إلى المتثاقلين عن الجهاد
من الشهيد "سيد قطب"
سيد قطب
رحمه الله
إن الجهاد فريضة على المسلمين حتى ولو كان عدد أعدائهم أضعاف عددهم وأنهم منصورون
بعون الله على أعدائهم .
وأن الواحد منهم كفء لعشرة من الأعداء . وكفء لاثنين في أضعف الحالات .
وفريضة الجهاد إذن لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم . فحسب
المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى . وأن يثقوا بالله . وأن يثبتوا في المعركة
ويصبروا عليها . والبقية على الله .
ذلك أنهم يملكون قوى أخرى غير القوى المادية الظاهرة .. (( يا أيها الذين آمنوا ما
لكم إذا قيل لكم : انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا
من الآخرة، فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً،
ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً والله على كل شئ قدير )) .
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعوا له على أطراف الجزيرة بالشام
وأن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة . وانضمت اليهم لخم وجذام وعاملة وغسان من قبائل
العرب فاستنفر الناس إلى قتال الروم وكان - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج إلى
غزوة إلا ورى بغيرها مكيدة من الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة (تبوك) فقد صرح بها
لبعد الشقة وشدة الزمان إذ كان ذلك في شدة الحر حين طابت الظلال وأينعت الثمار وحبب
إلى الناس المقام .
عندئذ بدأت تظهر في المجتمع المسلم أعراض تهيب وتردد، كما وجد المنافقون فرصتهم
للتخذيل فقالوا: لا تنفروا في الحر، وخوفوا الناس بعد الشقة وحذروهم بأس الروم وكان
لهذه العوامل المختلفة أثرها في تثاقل بعض الناس عن النفرة ... وهُدد المتخلفون
بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله،
قبل أن يكون معه منهم من أحد، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم فلا ينالهم عندئذ
إلا إثم التخلف والتقصير .
إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض، ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على
المال، والخوف على اللذائذ والمتاع، ثقلة الدعة والراحة والاستقرار، ثقلة الذات
الفانية والأجل المحدود والهدف القريب، ثقلة اللحم والدم والتراب.. إن النفرة
للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم، وتحقيق
للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد
والضرورة، وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود .
وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي العقيدة دخل، وفي
إيمان صاحبه بها وهن، لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من مات ولم يغز
ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق )) .
فالنفاق - وهو دخن من العقيدة يوقعها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه
على عقيدة من الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله والرزق من
عند الله، وما متاع الحياة الدنيا من الآخرة إلا قليل. (( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً
أليماً ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً والله على كل شئ قدير )) .
والخطاب لقوم معينين في موقف معين، ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة عند الله،
والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي
تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات، وهم
مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ويقدمون
على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت
الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه
منها كفاح الأعداء .
((لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون
بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم والله يعلم انهم لكاذبون )) .
لو كان الأمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة
لاتبعوك ! ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة،
ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة .. ولكنه الأفق
العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة ...