الإخوان المسلمون في سورية الجزء الثالث
الإخوان المسلمون في سورية
مذكرات وذكريات
المجلد الثالث
د. عبد الله الطنطاوي
[email protected]
الكاتب:
إذا عرفت الكاتب، عرفت الكتاب، وإذا عرفت الكتاب، عرفت الكاتب، فالأسلوب هو الرجل
في سلوكه الفكري والأدبي، كما هو في سلوكه في الحياة.
ومؤلف هذا الكتاب، هو الأستاذ والأديب، والسياسي والمفكر معاً: عدنان سعد الدين
–حفظه الله تعالى، وشفاه وعافاه- وقد قدمت شذرات حييات عن حياته الحافلة، في
مقدمتيّ للجزءين: الأول والثاني، وسوف أستكمل ما بدأت في هذه المقدمة لهذا الجزء
الخطير من هذا الكتاب القيم الذي لم يؤلف مثله في بابه حتى الآن.
أما أنا -العبد القليل- فقد صار مستقبلي في قبري، وليس في منصب أسعى إليه، أو هدف
دنيوي أزاحم الناس والإخوان عليه- والأستاذ المؤلف، ليس المرجَّى لنفع دنيوي، حتى
تزوَّر الشهادات له، ولستُ ممن يطمع فيما يقتتل عليه وحوله الناس، والإخوان شريحة
منهم.. أقول: أما أنا، فأشهد الله الذي يعلم السرّ وما هو أخفى من السرّ، أني سوف
أدلي بشهادتي هنا، في تجرد، ما استطعت، بعون الله تعالى.
خروج عن الامتثال:
إذن... سوف أتحدث عن صاحب هذا الكتاب حديثاً قد يحرجني، بل سوف يخرجني عن الامتثال
الذي هو أرقى أنواع الأدب، فقد امتثلتُ في مقدمتيّ للمجلدين، الأول والثاني، ولم
يُسمح لي إلا بالبوح بالنزر اليسير الذي لا يجرح مروءة، ولا يخدش حياء، لا للمؤلف
الكبير، ولا لصاحب هذه السطور التي تبقى حييّة وهي تتحدث عن بعض الرجال الرجال،
خشية الانزلاق نحو ما يأباه الضمير الحي، وذو العفة، ولكن ضميري الذي أحسبه حياً
-دونما تزكية ولا ادعاء- يأبى إلا الكلام، ولو على استحياء، إنصافاً للرجل الذي
تعرض -وما يزال- لظلم بعض ذوي القربى، في وقت هم والجماعة في مسيس الحاجة إليه،
وإلى إمكاناته الكبيرة، ونظراته الثاقبة، وفكره الاستراتيجي، وإلى استشرافه
المستقبل في تخطيطه وحركته.
من مبادراته ذوات النظرة المستقبلية:
سوف أذكرها في اختصار يناسب الحيز الذي تشغله هذه المقدمة، منذ اختياره مراقباً
عاماً للجماعة:
1- بادر إلى تشكيل لجنة لوضع النظام الأساسي والداخلي للجماعة، تعتمد عليه في
مسيرتها، وأخرى لعمل خطة للجماعة، تسير بموجبها. كان الأستاذ المراقب العام منذ عام
1975 يكره الارتجال في العمل، ويعتمد التخطيط نهجاً له وللجماعة التي تولَّى
مسؤوليتها منذئذ، فكانت للجماعة خطة عامة، ولكل مركز، ولكل جهاز خطته المشتقة منها.
2- عمل ميزانية للجماعة، وتحرك بين الإخوان لتغطيتها، وكان الإخوان من الأسخياء،
غطوا تلك الميزانية الكبيرة، بأريحية يُشكرون عليها ويثابون إن شاء الله تعالى.
3- رفع شعار (المحاسنة) ليحكم العلاقة بيننا وبين إخواننا الذين استمروا مع الأستاذ
عصام العطار، الأمر الذي هدأ من ثائرة الثائرين من الطرفين.
