أحلام مثقّف عربي

أحلام مثقّف عربي

ناصر عراق

كان وجهه نضرًا وهو يقبل علي،تسبقه ابتسامة وضاءة تشبه شمس الأصيل وهي تحنو على نيل القاهرة وناسها.

سألته:

- ما الأمر؟

أجاب بلغة عذبة وصوت رخيم:

- إنه عام جديد، ومن حقّنا أن نبتهج.

- لكن...

قاطعني بإشارة تلقائيّة من يده من دون أن يطفئ نور ابتسامته وهو يهتف:

- أعلم جيّدًا أنّ حال الأمّة العربيّة لا يسر، وأنّ الثقافة والإبداع ليسا على جدول أعمال أحد من أولي الأمر، وأدرك جيّدًا أنّه ما من مدينة عربيّة إلا وتشهد تراجعًا مخيفًا في مجال الخدمات العامّة، إلا من رحم ربّي، وأنّ مستوى الفقر في "نمو" مخيف، في الوقت الذي تتراكم فيه الثروات بغير حساب داخل جيوب قلّة قليلة ونادرة، وأعرف ..

- صبرًا..من أين يمرّ غدير الابتهاج إذًا؟

- ليس غديرًا.. بل نهرٌ وأنهار، لكن دعني أكمل لك رسم الصّورة البائسة أوّلا حتى "يطمئن" قلبك، فهناك سبعون مليون أمّي عربي لا يعرفون القراءة والكتابة وفقا لأحدث التقارير، أي أنّ ربع عدد سكّان الأمّة يخاصمون الأبجديّة، ولن أتحدّث عن الأميّة العلميّة والتكنولوجيّة، وأعلم تمامًا أنّ ما ننفقه على البحث العلمي لا يذكر بجوار ما نخصصه من ميزانيّات لأمور أقلّ شأنًا بكثير، وأننا أصبحنا عالة على منجزات الغرب، فكلّ ما نستخدمه من أدوات الآن تمّ ابتكارها من قبل الآخرين، فالسيّارة والموبايل والقطار والجريدة والتلفزيون والغسّالة.. إلخ، كلّ هذه الأدوات والآلات والأجهزة التي نتعامل معها يوميًا اخترعوها هناك خلف البحار، وما نحن إلا لها مُستهلكون!، ومع ذلك فأنا متفائل بإطلالة العام الجديد! .

- كيف؟.. وهل نسيت أوضاع فلسطين والعراق ولبنان والسّودان؟

- ومن يستطيع أن ينسى أنّ هناك سكينًا يقطع أوصال الأمّة؟ لكنّي موقن تمامًا أنّ إصلاح السّياسة لن يتم إلا عبر إصلاح الثّقافة، فالمجتمع الذي يتكئ على الحفاوة بالفكر والإبداع، مجتمع عقيّ قادر على مُنازلة الأشرار وأصحاب المصالح المُغرضة، والأمّة التي تدرك قيمة المعرفة وتحتفل بها يمكنها مواجهة الأعداء والمتربّصين وما أكثرهم في زماننا!

- حسنًا.. وهل نحن أمّة تبجّل الثقافة وتفتّش عن المعرفة الآن؟

- يا عزيزي.. لا مفرّ من الإقرار بأنّ هناك قيمًا فضلى تراجعت في الأعوام الأخيرة، لعلّ أوّلها الاهتمام بالثّقافة، مما دفع النّاس إلى مناقشة أمور تمّ حسمها في مطلع القرن الماضي، الأمر الذي يعني أنّ النهضة الفكريّة والإبداعيّة التي قادتها الكوكبة المرموقة طيّبة الذكر، أمثال الطهطاوي والكواكبي ومحمّد عبده وطه حسين حتى نجيب محفوظ ونزار والسيّاب.. إلخ.. أقول أنّ هذه النّهضة تشهد شحوبًا مأساويًا الآن، لدرجة أنّ النّاس هجروا زمانهم وعادوا ليجادلوا في أمور كانت تقلق أجداد أجدادنا، وهو أمرٌ مؤسف حقًا !.

- بالله عليك أخبرني.. من أين تفاؤلك؟

- المثقّف ينبغي أن يكون متفائلا بشكل عام، حتى لو كانت الظروف تخاصم أحلامه، لأنّ عليه دومًا أن ينشر أفكاره ورؤاه لإقامة مجتمع ينهض على الحق والخير والجمال، مجتمع يؤمن بحريّة الفكر والإبداع، مجتمع يُناصر الديمقراطيّة ويدعو لها ويحميها من أولئك الذين يروّجون للاستبداد والانغلاق، مجتمع يتلهّف على الكلمة الجميلة، والقصيدة الممتعة، والعبارة الأنيقة، والصّوت العذب، والموسيقى المؤثّرة، واللوحة المدهشة، والفيلم البديع، والرّواية الآسرة.. إلخ.

- وهل يوجد مجتمع مثل هذا الآن؟

قال لي ونبرة تفاؤله تزداد تألّقًا :

- سنصنع هذا المجتمع، وسندعو إليه بالتي هي أحسن، ولن نيأس حتى لو صار النّاس مشغولين بقضايا ضدّ التقدّم، ويشيعون التقهقر والعودة إلى الخلف، فقدر المثقف أن يكون في مقدّمة الصّفوف التي تُدافع عن كلّ ما يبهج النّفس ويمتع العين ويثير الأسئلة.

- ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

- لم لا ترد؟ ألست معي في أنّ من حقّنا أن نتفاءل مع مطلع هذا العام؟!.. كفانا انزواء خلف أفكار أجهدتنا وخصمت من رصيدنا، وجعلتنا شعوبًا شبه منهوبة.

- أبدًا.. أحسدك على تفاؤلك !..

- لا تحسدني، فهيّا يا صديق نرتّل أغاني حبّ الحياة والانتصار لها، هيّا يا صديق نترنّم بأناشيد عشق الحريّة والانحياز لها، فالذي مضى من عمرنا الكثير، وكفانا انطواء.. أرجوك.