المرابطون في غزة

رأينا آيات الله

ساعات الليل تطول مثقلة ببرودتها القاسية عليهم، وهم يتربصون في مكامنهم بانتظار فرصة سانحة للهجوم.. الدبابات رابضة أمامهم كوحوش أسطورية في الظلام.. ترتفع الأكف في ضراعة متوجهة للسماء "اللهم أنزل الغيث، وحرك الريح، وانشر الضباب، وثبت جندك، واهزم أعداءك..".. وتنهمر الدموع من أعين طالما أطلقت نظراتها نارا تشعل الخوف في قلوب الأعداء، وتهتز من البكاء خشوعا أجساد لطالما كانت راسخة أمام الآليات والمجنزرات، فتتصل الأرض بالسماء، ويستجاب الدعاء.

أبو عبيدة أحد قادة المقاومة الميدانية شرق حي الزيتون في مدينة غزة قال لـ"إسلام أون لاين.نت": "كنت ومجموعة من المرابطين ننتظر فرصة مناسبة للدخول على الدبابات، وأخذنا ندعو الله أن يهيئ لنا أمرنا، وينزل علينا جندا من السماء يؤازروننا، وفجأة وبدون أي مقدمات نزل ضباب كثيف على المنطقة التي كنا فيها".... وأردف أبو عبيدة وقد تهدج صوته من أثر الانفعال: "وبعد نزول الضباب استطعنا الدخول بين عشرات الدبابات وزرع العبوات الناسفة قربها والانسحاب بسلام دون أن ترصدنا طائرات الاستطلاع التي تملأ الجو، وتحول الظلام الحالك إلى ضوء نهار، ودون أن يلمحنا أحد من جنود العدو المحتشدين حول الدبابات".

وعلامات النصر تبدو على وجهه أضاف: "استطعنا تفجير كل العبوات الناسفة في الدبابات الموجودة، ومجموعة من جنود فرق الاحتلال الراجلة، وقُتل خلال ذلك أكثر من خمسة جنود وجُرح العشرات".

وبينما طائرات الاحتلال الإسرائيلي تحوم ناشرة الموت في سماء غزة، وينهمر قصفها متحدا مع قذائف الآليات البرية والزوارق الحربية؛ لتحول ليل القطاع إلى جحيم، انهمرت الأمطار بشدة على المناطق الحدودية لمدينة غزة دون غيرها من المناطق الأخرى، والتي تتوغل بها قوات الاحتلال البرية؛ مما أعاق تقدمها، وحال دون توغلها في المناطق السكنية، بينما تعطلت الطائرات لساعات عن رصد حركة المقاومين؛ مما منحهم فرصة لحرية التنقل، ونصب الكمائن للقوات المتوغلة.

بركة الجهاد

المنتصر بالله مصطفى، والقاطن على شاطئ بحر غزة، تحاصره من الجو الطائرات، والدبابات لا تبعد عن بيتهم سوى كيلو متر واحد، والبوارج البحرية لا تفتأ قذائفها تنهال على كل متحرك على الشاطئ، كانت بطارية هاتفه المحمول فارغة حين استعان به أحد المرابطين المنتشرين في الجوار، فكانت المفاجأة.. مرددا "سبحان الله" في تعجب لم يفارقه بعد أن قال المنتصر بالله: "بطارية هاتفي المحمول كانت فارغة تماما، والكهرباء مقطوعة عن المنزل؛ بسبب الحصار الجائر من قبل العدوان الإسرائيلي الأخير.. أحد المرابطين بجوار البيت طلب هاتفي لاستخدامه فقلت له إنه لن يكفيه لكـلمة واحدة.. فالبطارية أعلنت نفادها"... وعلامات الدهشة على وجهه تابع: "وما إن أمسك المرابط الهاتف بيده حتى امتلأت البطارية كأنما أضعها على الشاحن منذ أيام، وتحدث من خلاله، واستخدمت الهاتف من بعده لعدة أيام أخر.. سبحان الله.. تلك هي آيات الرباط والجهاد والنصر إن شاء الله، فالله ينزل ملائكته على المجاهدين في سبيله لينصرهم ويثبت خطاهم".

أما أبو مجاهد المرابط على ثغور شمال مدينة غزة، فقال: "كنت أرصد حركة الدبابات على حدود المدينة، ولم يكن أحد حولي، فإذا بي أسمع صوتا يسبح ويذكر الله ويستغفر.. حاولت مرارًا أن أتأكد من الصوت، ولكنه بالتأكيد لم يكن صادرًا إلا من الحجارة والرمل التي لم يكن سواها حولي في هذا الخلاء".

محمود الريفي واحد من مجموعات "الاستشهاديون الأشباح" رابط ليومين كاملين في مكمنه، يقتات على بعض التمر والماء وبيمينه سلاحه، وعن يساره جهازه اللاسلكي ليتواصل مع رفاقه وقيادته، وينتظر ملاقاة العدو على أحر من الجمر، لسانه يلهج بالدعاء أن يمن الله عليه بالتمكين من جنود الاحتلال الإسرائيلي وإصابتهم في مقتل.

وأخيرا بعد 48 ساعة من الانتظار وحيدا في خندق لا تزيد مساحته على المترين، استطاع الريفي الالتفاف حول مجموعة من جنود الاحتلال الإسرائيلي على جبل الريس شرق مدينة غزة، واشتبك معهم وحده، وهو لا يحمل سوى قطعة سلاح واحدة، فقتل اثنين منهم وجرح آخرين.."، بحسب أحد القادة الميدانيين بكتائب القسام.

وأضاف القائد القسامي: "كما أسر الريفي جنديا حمله على كتفيه وأسرع عائدا إلى مكمنه إلا أن طائرات الاستطلاع أطلقت عليه صاروخا أرداه هو والجندي الإسرائيلي، وخلال قتال الريفي معهم أصابهم الرعب وراحوا يبكون ويصرخون وهم يتخبطون فيما بينهم وكأن الملائكة تكبلهم".

المقاومة بـ"سهام الليل"

"اللهم افتح للمجاهدين الأبواب، وأزل عنهم الصعاب، واصرف عنهم كيد الذئاب، وكل منافقٍ وكذاب.. اللهم اجمع حولهم القلوب والرقاب، بقوتك يا رب يا وهاب.. اللهم اربط على قلوبهم وثبت أقدامهم، وسدد رميهم وصوب رأيهم واجعل لهم من كل ضيق فرجا...".

متدثرين بالثرى ملتحفين برد الشتاء، وقد تصدعت الجدران، وتحطمت الشرفات من قصف جنوني لا يتوقف، يتهجد أهل غزة في ظلمة الليل وقلوبهم تلهج بالدعاء للمقاومين.

وفي صدور الشيوخ والأطفال والنساء والمصابين منهم، يتردد حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة تبوك (إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: نعم؛ حبسهم العذر).

وأمام ناظريهم ينعقد الأمل واليقين بالله ولسان حالهم يقول:

وإني لأدعو الله حتى كأنني               أرى بجميل الظن ما الله صانع

عائلة أبو الوليد مُراد تقضي ليلتها في الدعاء والاستغفار، وقد أنساهم القصف الإسرائيلي المتواصل معنى النوم، ويقول أبو الوليد: "كل مساء أجمع أسرتي صغارا وكبارا ونبدأ بقيام الليل وندعو للمجاهدين أن ينصرهم الله ويثبت أقدامهم.. ليس لنا سوى الدعاء.. أولادنا يقاومون في ساحة المعركة بأسلحتهم، ونحن نقاوم باللجوء لله وبسلاح الدعاء.. سهام الليل".

أم محمد يوسف كل ليلة تستيقظ من نومها عدة مرات على صوت الصواريخ وقذائف المدفعية ولسانها يُرتل: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *  أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ".

وتضيف قائلة: "إن الله سيحمي المجاهدين وينزل على عدوهم جندا كطير الأبابيل والمطر والضباب، وسيعمي العدو عنهم، وسيرد كيدهم إلى نحورهم ويدمرهم تدميرا".

وبعيونٍ دامعة أردفت: "أولادي يخرجون كل ليلة للرباط على الثغور.. أقوم الليل وأدعو بأن يحميهم الله ويسدد رميهم.. لن يأتينا النصر سوى بالصبر والصمود.. فهو ليس سوى صبر ساعة".

أم سمير غزال، والدة أحد شهداء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قالت بدورها: "الحمد لله على كل حال وأي حال، الله لا يبتلي إلا عبده المؤمن، أنا فقدت ابني، ولكن هناك من فقدوا كل أبنائهم وتشردت عائلتهم، أحتسب مصيبتي عند الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون".

وعلامات الصبر على وجهها تابعت: "أبناؤنا شهداء يمرحون في جنات الخلد.. ولعل ولدي يشفع لي يوم القيامة وأرافقه في الجنة، عندما علمت بنبأ استشهاده حمدت الله وسجدت له شكرا؛ لأنه أعطاه أعلى منزلة في الجنة".

أما أبو عاهد إمام مسجد النور في حي الشيخ رضوان الذي قصفته طائرات العدو بعدة صواريخ قال لـ" إسلام أون لاين.نت": "قصف المسجد بثلاثة صواريخ.. دمرت المسجد بالكامل، ولم يبق حجر على حجر.. إلا أن المصاحف بقيت كما هي، ولم يمسسها شيء.. سبحان الله.. تلك هي رعايته وعظمته".

وبعيون واثقة بنصر الله أضاف "وجدنا بعض المصاحف مفتوحة على آيات النصر والصبر مثل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.