4- وتحت شعار (حشد الطاقات الإسلامية) بادر إلى بناء علاقات طيبة بين الجماعة وبين
عدد من العلماء، انتهت إلى تشكيل الجبهة الإسلامية في سورية.
5- عمل على توحيد فكر الإخوان، وكلمة الإخوان، ليصدروا عن آراء ومواقف متقاربة، إن
لم تكن متطابقة.
6- طرح فكرة توحيد التنظيمات الإخوانية الأربعة في سورية، ولبنان، والأردن،
وفلسطين، في تنظيم واحد، تحت مسمّى: تنظيم الإخوان في بلاد الشام، وقد لقيت هذه
الفكرة ترحيباً من قادة هذه التنظيمات ودعا إلى مؤتمر يعقد في إحدى الدول الأوروبية
لتنفيذ هذه الفكرة الرائدة، ولكن أحد هذه التنظيمات تراجع عما اتفق عليه، فتعثر
تحقيقها.
7- كما دعا إلى جمع الحركات الإخوانية في البلاد العربية في تكتلات إقليمية، فهناك
تنظيم وادي النيل، ويجمع الإخوان المصريين والإخوان السودانيين، وتنظيم الإخوان في
المغرب، وليبيا وتونس، والجزائر وموريتانيا في تنظيم واحد.
وتنظيم بلاد الشام الذي يجمع الإخوان في سورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن.
وهكذا ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن وكانت الأحداث العاصفة التي أودت بكثير
من الأفكار والخطط والطموحات أو حدَّتْ من فعاليتها.
8- زيارة المراكز: ومن أجل النهوض بالجماعة من كبوتها، وكانت خرجت من انشقاق قسمها
نصفين، بادر إلى زيارة المراكز فطافها كلها من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى
جنوبها.. كان يدخل سورية، وكان ممنوعاً من دخولها، سراً، وقد تعرض عدة مرات للكشف،
ولكن الله الرحمن الرحيم سلم، ونجا من أيدي الظالمين ومن عيونهم.
كان يلتقي الإدارات، ويلقي التعليمات والإرشادات، ويستمع إلى هموم كل مركز، ويحاول
حل المشكلات، وتذليل المعوقات، وكان الإخوان في غاية السعادة لأن الأستاذ عدنان هو
أول مراقب عام يتفقدهم، وخاصة في تلك الظروف الصعبة القاسية، تحت وطأة بساطير
العسكر، وقانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وعبث المليشيات الطائفية المسلحة،
وإجرامها الذي أصاب الناس في المقاتل. كما كان يطوف على المراكز الخارجية، ويجتمع
بإداراتها، ويعطي تعليماته وتوجيهاته، ويحثّ الإخوة على العطاء والبذل والسخاء
بالوقت والراحة والمال... يحثهم على دفع الاشتراكات والزكوات والتبرعات، فالحمل على
الأرض، والجماعة في حاجة إلى مـن يحملها اليـوم، بعـد أن حمـلت الكثيريـن فيمـا مضى
من الزمان.
وبهذه الحركة المدروسة الواعية، دبت الحياة في كل المراكز، الداخلية منها و
الخارجية، وانتظم البريد بينها، وتمتنت الصلات بينها وبين المكتب التنفيذي، وصارت
العلاقات أخوية حميمة، وانتعش العمل الدعوي والتنظيمي في سائر المحاور والجهات.
لقـد أتعـب، وما تعب، في هذه التنقلات والزيارات.
9- أقام علاقات خارجية مهمة ليس للجماعة عهد بها أو بمثلها، مع عدد من الدول،
كالأردن، والعراق، ومصر، والسودان، والسعودية، واليمن، وتركيا، وباكستان،وأفغانستان
وسواها، كما أقام علاقات مع عدد من الأحزاب في بلدان الوطن العربي، والعالم
الإسلامي، والدول الأوروبية، ومن أجل هذه، جال في الكثير من الدول العربية
والإسلامية والأوروبية، وأمريكا، لتمتين الصلات معها ومع بعض أحزابها ورجالاتها،
وسياسييها، ومفكريها، وشارك معهم في ندوات، وكان له معهم حوارات، وعقد مؤتمرات
صحفية، وحاضر في العديد من المخيمات والمؤتمرات، وشارك في أنشطتها في عمل دؤوب، لا
يكلّ ولا يملّ، استعلى على التعب والنوم والراحة والمرض، وما زال...
همة قعساء تذلل الصعاب:
إنه طاقة لم تستطع السنون أن تنال منها، أو أن تفعل فعلها فيها كما فعلت بطاقات
سواه... تصوّروا أنه ذات مرة -وهو المبتلى بذلك المرض الصعب، شفاه الله وعافاه منه
ومن سواه- يخرج من المستشفى بعد أخذ جرعتين كيماويتين أو بيولوجيتين، وبعد إحدى
عشرة ساعة أمضاها في المستشفى، يعود إلى البيت مرهقاً- وهو على عتبة الثمانين -مدّ
الله في عمره، ومنحه الصحة والعافية- فلا يأوي إلى سريره لينام أو يستريح من هذا
العناء القاسي، والآلام المضنية، بل ينصرف إلى أوراقه وقلمه، ليكتب ما انثال على
الخاطر، مما هو من صلب هذا الكتاب الرائع الذي أقدمه إليكم لتقرؤوه على مكث، وأنتم
على أرائككم، أو في أسرتكم، في تمام الراحة والهدوء.. وما بالى بالمرض، ولا
بالآلام، لأن همه في إنجاز هذا الكتاب صار شغله الشاغل، وهمه الناصب.
صدق من قال: إن الأستاذ أبا عامر لا ينام ولا ينيم، لا يستريح ولا يدع من يعمل معه
يستريح، شعاره في هذا: ذهب وقت النوم ودقت ساعة العمل، ونحن في سباق مع الزمن، ومع
الخصوم والأعداء معاً.
وبهذه الهمة القعساء، وبهذا التخطيط والدقة والسرعة في الإنجاز والتنفيذ، نقل
الجماعة إلى آفاق جديدة ما كنا نعرفها، أو نحلم بها وبمثلها...
نقلها من مرحلة التفكير في الأسرة، إلى التفكير بالدولة... بتسلمه قيادة الجماعة،
حصلت للجماعة نقلة نوعية شملت كل مجالي الحياة الدعوية والتنظيمية.
كنا نحلم بتفريغ بعض الإخوة، فبادر إلى ذلك، وكنا نحلم أن يكون في بعض المراكز
سيارة أو أكثر، فأمر بذلك... فكنا نطوف على المراكز، ولا يمر شهر أو شهران، إلا
نراها، وربطناها بالمكتب التنفيذي ربطاً محكماً بفضل الله تعالى وتوفيقه، حتى بلغ
بكثير من الإخوة أن يصفوا هذه المرحلة، بالمرحلة الذهبية في حياة الجماعة التي كانت
أجهزتها وإداراتها تعمل كخلية النحل، من العمل الطلابي الذي شمل كل مراحل التعليم
المتوسطة والثانوية والجامعية، إلى قسم الأخوات، إلى قسم العمال، إلى المكتب
السياسي والإعلامي، إلى العمل المسجدي بنشاطه الملحوظ..
كان صاحب تجربة عميقة، ونظرة مستقبلية تجاوزت حدود الزمان والمكان، وطاقة التنظيم
فيهما.. كانت ثقته بالله كبيرة، في رعاية هذا التنظيم الرسالي الذي أسسه على التقوى
رجل رباني، هو الإمام حسن البنا طيب الله ثراه.
كان يدعو إخوانه إلى العزم، والتوكل على الله، وألا يربؤوا بالمعوقات المادية، فهي
مذللة بفضل الله تعالى.
كانت تربيته الروحية على أيدي مشايخ حماة، أمثال العارف بالله محمد الحامد والشيخ
محمود عبد الرحمن الشقفة -رفع الله قدره في عليين- واضحة في سلوكه وتفكيره، وقد
برزت في كتابه القيم: في التزكية والسلوك.
القيادي السياسي:
إذا كان الأستاذ الكبير عمر بهاء الدين الأميري -تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه-
دبلوماسي الإخوان السوريين، فإن الأستاذ الكبير عدنان سعد الدين هو سياسيهم الأول
بلا منازع؛ فقد أمضى عمره في العمل السياسي.. وانطلق يثقف نفسه ثقافة سياسية منذ
نعومة أظفاره، فقرأ الكثير من الكتب السياسية، والنشرات السياسية التي كانت تصدر عن
الأحزاب السورية كافة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وما بينهما... فقد شغفه حبّ
السياسة وكتبها، بعد أن أدرك أهميتها في حياة الفرد والجماعة والمجتمع والدولة في
وقت مبكر، فلا مستقبل للجماعة ما لم تشغل السياسة حيزاً مهماً من وقتها، ومن
برامجها، ومن حركتها، فتكون على وعي من حاضرها ومستقبلها، لتكون عصية على
الانتهازيين والوصوليين من الحيتان الذين لا يرقبون في الله والدعوة والوطن شعباً
وأرضاً، إلا ولا ذمة.. وما أكثرهم وما أخطرهم..
وقد أدركنا هذا من الأيام الأولى لتسلمه منصب المراقب العام، من أحاديثه المستفيضة
عن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي المأساوي الذي انتهت إليه الأمور
في سورية، ومن تحليله للأسباب التي جاءت بهؤلاء الطائفيين وأذنابهم إلى السلطة،
وضرورة التخطيط العميق، والتنفيذ الدقيق للخطة المزمع وضعها وإقرارها من مجلس
الشورى.. حتى تكون الجماعة على المستوى الذي يؤهلها للتصدي لهؤلاء ولمخططاتهم
المدمرة.
ولو أن الأمور سارت -حسب الخطة- لكان -والله أعلم- وضع الجماعة غير وضعها الآن،
ولكان وضع سورية الوطن غير ما هو عليه الآن، ولكن... شاءت إرادة الله أن يتعجل
المتعجلون، وأن يشذّ عن الخطة من يشذ، وأن تقع الجماعة والوطن فريسة مخطط طائفي،
مدعوماً بمخطط صهيوني لئيم، خَدَعَ الشعب بشعارات براقة يحبّها المواطن، وفرّط
بالأرض كتفريطه بالإنسان، وهو يزعم أنه ما جاء إلى الحكم إلا ليحرر فلسطين.. زعموا
أنهم سوف يغيّرون التاريخ، فغيّروا الجغرافيا، وزيّفوا التاريخ، وسلموا الجولان
لحلفائهم وحماتهم الصهاينة، وعاشت سورية -وما تزال- في ظلام دامس، على أيدي من جيء
بهم ليكونوا الأسوأ في تاريخ سورية الحبيبة عبر الدهور.
ثمة رجال عاشوا لمبادئ اعتنقوها، وعمروا حياتهم بها، وضحوا بالكثير من أجلها، ودعوا
الناس إليها، وذادوا عن حياضها، فعُرفوا بآثارهم فيها، والأستاذ عدنان سعد الدين
واحد من أولئك الأفذاذ، عمر حياته بجماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها، فكراً،
وتنظيماً، وحركة، فكانت فتوته، وشبابه، وكهولته، وشيخوخته لها، ومن أجلها، وقد توّج
خدماته لها، بهذا الكتاب الذي سوف يقترن اسم مؤلفه به، كما اقترن اسم الأستاذ
الشهيد سيد قطب بالظلال، وكما اقترن اسم الشيخ الجليل محمود عبد الحليم بكتابه
العظيم: الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ.. رؤية من الداخل.. وسوف يقرن
الدارسون اسم عدنان سعد الدين بهذا الكتاب الرصين الذي ننتقل إلى الحديث عنه في
إيجاز لمّاح.
الكتاب:
ليس من السهل التصدي لكتابة مثل هذا الكتاب، وخاصة في هذا المجلد الثالث الذي تحدث
فيه عن المحظور، بصراحة وشفافية، عما أصاب سورية، شعباًَ وأرضاً من كوارث، منذ جيء
بمجموعة طائفية من المغامرين، والمرتبطين بالدوائر الاستعمارية الأجنبية،
ببريطانيا، وفرنسا، وأمريكا، وبالحركة الصهيونية العالمية، وبالكيان الصهيوني
تحديداً، وبلا تورية ولا مواربة..
مؤلف هذا الكتاب لم يلامس العديد من الموضوعات المحظورة، بل تعمق في دراستها،
وبصراحته المعهودة، وقد حشد الأدلة التي تبرهن على صحة ما يذهب إليه، حتى لا يفتئت
عليه أصحاب المفتريات من الطائفيين ومن السائرين في ركابهم.
برغم الظروف الصحية والنفسية الصعبة، وبرغم المعوقات والعقبات الكأداء، وشح
المعلومات، وندرة المتعاونين معه في هذا الكتاب.. برغم كل ذلك، وغيره، أقدم وأجاد،
وبذل جهوداً غير عادية في جمع المعلومات من مصادرها الموثوقة التي تبيّن للناس مدى
الظلم الذي وقع على سورية، وعلى الشعب السوري، وعلى جماعة الإخوان المسلمين خاصة،
في هذه المرحلة الخطيرة التي كشر الذئاب الطائفيون عن أنيابهم فيها.. هذا.. لأنه
يتماهى مع دعوة الإخوان، كما لا يتماهى معها إلا القلة من الأبرار الذين وهبوا
حياتهم لها، راضين بالمغرم دون المغنم، فقد رضع لبانها منذ يفاعته ويفاعتها، منذ
عام 1945 وهو ابن ستة عشر عاماً، وحتى يوم الناس هذا.. فهي روح يسري في كيانه.. في
عقله ولبه، في دمائه، في مشاعره وأحاسيسه، يدافع عنها، ويؤلمه ما يؤلمها، ولو كان
شوكة تشاكها، ويأسى لما أصابها ويصيبها، ويأرق لحالها ولما يلمّ بها، ويقلق
لمستقبلها، ويضحي بوقته، وصحته، وماله في سبيلها، فهو منها وإليها.. ولذلك بادر إلى
إنصافها، وإنصاف رجالاتها من الرواد والدعاة والمجاهدين والمفكرين والشهداء..
يتحدث في هذا الجزء الخطير من الكتاب، عن مرحلة من أخطر المراحل التي مرت على
سورية، من انقلاب آذار 1963 حتى عام 1977، وفيه ما فيه من الوثائق والأدلة
والبراهين عن العلاقات الوثيقة بين النظام الطائفي في سورية، وبين الصهاينة الذين
تبنوه منذ انطلقت الدبابات من الجبهة مع إسرائيل، ليقوم انقلابيو آذار بانقلابهم في
دمشق، وإسرائيل تحمي ظهورهم، ولا تهتبل هذه الفرصة التي لا تسنح لعدو، فتنقض على
الجولان الذي خلا من أقوى الألوية فيه، لأنها تريد التمكين لهؤلاء.. وقد عاهدتهم
وصدقتهم في الالتزام بما عاهدتهم عليه.
حصل هذا والشعب السوري، وأبناء الأمة العربية في ذهول مما يجري، والبسطاء،
والمنافقون، والوصوليون ارتضوا أن يكونوا مطايا ذليلة لأولئك الانقلابيين، وكثير من
السياسيين، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أسهموا في تكريس الانقلاب، ويتحملون
مسؤولية تاريخية كبيرة، بما فرطوا بحق الوطن، أرضاً وشعباً، وقيماً.
والذين (يُخدعون) بالحرب الإعلامية الإعلانية التي تشنها أبواق النظام في دمشق، على
إسرائيل، لن يغفر لهم الشعب السوري هذه (الغفلة) التي ما أرادوا بها وجه الله، ولا
مصلحة الشعب السوري المظلوم، ولا خدمة القضية الفلسطينية، ولا الوطن العربي، ولا
الأمة الإسلامية.. وهناك كتّاب ومحللون وصحفيون غربيون، وقوميون عرب، ووطنيون
أحرار، شهدوا بهذه العلاقات الحميمة بين النظام الأسدي، وبين الصهاينة، كما تحدثوا
عن حماية الصهاينة لهذا النظام الملعون الذي سنّ القوانين التي تمنع أيّ سوري أو
فلسطيني من تعكير أمن إسرائيل، وبهذا كانت الجبهة السورية-الإسرائيلية، أهدأ جبهة
بين (عدوين) لعدة عقود.
إذن.. هذا الكتاب –بجملته- هو تأريخ حقيقي ومهم لسورية، منذ نهاية الحرب الكونية
الأولى، وحتى يوم الناس هذا، والإخوان المسلمون جزء مهم من حياة سورية الشعب
والأرض، وقد تماهى الكل في الجزء حيناً، والجزء في الكل في أكثر الأحيان في هذا
الكتاب، فأنت تحسب أنك تقرأ عن الإخوان، فيما أنت تغوص في تاريخ سورية، وما اعتراها
طوال ابتلائها بالصهاينة في برّانيّها، وبالبعث الطائفي الحاقد في جوّانيّها.. وكلا
العدوين لئيم في عدائه، خسيس في وسائله وأهدافه، ماكر في حيله التي انطلت حتى على
من كنا نحسبهم كباراً في وعيهم، ودينهم، ووطنيتهم، وقوميتهم، فقد (غابت) باطنية أسد
وطائفية نظامه عنهم، فسهل عليه خداعهم (بتوازنه الاستراتيجي) ثم بسلمه
الاستراتيجي.. ولكنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. والشعب
السوري كله مضبوع.. من (مجلس الشعب) إلى (مجلس الوزراء) إلى القيادتين: القومية
والقطرية، إلى (القيادات) العلمانية والوطنية.. أخذهم أسد بالترغيب.. بشراء الذمم،
ومن استعصى عليه بالترغيب، أخذه بالترهيب، وكانت ميليشياته المسلحة بالمرصاد لكل
معارض، وكانت أجهزته القمعية أشدّ وطئاً، وأحدَّ سيفاً، فأوعز بتعميم الفساد
والإفساد، وجوّع الشعب، وسلّط الأشرار على الأحرار، وأنشأ السجون بدل المدارس
والمصانع، وعاش الناس في ذعر لا يُصدَّق، وإلى درجة الذهول عما ينبغي عليهم أن
يعملوه لإنقاذ وطنهم من الضياع، بعد أن ذاقوا هم وأبناؤهم الأهوال في ظلمات
الزنازين، وأقباء التعذيب..
جاء أسد لنشر ثقافة الكراهية، ثقافة الطائفية، ثقافة التمييز بين العلوي وغير
العلوي، وبين العلوي من عشيرته، والعلوي من العشائر الأخرى، فسادت الكراهية بين
أبناء الشعب الواحد، وصار كلٌّ يتربص بالآخر، والكل يتطلع إلى الشرارة ليحرق أبناء
الشعب بعضهم بعضاً، ويضيع الوطن، وتتسع ابتسامات اليهود، وتعلو ضحكاتهم، وهم يرون
ربائبهم يسوطون أبناء سورية الأحرار بسياط من نار، ويزجونهم إلى المحرقة الطائفية
التي ستأتي عليهم جميعاَ.
ألغى النظام الأسدي سياسة تكافؤ الفرص، فالبعثات الدراسية، والكليات الحربية،
وكليات البوليس، حكر على فئة دون سائر فئات الشعب من غير العلويين.. ونشر ثقافة
القهر، والقتل، والنفاق، والاستبداد، وخيانة الوطن، وخيانة الأقرباء والأبعداء على
حدّ سواء..
فالآن.. لا محبة، لا تصافي، لا تواد، لا تراحم، بل تباغض، وتحاسد، وتحاقد، والكل
ينتظر الساعة التي يثأر فيها من ظالميه.. من الذين قتلوا أباه، وأذلوا أخاه،
وانتهكوا عرضه، وانتهبوا ماله، واغتصبوا أرضه.. كل هذا وأضعافه تطالعه في هذا
المجلد الذي اتسم بالصراحة وبالبعد عن المواربة، وتطالع رصداً أميناَ وموثقاً
لحوادث خطيرة كثيرة تمسّ سمعة (زعامات) مدانة بالتفريط بالوطن.. من سوريين،
وعراقيين، وأكراد وسواهم..
وفي الكتاب تأريخ لمنطقة الشرق الأوسط، وللحوادث الرعيبة والمثيرة فيها، وليس مجرد
مذكرات وذكريات حول جماعة الإخوان المسلمين في سورية، كما جاء العنوان.
إن أي باحث في شؤون الشرق الأوسط، ناهيك عن سورية، لا بد ّله من الرجوع إلى هذا
الكتاب، لأن المؤلف كان على دراية بل وإحاطة بما كان يجري في تلك الحقبة الشديدة،
ومراحلها الدقيقة من حياة سورية، بحكم اهتماماته السياسية والدعوية، فقد وعى
مجرياتها بذكاء السياسي الداعية، أو الداعية السياسي الذي لا يقف عند المظاهر
والسطوح، بل يغوص إلى أعماق الحوادث، ويلم بما سبقها، وما سوف يلحقها، ويحلله،
ويختزنه في ذاكرته التي تلتقط الشيء فلا يفلت منها.. وخاصة مخططات الطائفيين التي
أعملت معاولها في تمزيق النسيج الوطني لسورية.. تمزيق شعبها الذي ما عرف شيئاً عن
الطائفية الباطنية، إلا بعد انقضاض هؤلاء الأشرار على دمشق، ووأد ما كانت تتمتع به
من حرية، وتعاون، وإخاء، وتسامح كانت فيها كلها مضرب المثل.
الخطة العامة:
لابدّ لي من كلمات موجزات حول الخطة العامة التي كتبتها اللجنة المشكلة لها،
وناقشتها القيادة، وأجرت عليها بعض التعديلات، ثم ناقشها مجلس الشورى، وأجرى
تعديلاته عليها، ثم اعتمدها، وسارت الجماعة على هداها، وقد أثبتها المؤلف في آخر
كتابه، لتكون شاهد صدق على المرحلة الذهبية التي عاشتها الجماعة.
1- كانت نقلة نوعية من المرحلة العكاظية، إلى مرحلة البرمجة والتخطيط.
2- برز فيها ما كان يدعو الجماعة إلى التطور السلمي في الفكر، والتربية، وبناء
المؤسسات.
3- ظهر فيها التحذير من انجرار الجماعة إلى أي صدام مع النظام البعثي الأسدي، تحت
ضغط أي ظرف، مهما بلغت استفزازات النظام من الوقاحة، والعنف، والشدّة.
4- اعتمدت تربية الجماعة فيها على تجربتين.
الأولى: التجربة النبوية -إن صحّ التعبير ولم يقصّر- تلك التي أرسى دعائمها الرسول
القائد، وخلفاؤه الراشدون الهادون المهديون.
الثانية: وهي تجربة حديثة، وضع أسسها مؤسس الجماعة ومرشدها: الرجل الرباني حسن
البنا، واستمدها من التجربة النبوية، وسارت الجماعة على خُطاها، مع الأخذ بكل
متطلبات العصر ومستجداته.
وصلى الله وسلم على سيدي وقائدي ومرشدي محمد رسول الله، وعلى آله الأطهار، وصحبه
الهداة الأخيار الأبرار، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم...
والحمد لله الذي بفضله ونعمته ورحمته تتم الصالحات.